نبيل محمود - قريباً من البحر.. بعيداً عن النبع *

37.jpg

تدفّقتُ من سفح جبلٍ رمادي، ترقرقتُ بعذوبتي الصافية بين الصخور العارية، شربتُ زرقة السماء حتّى تلألأتُ كالبلور الجاري. عزفتُ بخريري أنغامي الهامسة تحت ظلال أشجار البلّوط والجوز. كانت عرائسي تعانق خيالاتها وتراقص الضوء المتسرّب من أعالي الأشجار.. دوائر فالسٍ وسورات هيامٍ وكركرات فجرٍ.. هي البهجة تفرك عيونها وتستيقظ في الجانب الشفيف من الوجود وتتجمّل بمرايا الماء.. نزلت الصبيةُ متجرِّدةً من لباسها الإنسي وغمرت جسدها في جسمي الشفيف. التمع الحباب على زغبها الذهبي. دعكت رمانتيها ودعست زهرتيهما. تسلّلت أناملها الوردية لتقرص زنبقتها الغافية، فتفتّحتْ وردةٌ قانيةٌ في الأثل الكثيف.. ذاك كان عرسي الأول.. تناثرت قطراتي المتوهّجة مختلطةً بضحكاتها المتكسّرة...
كي تُبدعَ فردوساً فجّرْ نبعاً واغمسْ حوريةً يانعةً فيه...

ستغور أيها الماء في كدر التراب وستلتجئ هارباً إلى عروق الأشـجار. ستروي شفاهً ظامئةً وتبلّل أطراف العشّـاق،
عند ضفافك أينما توجّهت وتطفئ جذوات الأشواق.. لكنّك ستفقد عذريتك وستفتقد صورتك العذبة الأولى...
أنْ تبدأ يعني أنّكَ قد انخرطتَ في نهايةٍ ما، وأنْ تولد يعني أنّك قد استثَرْتَ شهيّة الموت...

رشفتني البلدة الأولى بنهمٍ وصلافةٍ، ولوّث جدوليَ الصغير رجالٌ ملتحمون بحيواناتهم، يذرون القشّ عليّ ويمزجونني بالتراب ويملُطون سقوفَهم بالطين.. حملتُ ما حملت من أوساخ ملابسهم، وسخام قدورهم التي تجلوها الأيدي الخشنة لنسوتهم المتلفّعات بالسواد، تفركْنها وتركلْن مويجاتي المذعورة بأقدامهن المتشقّقة.. لكنّني سرّبْتُ، سرّاً، بعض عذوبتي إلى جذور الحشائش وعروق الأشجار الساهمة بمللٍ صيفي..

قد تكون الخسارات في البداية طفيفةً، لكنّك ما أنْ تنخرط في اللعبة، فلا فرصة لك في تركها أو كسبها. في النهاية ستمنحها زهوك وزهرتك مقابل اللعب.. وشهوة الربح ستجعل رهانك على الحظ ورطةََ عمرك، وخياراً زلقاً سيزحلقك أخيراً، مهما وبما تشبّثتَ، إلى قعر سكونٍ معتم.. ما دمتَ قد وُجِدتَ فعليك مشاغلة العدم كي لا يبتلعك فوراً ودفعةً واحدةً. عليك أن تمطّ وجودك إلى عتبة الأبدية، رغم حفرة الغراب التي تنتظرك. فمن ينهمك في شهوة الماء، سيتبلّل ويذوب حدّ التلاشي. لكنّه سينقش أهواءَه في ذاكرة الأشياء، وتلبث أشواقه كامنةً في أعماقها تنتظر لحظة تدفّقها العارم..

اصطحبتُ الجداول الأخرى ومضينا كنهرٍ واثقٍ إلى المدينة، ما زالت عذوبتي تستهوي العشّاق والأشجار. لم يخْطر ببالي أنْ تُقابلَ هباتي وعطايايَ للعالم الأخضر بهذا الجحود الأسود.. وتعود إليّ كالسيل الجارف من المخلّفات والنفايات والزيوت والمياه الثقيلة!. شعرتُ بالاختناق عند السطح فغطستُ إلى الأعماق. جرحتني شظايا الزجاج والقناني والمعادن الصدئة.. اعتقدتُ دوماً أنّ مائي يطفئ كلّ نارٍ ويغسل كلّ جرح. لكنّ بعض الحرائق وبعض الجروح بدّدتْ إيماني الساذج هذا.. غادرتُ المدينة مخذولاً ومحمّلاً بقذاراتها وبذاءاتها..

يفشو القبح المسلّح وينزوي الجمال الأعزل، يرتجف خوفاً ويرتعش رعباً، يختبئ تحت جناح فراشةٍ أو يلوذ بظلّ وردة.. تنهار أعمدةٌ وتتهاوى صروحٌ. تتطاير الأرواح شظايا وبقايا أحلامٍ مهشّمة. تنفلت الشياطين وتنطلق الجنيّات من هشيم الماضي وهشاشة الحاضر. يفرّ الجمال بعيداً عن قسوتكم وبشاعتكم ووحشيتكم. توصدون الأبـواب وتغلقون النوافذ فمن أين لكم بضوء شمسٍ أو هبّة نسيم؟ تحشرون المدينة بين الأمس والأمس، تنتفون ريش الحمام وتطردون بفزّاعتكم الشمطاء أسراب الحرية والسلام. دروبكم حمراء وسماءكم حمراء وقلبكم أسود. ما أنتم سوى ظلال أطيافٍ وأشباح موتى.. فكيف تطمحون بقبلة نجاةٍ والحب يهجر مدنكم والدخان يحجب سماءكم؟.. أيّ نهرٍ سيتحمّل هوجكم ويغسل أدرانكم؟

يئستُ من البلدات الفظّة والمدن الصغيرة التي لم تبلغ الرشد بعد. انحدرتُ والنهر العظيم نحو المدينة الكبيرة. استرجعتُ بعض عذوبتي وولجتُ المدينة عند الغروب. كان هدوء المساء وخفوت الضياء ينذر بليلٍ خبيث.. منذ نبعتُ وأنا أخشى الصمت وأخاف الظلام. لذْتُ بحضن النهر منتظراً شمس الصباح..... لذلك أخشى الصمت وأخاف الظلام! فبعد منتصف الليل همْهمتْ أشباحٌ ومرقتْ أطيافٌ على ضفتي النهر، وقبل سقوط كلّ جسمٍ في النهر كان يمزّق الصمتَ والظلامَ صوتُ رصاصةٍ قاتلة!.. ضممتُ نفسي إلى نفسي وابتعدتُ عن الضفتين واختبأتُ في أعماق النهر.. بدأ سائلٌ لزجٌ حامضي وملحي المذاق يتسرّب إليَّ، تقيّأتُ كلّ عذوبتي. بين الحين والحين كانت ترفسني قدمٌ يائسة بقوةٍ، وتعتصرني أصابعٌ مستنجدة. قضيتُ ليلتي مع المزيد من الأجساد، والسوائل اللزجة ازدادت كثافتها وحموضتها وملوحتها.. انقطعتْ كلّ صِلاتي بالنبع وامتزجتُ بكيان النهر، سمعتُ الأسماك الساذجة تلوك نتفاً برائحةٍ نتنةٍ لأعضاءٍ بشريّةٍ متحلِّلة.. انتظرتُ الشمس بعد ليلة الرعب.. للضياء الكاشف وقْع الصدمةٍ المروّعة أحياناً. كان ضياء الشمس يخترق بعناءٍ الأجساد الطافية على السطح ليصل إلى أعماق النهر. نفرتُ ونزلتُ إلى القاع.. فهالني ما رأيتُ من بقايا الليالي القديمة.. كان قاع النهر مكتظّاً بالجماجم والسلاميات الغاطسة منذ زمنٍ طويل... لم يكن بوسعي تحاشيها كلّيّاً، كان لابد لي من المرور من فك جمجمةٍ والخروج من قحفها المثقوب! والتملّص بصعوبة من بين أكوام السلاميات.. هرب النهر بسرعةٍ متجاوزاً هذه المدينة الملعونة، كان يريد الإنصباب في البحر والتطهّر بملحه... لم يعد للعذوبة أيّ معنى...!

أيّ مكرٍ وأيّة سخريةٍ مريرةٍ تجعل الكائن الأذكى يمتلك كلّ هذا القدر من البطش والوحشيّة؟ وأيّ سرٍّ يمنحه هذه القدرة على اجتذاب شرور الكون؟ الكلاب والطيور وكلّ الدواب تهرع مفزوعةً لتفرّ من أماكنه المتفجّرة... يُفحّم كلّ قطعةٍ من العالم الأخضر، ويلوّث كلّ قطرةٍ سائلةٍ من العذوبة ببشاعاته وقذاراته.. وخياله الخلاّق يرفع صرحاً عظيماً هنا، ليحفر هاويةً من تعاسةٍ وهولٍ هناك.. أيّ تناقضٍ يحرّكه وأيّة مفارقةٍ تلتهمه؟ لا يكفّ عن الهذيان: (إنّني واقفٌ والعالم يمرّ بي، إنّني خالدٌ والآخرون يظهرون ويزولون.. الشمس تدور حولي وأنا مركزها.. أتمركز باستمرار فسحقاً للهوامش والأطراف.. أنا المركز الخالد سأمكث هنا إلى الأبد.. ومن حولي تدور وتمضي كل الكائنات والأشياء..).. ويظلّ يهذي ويهذي.. المركز حلمه ووهمه، يتجاهل وجوداً حافلاً ومتنوّعاً بلا مراكز ولا هوامش بلا نقطةٍ ولا محيط.. الكل يكافئ الكل ويعانقه.. أيّة صدمةٍ ستوقظه وتخلّصه من هذيانه ووهمه؟..

تدفّقتُ تدفّقاً حرّاً بعذوبتي الأولى، كنتُ أُمنّي النفس ألاّ أرتكب حماقةَ الانحباس في نقطةٍ أو مستقيمٍ أو دائرة، وأن أتفادى الغرورَ الهندسي! وأنْ أظلّ مستغرقاً بلانهائية أشكالي وطلاقتي وانسيابي الخلاّق.. لكنّني انزلقتُ إلى النهر، وكان ما كان من رحلة فقدان ذاتي وتبدّد عذوبتي، ضيّعتُ عذوبتي وفقدتُ فجر نبعي البعيد.. كان البحر الشاسع يهدر بأمواجه ..كان ينتظرني كالقدَر اللازوردي ليحتضن وجعي الأبدي.. فضّلتُ أن يبتلعني هوج البحر على أنْ يحتجزني رعب تلك المدن الملعونة الموبوءة... الملـح هو الحل؟!... نعم هو الحل ضد ذلك الوباء..... هذا الكائن الملحي اللانهائي سيحفظني...... ويخلّصني بملحه ممّا علق بذاكرتي من أهوال البشر وبشاعاتهم.
وكما أنّني لم أختر ولادتي فإنّني سوف لن أشهد موتي.. سأنسى ما حلّ لي بعيداً عن النبع.. البحر.. البحر.. البحر سينقذني.. إلى أنْ تلتقطني غيمةٌ ما وتمضي بي إلى نبعٍ جديد.....




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أحد نصوص تفاحات إيروس.

تعليقات

أنْ تبدأ يعني أنّكَ قد انخرطتَ في نهايةٍ ما، وأنْ تولد يعني أنّك قد استثَرْتَ شهيّة الموت...

هذه واحدة من التأملات التي تجعل القراءة للقاص نبيل رحلة ذات عمق خاص..

يقدم النص نظرة حكائية ذات هم وجودي، تحاور الموت و مدى قدرتنا على صنع الحياة.. بمقربة منه، و إلى جانبه، مادام الفرار من قضبته مستحيلا، كُتب النص بلغة شعرية آسرة، ضمن مسار حكائي منفتح على التأويل...

قد تحملنا القصة لعالم القاص نبيل ذي الأسئلة الكثيفة المتشابكة الأغصان، و ربما لبلده أيضا، حيث المسافات بين واحات النخيل و مزاريب العالم السفلي، صارت أضيق من أي وقت مضى.

للغتك أخي نبيل سطوة و قوة بيان و شعرية ذات عمق و قدرة على خلخلة الجاهز من البداهات..
 
و ربما لبلده أيضا، حيث المسافات بين واحات النخيل و مزاريب العالم السفلي، صارت أضيق من أي وقت مضى.
وبالتأكيد لبلدي أيضاً!.. الممرغ بكوابيس الماضي والحاضر الذي استبدل جمال وضياء الحياة ببشاعة وظلمة العوالم السفلية..
بوركت أستاذ جبران وبورك مغربكم الجميل وسلم من (اللوثة المشرقية)!...
تحياتي..
 
أعلى