أحمد بوزفور - كُعُوبُ أخِيل في تجربتي: اللغة، المعرفة، البناء

هل يمكن الحديث عن كتابة قصصية جديدة بالمغرب؟
نعم· يمكن ذلك بالتأكيد· إن العدد الكبير نسبيا من الأسماء والمجموعات القصصية والنصوص التي ظهرت في السنوات الأخيرة، والاطراد المتنامي في الجمعيات والأطر التي تشتغل بالقصة، وفي المهرجانات واللقاءات التي تعقد حولها··· كل ذلك يوحي بأن هناك كتابة قصصية جديدة تبرز هذا الزخم من النشر والاشتغال والحفاوة والاهتمام·
ثم· يمكن ذلك بالتأكيد· لكن ماهي ملامح الجدة في هذه الكتابة؟ وماهي الإضافات التي قدمتها وتقدمها الى متن القصة المغربية الحديثة؟ هل هي كتلة قصصية واحدة تتسم بالخصائص نفسها وتصدق عليها الأحكام نفسها، أو هي كتل وتيارات ومدارس مختلفة الخصائص أو متفاوتة القيمة أو متباعدة الاتجاه؟
نعم كان الكتاب الجدد أنفسهم قصاصين ونقادا أقدر على مقاربة هذه الاسئلة والإجابة عنها· وسنستمع إليهم في ندوات هذا الملتقى·
ما سأتحدث عنه في هذه المداخلة هو فقط جانب من تجربتي في كتابة القصة· ولا أعتقد ان هذا سيكون خارجا عن موضوع الملتقى، لأنني أنا أيضا أحد الكتاب الجدد الشبان، بمعنى من المعاني· وإذا تركنا جانبا مسألة العمر، وهي مسألة هامشية، فإنني أعتبر نفسي شابا في الكتابة لأمرين اثنين على الأقل:
الأمر الأول هو أنني لا أومن بخرافة الكاتب الكبير والكاتب الصغير· هناك كاتب أو لاكاتب·
والأمر الثاني هو أنني قلق متقلب هاو وتجريبي· وأحس أنني أبدأ مع كل نص جديد أكتبه·
ايهاالكتاب الجدد:
بهذه الزمالة الفنية، اسمحوا لي ان أطرح أمامكم كعوب أخيل في تجربتي، أعني نقط ضعفي التي أخاف منها، أو العقبات التي تتحداني كلما شرعت في الكتابة·
أولى هذه العقبات هي اللغة: لا يهم إن كنت أكتب بالعربية الفصحى أو بالعربية العامية أو بالأمازيغية· المهم هو أن أعرف الطاقات الهائلة التي تزخر بها لغتي حتى أستثمرها وأوظفها، وأعرف حدود لغتي الطبيعية لكي أقف ضمنها أو لكي أتحايل عليها أو حتى لكي أخرقها· إن الكاتب الفنان الذي يمتلك اللغة ويعرف طاقاتها وحدودها يمكن ان يحول حتى الحاجز اللغوي الى إنجاز فني حين يبدع في اللغة ولا يبدع بها· القصة مجرد بصلة، لا لب لها· هويتها في قشورها، وفنها في لغتها، ولبس في جبتها إلا جبتها· وقائعها لغة، وشخصياتها لغة، وفضاؤها لغة، وزمانها لغة، وبناؤها الفني لغة، وبدون امتلاك اللغة التي نكتب بها، لا نستطيع ممارسة اللعب السردي أو بناء التناصات أو تشكيل الرموز· لا نستطيع تفجير أرهف الإحساسات في نفس القارئ إلا بامتلاك أرهف الأدوات اللغوية: (حروف المعاني مثلا: تلك التخوم التي يتداخل فيها النحو والبلاغة واللسانيات والأسلوبية)· (تركيب الجملة مثلا: ذلك المعمل الذي تتم فيه صناعة الصمت، بأدوات الوصل وا لفصل، بالتقديم والتأخير، بالحذف والإيجاز) بدون امتلاك هذا المعمل السحري (التركيب)، لن نستطيع ان نصنع باللغة ذلك الشيء القصصي (الصمت)· لن نصنع إلا الثرثرة أو السكوت، ولا علاقة لهما بالقصة·
يقولون إن ما يحتاج إليه كاتب القصة بالدرجة الأولى هو الخيال· لكن هذا هو ما يحتاج إليه الشاعر أيضا، والروائي أيضا والرسام أيضا، والمهندس أيضا، وكل إنسان أيضا· ما يحتاج إليه كاتب القصة في الحقيقة هو الطريقة القصصية في تشكيل الخيال: تعبئته في كأس لغوية ثم تفجيره في وجدان القارئ بهذه الكأس اللغوية نفسها· ولن يمتلك هذه الطريقة إلا بالتكثيف الذي يميزه عن الروائي، وبالدقة التي تميزه عن الشاعر· التكثيف والدقة قطبان كالماء والنار لا يجتمعان إلا في يد خبير باللغة: طاقاتها وحدودها·
اللغة: هذه الامداء الهائلة الاتساع، والعميقة الصمت والفاتنة الجمال: ترعبني· أحسني دائما طفلا أمامها· أحبو في حجرها وأرضع من ثديها، واحس دائما ان القصة تحت أقدامها، وعلي باستمرار، لكي أكتب القصة، ان أتابع تعلم اللغة، وان أعيد تعلم حتى ما سبق ان تعلمته منها·
أيها الكتاب الجدد: القصة مدرسة لغة، ونحن كلنا تلاميذ في صفوفها الاولى·
العقبة الثانية هي المعرفة: وأنا لا أعني بها هنا معرفة المعلومات رغم ضرورتها، معرفة المعلومات وحدها معرفة متعالمة، تطفو على سطح الكتابة القصصية كـ "السكوسات"·
ما أعنيه هنا هو المعرفة / الزناد، المعرفة التي تقدم في نفسك شرارة الابتكار، حين تدفعك الى التأمل، وتحرضك على التفكير، وتستفز فيك غريزة المعارضة والنقد، وتستنفر في أعماقك كل قدراتك ومواهبك لتبدع شيئا جديدا كليا، وخاصا جدا، لايكرر المعرفة المتلقاة ولا يحاكيها· لأنها لم تكن الا زنادا قدح النار الكامنة في نفسك· لايهم إن كان هذا الزناد كتابا فكريا او قصيدة شعر او قطعة موسيقى او اسطورة او تجربة حب· المهم ان يوقف آلية الحياة اليومية في أدمغتنا، ويجعلنا نتأمل او تحلم او نتخيل ، يجعلنا نبدع· هذا النوع من المعرفة هو الذي يعطي للقصة عمقا· يجعل دلالتها اكبر من مجموع كلماتها، لأن وراء كل كلمة (حوشا) خلفيا من الدلالة المرهفة لايتقن غرسها فيه الا الكاتب (الرقايقي)··
والكاتب الرقايقي هو الكاتب الذي يعرف أولا ويعيش ثانيا، ويستفيد مما عرف وعاش ما يحول به، كالنحلة، كل عشية في غابة الحياة الى شهد في القصة القصيرة·
لذلك أحس أمام هذه الضرورة المعرفية أنني ساذج، وأنني (خُبري)، وأن بين السماء والارض أكوانا من المعرفة لاتسعها اكوابي، فأتأدب واتضع· وأتابع التعلم·
أيها الكتاب الجدد، القصة فن مضمون به على غير أهله· ولكي نتأهل··· علينا أن نستقطر هذه المعرفة الزناد: معرفة النار، من كل ما قرأناه او عشناه او تخيلناه·
العقبة الثالثة هي البناء : لكل فن شكله الجمالي الخاص· وداخل كل شكل من هذه الاشكال تتنوع التشكيلات وتتطور حسب قدرات الفنانين ومهاراتهم، وحسب اكتشافاتهم وابتكاراتهم· والقصة بدون شكل جمالي مجرد حكاية، كيف يمكن بناء الشكل القصصي؟ كيف أربط البداية بالنهاية او العنوان بالنص؟ كيف افتق العلاقات الخفية بين أجزاء النص وعناصره؟ كيف أخلق بين كلمات القصة نسبا وصهرا بحيث تقطع الكلمة المفردة كل العلاقات مع أي مرجع خارجي، وتؤسس هويتها ومرجعيتها ودلالتها بالاعتماد فقط على الكلمات الاخرى في النص؟ كيف أجعل القصة كائنا حيا له ذاكرته الخاصة التي كونتها كلماته نفسها؟ ماذا أفعل لكي تكون قصتي بحيرة مستديرة ليس لها مدخل ولا مخرج· لها فقط سطح خارجي بارز، ولكنه حي متحرك مترقرق، وتحته أعماق بعيدة الغور تسكنها حيتان وجواهر وجنيات·
هذه الاسئلة وشبيهاتها تؤرقني كلما غامرت بالكتابة، ولا أجيب في الغالب عن كل سؤال إلا ببعض جواب، لكن كل نص أكتبه يعمق إحساسي بأهمية الشكل الجمالي: أهمية استقلال النص وتعالق أجزائه، أهمية ان نقسو أحيانا على كلماتنا / بناتنا لكي نربيهن، ان نتصرف بالتعديل والتغيير والشطب و الاظافة والرفع والوضع حتى ينهكنا الغبار والعرق والتعب·
لأن ذلك هو ما يجعل القصة فنا، هو منبع المتعة الجمالية التي تفيض علينا في بعض النصوص الجميلة حتى لنحس ونحن نقرأها أننا عراة نستحم، ونحس ونحن ننهيها اننا آخرون، واننا جدد، وأننا مشرقون كسماء غب مطر·
أيها الكتاب الجدد··· أيها السحرة· القصة حصاة، والشكل الجمالي ماؤها·
فاضربوا بعصاكم الحجر حتى يشقق وحتى تنفجر منه العيون·
ايها الكتاب الجدد، تعالوا نكن جددا فعلا، ليس بأن نكتب لأول مرة، ولكن بأن نكتب شيئا لم يكتب مثله من قبل·
إنني أعرف - وبأي ثمن عرفت - أن صعوبة ذلك لاتكمن فقط في ضرورة ان نقرأ من سبقونا لكي نستطيع تجاوزهم، بل تكمن أيضا في كعوب أخيل الثلاثة هاته: جدراننا الزجاجية التي تمنحنا الرقة والرهافة والشفافية، وتمنعنا في نفس الوقت من أن نضرب الآخرين بالحجارة·

(*) نص المداخلة التي ألقاها القاص أحمد بوزفور خلال افتتاح أشغال الملتقى الأول للابداع الجديد،دورة القصة بالمحمدية·


3/6/2006

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى