عبدالله البقالي - المحاكمة.. قصة قصيرة

- لا ... لا تصدقه ايها الطبيب ، انه يمثل .. يبحث بأية وسيلة عن فسحة.
رفع الطبيب رأسه و نظر الى الحارس وقال :
- فعلا انه في طريقه الى فسحة ، لكنها أوسع بكثير مما تعتقده .
تسمر الحارس في مكانه وقال :
- أتعني أنه .....؟
- نعم . لكن كم قضى هـذا السجين هنا ؟
- ستة وعشرين يوما .
- فقط ؟
- انه سجين جديد قديم .
- يظن من يراه أنه قضى حياته كلها هنا .
- ألم أنصحك في البدء حين قلت لك أنهم يتصنعون هـذه المظاهر الخادعة من اجل استجداء العطف؟.. تصور انه لا يكف عن الصراخ و الهذيان طوال الوقت.
- لا ، قد يصدق هذا على البعض ، انما بخصوص هـذا فحالته مزرية فعلا.
خرج الرجلان . تمدد السجين غير آبه بأحد . سمح لذهنه كي يتمرد على المكان . جال الحاضر و الماضي وحاول أن يفتح شرفة على المستقبل . لكن لم يتبين له شيئا تلك المرة . ثم دون ان يدري من اين ، انبعثت صورة ذلك اللعين أمامه . رآه . انه هو " جون بيير " اللعين . الضابط الذي كان تحت إمرته . رآه بأم عينيه يخرج الرصاصات التي كان قد اودعها جسده ورمى بها الواحدة تلو الأخرى في وجهه . أشار اليه ان يتقدم نحوه . انذهل . لم يصدق . ليس معقولا بالمرة ما يجري امامه . بدأ يصرخ :
- أبعدوا عني هذا اللعين ، هذا الخائن . هـذا اللئيم ...
ايقظه الحارس و اخرجه من اغفاءته . نهره صائحا :
- ألن تكف عن هـذه الحماقات ؟ حملق في الحارس ، ثم تفحص المكان جيدا و قال بثقة :
- لا ... لقد كان هنا ..
ازداد حنق الحارس وقال بحدة :
- من الـذي كان هنا ؟
- الذي قتلته هناك . انفعل الحارس وقال مادا كفه باتجاه وجه السجين :
- كف عن هـذه السخافات و الا......
تاكد من انه كان يهـذي . أحس بضعفه . جذب الفراش . غطى راسه وراح في اغفاءة اخرى . كان كل شئ على ما يرام عندما بدا ذلك القصف من كل الجهات . انتظر مع سائر الجنود اوامر الرد على الهجوم . اعتقدوا أن ذلك الصمت يدخل في اطار خطة عسكرية . وعندما بدأوا باطلاق النار بشكل عفوي كان قد فات الاوان ومات أعز رفاقه وهم يغطون انسحابه . أحس أنه مطالب بالوفاء لدمائهم . لم يعرف كيف وصل الى مكان قائد الموقع . لكن الـذي ظل يذكره هو تلك الهيستيرية التي انتابته وهو يمطر القائد وابلا من الرصاص و الموت وهو يردد :
- يحق لأي كان أن يخون نفسه ، لكن لا يجب أن تكون حياة الآخرين ثمنا لخيانته . لكن " جون بيير " لم يمت ، ها هو يحمل سوطا ويهم بجلده . يصرخ مجددا و كانه لا يزال يعيش لحظة مصرعه :
- لست انت من يفعل بي ذلك أيها اللئيم . أنا اشرف منك .. لن اسمح لك بذلك ابدا ..لا ..لا ..لن اسمح .. لن اسمح...
كان صوته قد غطى مساحة واسعة وتجاوز الممر الـذي يفضي الى زنزانته حين اقتحمها حارسان حاولا بكل جهودهما أن يعيداه الى سريره . وبعدها عمل الممرض على حقته بحقنة مهدئة . جلس بجواره وهو يراقب مفعولها ثم سال السجين.
- هل أعمل على نقلك الى المستشفى ؟
- ماذا يميزها عن هـذا المكان ؟
- أشياء كثيرة . الاكل ، الفراش ، المعاملة ..
- هل يستطيعون هناك ان يقدموا لي بعض الكحول ؟ - لا .. لا اعتقد ذلك .
- اذن دعني في مكاني ولا تهتم بامري .
غادر الممرض الغرفة . بقي السجين هادئا . قفزت لذهنه صورة امه . لم يحاول أن يتذكر أباه لأنه لم يره قط . لكن عوضا عن ذلك استحضر صورة اخته . لم ينس موقفها منه حين عاد من هناك بلا مال و لا نياشين و لا امجاد الا من المجد الـذي يعترف به لنفسه . لكن ليست وحدها من فعل ذلك . كل الذين عرفوا حكايته دفعوه لكي يدين نفسه غير انه ابى . انه تصرف وفق ما تمليه المروءة.
- لا .. لا .. لم اكن مخطئا
- بل انت الخطأ عينه ... لقد اخطات ، وها أنت تخطئ ، وانت موجود الآن هنا كي لا تخطئ مستقبلا .
توقف السجين متأملا نبرة هـذا الصوت المنبعث من بين جدران الزنزانة . انه يشبه تماما صوت الشخص الـذي استنطقه في آخر قضية حوكم فيها . أحس باستفزاز متزايد و رد بحدة
- لا .. لم اكن مخظئا .
رد الصوت بهدوء :
- لو لم تقتل ذلك الضابط أكنت ستحتاج ان تبيع الخمر كي تعيش ؟
تضاعف الاحساس بالاستفزاز ورد بحدة :
- لكنه خان وطنه وخاننا .
عقب الصوت بهدوء وتان :
- تـذكر أنك ذهبت الى هناك كي تبحث عن لقمة عيش لا كي تحاسب رؤساءك عن اخطائهم ..
- لكن حياتي وحياة الاخرين كانت هي ثمن تلك الخيانة .
رد الصوت مستنتجا :
- ماذا جنيت اذن ؟
- وماذا تجني الآن ؟
قهقه السجين عاليا و قال :
- ظننت يوم صفيت ذلك الضابط أني انهيت حساب علاقة كانت تخصني وتخصه ، لكن الآن فقط أدرك أني اطلقت النار في اتجاه الكثيرين ، لكني مع الأسف لم اصب غير ذلك الضابط . لقد قاتلكم جميعا ...جميعا دون استثناء ...
كان صوته قد تجاوز الممر المفضي الى الزنزانة مجددا . وحين حاول الممرض حقنه مجددا بحقنة مهدئة ، كانت روحه قد فاضت ، لذلك لم يجد غير أن يغمض عينيه اللتين ظلتا مفتوحتين .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى