عائشة موقيظ - الأعشاب.. قصة قصيرة

لم يكن يعقوب يحمل من الزاد، عندما لفظته إحدى الحافلات في ذاك الخلاء، غير كيس قنب محكم الربط، ومنشار، ومنجل صغير كاللعبة.

وهو لم يُنزل الكيس عن ظهره حتى يتبين المكان كما يفعل المسافرون، إذ كان يحفظه عن ظهر قلب كما لو أنه رآه من قبل؛ فأعشاب الزعتر تتزاوج بنفس الشهية التي قيل له عنها، والهضبة هي نفسها التي وصفت له، فإذن، إنه هو... الكوخ نفسه الذي جاء للبحث عنه. عسى أن يكون بداخله شخص متفهم وهادئ الطبع أيضا.

... قبل حلول الظلام، كان قد جلس إلى كأس شاي مع صاحب الكوخ...

- عمروا ! إنه اسم حربي وذو قعقعة!..

- أجل..

أجاب صاحب الكوخ مزهوا، ثم عاد يصب السائل في صمت.

كانت الشمس قد توارت، فارتسمت على المكان ظلال متوجسة. سأل هذا بعد تردد:

- أقلت إن اسمها أعشاب السم؟. ولكن هذه التي لدينا ليست أكثر من ... ألم يخطئ الشخص الذي أرسلك؟.

- أبدا.

رمش المضيف بعينيه لحظة، ثم سأل:

- ما الذي دفع بك إلى هذه الرحلة؟. أقصد... لأي شيء تصلح الأعشاب التي ذكرت؟.

- إنها تشفي من السم.

- أيُّ سم؟ صرخ عمرو محتدا، ثم ما لبث أن استدرك الأمر، فخفض صوته راسما
على ملامحه ابتسامة جامدة:

- ليس لدينا غيرُ ما رأيت في ضوء النهار على الهضبة.

لم يجب يعقوب. بقي يحرك كأس الشاي بين أنامله ويفكر. ثم قال بعد برهة:

- أخبرني، ألا يوجد هنا مصباح زيت؟ هل تترك ضيوفك في الظلمة هكذا؟.

علقت العيون ببعضها برهة... رأى المضيف في وجه ضيفه شررا، فاقشعر بدنه وسأل:

- أتنوي أن تبيت الليلة هنا؟

فأجابه الآخر بهدوء:

- أخبرني فقط أين تضع المصباح وسأشرح لك.

عندما أشعل المضيف الفتيل، وأحكم إغلاق الزجاجة، لم يكن قد صدّق بعدُ ما سمع، باغتته ضحكة متوترة بلا سبب، لكنه استجمعها سريعا، وتقدم نحو مثبت قريب. وبيدين مرتعشتين، حاول وضع المصباح هناك، فتلقفته حركة مطبقة من ضيفه، فيما كان صوته المنفّر قد بدأ يهمس في حشرجة:

- أرجوك يا صاحبي، دع هذا الشيء لي الآن.

صعدت الدماء ساخنة إلى رأس عمرو، فهمّ بنثر ساعده، فيما كان الآخر قد أحكم قبضته قائلا في نبرة ممازحة:

- حاول !...

لكنه لم ينجح؛ كان قد حرك نفسه مثل كومة قش في كل اتجاه، بلا فائدة. ثم سأله، بعد أن عاد الهدوء إلى الكوخ:

- لماذا جئت؟.

- قد أخبرتك... عشب السم الذي لديكم ... ماذا تسمونه؟ الزعتر؟. أجل... هكذا قيل لي... ذلك لأنني، أنا وأبناء جلدتي، نواجه الأفاعي بكثرة في المكان الذي نعيش به. وقد اعتدنا أن نقتني طيور الصقر لكي تشاغلها. إن العراك لا ينتهي بينها؛ الصقور تتخطف الأفاعي ثم ترمي بها من أعلى الأمكنة. ولذلك هي تحتاج لبلع أكوام من الزعتر من أجل البقاء بعد كل لدغة. هل جربت ذلك؟ لدغة الأفعى... هل جرّبتها؟.

تجاهل عمرو هذه السخرية، وسأل في نبرة باردة:

- ما اسم أبناء جلدتك؟.

تجاهل يعقوب السؤال متقدما جهة الوسط. تحسس سارية الخشب بيديه، ضغط عليها بكتفه قليلا، ثم همس لنفسه:

- إنها أكثر من جيدة.

- لماذا؟. فيم ستحتاج سارية ليست في بيتك؟.

(تراجع !)

- لديك أذنان مذهلتان ! كيف استطعت الحفاظ عليهما كل هذه السنين؟!.

ثم مشى قليلا حتى بلغ كيس القنب، وبدأ يفكه. في البداية، أخرج رباطا مزدوج النسيج
من الليف. وضعه جانبا، ثم أدخل يده وحرك ما بالداخل مُحْدِثا قعقعة صغيرة... كان هناك صندوق حديدي مقفل، استخرجه هو الآخر ووضعه على الأرض في ابتسامة ماكرة. عند هذا الحد، نط عمرو جهة السارية صارخا في غضب:

- سيدي، أعِد إلى هذا الكيس أغراضه وارحل الآن فأنا لن أستضيفك...

قبل أن يكمل كلماته، كان يعقوب قد انقض عليه بالحبل؛ وضع ساعدا تحت ذقنه فانشلّت منه الحركة. عندها، سحبه إلى السارية، وأحكم إليها شد عنقه. كانت المفاجأة قد أذهلت الآخر وجعلته يصمت كما لو أنه غير معني بالأمر ...

- هكذا ستبدو أفضل من أي وقت سابق، وسوف نكون أصدقاء بشكل جيد هذه الليلة، عليك فقط أن تمنحني صبرك.

ثم عاد إلى الكيس، ولكنه توقف في منتصف الطريق قائلا:

- لم تجبني عندما سألتك... كيف استطعت الحفاظ على أذنيك القويتين كل هذا الوقت؟ فأنا أستغرب... مع قوة سماعك غير ذات الفائدة، كيف لم تصادف شخصا واحدا يقتلعهما من خلف صدغيك؟

ثم مدّ يدا إلى أذن عمرو، وبدأ يلوي بقوة، فيما صرخات الآخر تعلو متوالية. ولكنه فجأة، ابتسم وأبعد يده قائلا:

- كنت أمزح معك.

ثم عاد إلى الكيس وسحبه مقتربا. استخرج منه سكينا صغيرة، وضعها جانبا، ورفع عينيه إلى الأسير:

- هذا الكوخ أصبح لي، بأثاثه ومصباحه والهضبة التي تحته... والأعشاب أيضا. ولكنك لن تغادر تماما، فقد كان بيتك أنت أيضا. أليس كذلك؟.

- أجل...

ثم أصبح لي الآن. أرني يديك... اليمنى أولا.

مدّ الرجل يدا مرتعشة، فأمسكها يعقوب. شبك الأصابع بعضها ببعض، ثم صار يضغط نحو الخلف والرجل يستغيث حتى انكسرت، فصمت مرتخيا، فيما كان الرباط الذي يشد عنقه إلى السارية قد شرع يخنقه، مما جعله يعود إلى وعيه في شهقة قوية أحكم، بعدها، وقفته على القدمين.

- الآن يا صديقي، سوف نشد هذا الجذع الذي لن يصلح لشيء بعد اليوم إلى السارية. أعطني يسراك...

فجحظت عينا عمرو، وصرخ متوسلا:

- ما الذي فعلته لك؟ آويتك من الليل في هذه الهضبة العارية، وقدمت لك سقفا دافئا وشرابا يلمّ عظامك، فكسرت يمناي، والآن تطلب الأخرى. أي شؤم جاء بك؟.

- سوف نحز الأنامل أولا، ثم أخبرك.

وأخذ السكين الصغيرة، وبدأ يحز........................................................

........................................................................................

بعد ساعات قليلة، كان يعقوب قد جهز شايا ساخنا. قرب الكأس من فم صديقه، ففتح هذا الأخير شفتين مبللتين بالعرق. صب له يعقوب دفقتين، فانحدر كل السائل من زاوية واحدة إلى الخارج. كان الرجل فاقدا لوعيه فامتعض يعقوب مهدّدا:

- هل ستلعب معي الآن؟ أليس هناك من يقوى عليك؟

... كان عمرو قد بدأ يحرك رأسه في وهن، ويرعش ببقايا يديه، ولكن يعقوب أخذ رشفة شاي عميقة، وتابع في هدوء:

- أقسم لك أنني أستحق المساعدة، فأنا شخص رائع رغم كل هذا الذي يحدث بيننا الآن؛ أملك أسرة ظريفة، بأطفال يشبهونني إلى حد بعيد. وعندما سيأتون للعيش معي في هذا المكان، سوف نبقي عليك، بالخارج بعض الشيء، ولكنك ستكون بيننا، أقسم لك...

ثم نهض وأمسك بشعر الرجل، شدّه إلى الأسفل، وبصق على وجهه، فاسترجع الآخر ما تبقى من الوعي. نظر حوله في وهن، ثم همس محشرجا:

- أنت... وعدت بأن... تحز أنامل يد واحدة فقط، لماذا حززت الثانية؟

فابتسم يعقوب مندهشا ولمعت عيناه:

- ألم أخبرك أنني بلا عهد؟ يجب أن تحفظ هذا في قلبك. والآن، إلى الملابس..

صرخ الاثنان معا في وقت واحد؛ كان الأول مذعورا، والثاني لاهيا... كان يمزق الملابس قطعة بعد قطعة ويرمي بها إلى الخارج، حتى صار الآخر عاريا. حدق فيه يعقوب باشمئزاز شديد وقال:

- لا تخف، سوف لن أغتصبك، فأنا لديّ زوجة لن يفرحها مثل هذا الخبر. ألن تسألني عن شكل الأفاعي تلك؟.

حرك الآخر رأسه في يأس...

- أعشاب السم حريفة الطعم، آهلة بالزيوت، ولها رائحة نفاذة، وقد قيل لي إن من يدهن جسده بزيتها تحبه الأفاعي كما لو أنه شجرة زرنيخ. أما سمعت بالزرنيخ؟.

لم يجب، فتابع يعقوب بعد أن استخرج إبرة رفيعة من الكيس:

- إنه شجر بري. عندما تعمى الأفاعي، تشد رحالها إليه؛ تشم رائحته على بعد مسيرة أيام، تجوب القفار والفيافي والأهوال... لا تتوقف أبدا للأكل والشرب والراحة. وعندما تصل، تحك وجهها على جذوعه، فيعود إليها البصر. ثم غرز الإبرة في إحدى عينيه...

لم يكن أحد ليسمع صراخه، فقد كان الكوخ معزولا بأعلى الهضبة. نزّ خيط رفيع من الدم في البداية، ثم بدأ يغير لونه متقاطرا من أعلى وجنته نحو الصدر... من الأحمر القاني إلى الداكن إلى الأسود... ولكن الأسير كان قد فقد وعيه منذ وقت طويل، بينما كان يعقوب قد بدأ يصفر لحنا هادئا وعيناه على السقف. ولكنه توقف فجأة وأفرد ذراعيه كمن يقيس مسافات وهمية:

- أرغب حقا بهذا الكوخ، وقد حصلت عليه الآن بذكائي وقوتي، ولسوف يفرح الأطفال كثيرا، وزوجتي أيضا... أبوهيا الجميلة. هل تعرف أنها تحفظ كثيرا من الشعر العربي؟ لكنها لا تجرؤ على إنشاده دائما أمامي. كم أرغب أن يطلع الصباح كي أرى فرحتها الصغيرة ! هيا استفق الآن أيها الكسول وأخبرني أين كنا... أجل ... في عينيك. سأترك لك الأخرى سليمة، مع أنني لم أر لونها حتى الآن، وهذا إهمال، من جانبي، لا يغتفر، ولكنني سأقترب الآن لكي أرى. ممم... كما توقعت... نفس اللون الوسخ الذي يشبه قاذورات المجاري، والذي لا يستحق إلا أن يسيل، نازلا، على الخد الآخر...

ثم غرز الإبرة صارخا:

- ولكنني قلت لك إنني... بلا عهود !...................................................

................................................................................................................................................................................

مضى من الليل ثلثاه. جف السواد النازف من عيني عمرو، ولكن هذا الأخير كان ما يزال ينطق بكلام متناثر، فعرف يعقوب أن الحمى تنهشه، ولذلك تقدم ومسح عن جبينه العرق قائلا في ذهول:

- يا إلاهي... كالجمر ! لماذا عليك أن تشعر بكل هذا الألم يا صديقي؟ أأكون قد أسأت إليك حقا؟ أوَ تشعر أنني قد اعتديت عليك؟ ولكنك عديم الذكاء؛ لو رأيت عيني أبوهيا عندما ستعرف... لكنت طلبت مني أن أحز ساعديك أيضا بمنشار الخشب هذا !...

ثم التقط منشاره واقترب.................................................................

........................................................................................

أصبح الرجل طيعا؛ ما عاد جذعه يومئ بحركة، ولا حلقه يفتر عن أي صوت، عدا حشرجة صغيرة تخرج من حين لآخر كالخوار.

أصبحت أرضية الكوخ منداة بالدماء. وعلى الطاولة، صففت أطرافه بعناية فائقة: الأصابع وبقايا الراحتين والذراعين... لم يكن يعقوب ليرضيَ نفسه بأقل من ذلك، عليه فقط أن يشد اهتمامه الآن؛ فالمنجل الصغير الذي يشبه لعبة الأطفال، أصبح يتوقف به دائما
في ذروة الحركة، ولكنه آخذ في شحذه الآن بأقصى الكوخ، بعيدا عن كل ذلك الدم المتخثر، دون أن يكف عن الإيماء برأسه من حين لآخر في حيرة ظاهرة:

- عليَّ أن أكون حازما هذه المرة. كنت أتمنى أن نخرج معا لنتْفِ أعشاب الزعتر. كنت سأعتمد عليه كما يفعل الأصدقاء طبعا، ولكننا الآن في الهزيع الأخير. ولذلك، سأسأله هذه المرة بشكل آخر حتى لو لم يكن ليجيبني بصدق.

نهض مترنحا. جال بالعينين الجاحظتين في كل مكان، ثم سمّرهما على سرة الأخير صارخا:

- أحقا أسأت إليك؟ حسنا، ولكن علي أن أتم مهمتي لأن رأيك بات غير ذي فائدة. أرني الآن هذا العنق، وركز معي، فأنا، بأي حال، لا أذبح أشخاصا خائفين، وأنت لديك كل ما يحلم به الذين في وضعك: المنجل حاد ولن يشعرك بالألم: حركة واحدة فقط، ثم تنفصل عن نفسك. أعدك بأن أكون حازما، ولكنني لا أريد أمامي شخصا خائفا. إن فعلتها، فإن دمك لن يتحرك من مكانه، وأعلم أن الشجاعة وحدها تجعل الدم ينفر خارجا كشلال، فأنا أريد إرسالك إلى السماء بجسد شديد الخفة، انتظر... كيف نسيت جميلتي النائمة؟ ! .

رمى المنجل بسرعة من يده، واستدار إلى الصندوق الذي كان قد استخرجه، أول الأمر، من أسفل الكيس. أزاح بيده الغطاء، فتحرك شيء أرقط في الداخل؛ انتصب رأس الأفعى أولا، فأمسكها يعقوب بخفة. تَلَوَّتْ قليلا، تمايلت، ثم استكانت، فيما عادت به القدمان
إلى السارية:

- مثلما شئت لك. عرفت أنني قد أصادف رجلا جبانا فأتيت بهذه. سمها سيجنن الدم الذي بعروقك. ثم غرز وجه الأفعى في سرة الرجل.

ارتعش جسده المنخور قليلا، ثم هدأ. نهشت الأفعى الموضع بجنون مطبقة عليه في حركة دائرية. نهشته ثم حولت فكيها إلى مكان آخر واستكانت، ثم بدأت تنحل شيئا فشيئا حتى تدلى أسفلها وانهارت على الأرض خائرة. عندها، تقدم الآخر بالمنجل، وضعه على عنق الرجل، ثم حزه في حركة قوية، فشرشر الدم في كل اتجاه، ولكن المنجل كان قد بدأ يستعصي على يده، فأرسل إليه شتيمة وأعاد الكرة؛ في البداية، كان قد قطع به في موضع واحد، ثم تحول عنه إلى مكان آخر أعلى قليلا، حيث الذقن، وحركه فانفصلت الحنجرة وتدلى وجه الرجل. عندها فقط، بدا على يعقوب إحساس عارم بالندم، فقرّب فمه من أذن صاحبه وهمس:

- أعرف الآن أنك ستعذرني، فقد كان عليّ أن أفكر لك في ميتة لائقة، لأنك في النهاية رجل هادئ الطبع وبلا مشاكل...........................................................

عند مطلع الفجر، كان صاحب الكوخ قابعا بالزاوية، يمسح زجاج المصباح بين يديه ويفكر عاليا، حيث لا أحد يمكن أن يسمعه من ذلك المكان:

- خسارة... سوف لن أكون سعيدا تماما، إن أشرقت الشمس على أعشاب الزعتر، أيضا، هذا الصباح.




  • Like
التفاعلات: عبد الحميد باحوص
أعلى