حسين رحيم - اخر من تبقى من مواليده

husen_rahem.jpg

كان لوقفة سيارته تلك أمام باب حديقة الشهداء(*) ونزوله منها برفقة حفيده تأثير كبير على ذلك الوجه الذي زينته تجاعيد فعل العمر، وهو يدخل من الباب الخارجي للحديقة ندت عنه تنهيدة لهواء محتبس من سبعين ويزيد .. توقف وسطها وعيناه تقودان فؤاده حيث تشاء ذاكرته بين مساطب الخشب على جانبي الممرات الدائرية الضيقة والمرصوفة بقطع الشتايكر المتآكل وكانت كفه تتحسس طعم اللحظات التي غادرته منذ زمن وهي تمسد على جذع شجرة اليوكالبتوس العجوز وروحه المتآكلة ضحك، فضحك الحفيد لضحكه..نظر اليه مستغرباً:
ـــ اضحك لضحكتك التي لم ار مثلها من قبل... إنها الذكريات... فقد لا نعرف قيمة ما مر بنا إلا بعد ان يتخطانا. وكانت جملة حملتها ذاكرته ديناً كلما مرت الأيام زادت من ثقلها على هامته.... ما الذي يعرفه هذا الغر المتبجح عنها...فقد كان يقول دائماً إنها اوقات وتمضي فما قلناه قبل قليل قد اصبح خلفنا الآن، وسيبتعد عنا اكثر حتى العتاقة... اطرق برأسه... لقد غزاه الأكتئاب مؤخراً بعد موت آخر اصدقائه، فتيقن إنه اصبح وحيداً فأبنه مدير السجل المدني مازحه قائلاً:
ـــ ابي انت.... آخر ما تبقى من مواليدك... سرت قشعريرة في جسده فسحب يده من على الشجرة، نظر اعلى اشجار اليوكالبتوس والسرو والبرتقال والتي لم يؤثر في اوراقها شتاء المدينة الطويل..إبتسم الفتى وهو ينظر الى جده الذي يستشعر من عمق ذاكرته العجوز إخضرار الكلمات التي يبسها قانون الخمس والثمانين عاماً من عمره وعينيه على المسطبة الأسمنتية التي بدأ لونها القديم يعود اليها والتكسرات التي على جوانبها تزول...كان صديقه الشاعر يقف عليها وهو يلقي الشعر على الطريقة المربدية، كانوا اربعة في مرحلة دراسية واحدة قاص ورسام والشاعر وكان اكبرهم سناً. كانوا يتفاخرون بما يملكون وما يقرأون.
ـــ مسطبة الشاعر...غمز للفتى بعينيه واصبعه عليها.
ـــ ماذا يعني؟؟
ـــ كان فتى بعمرك
ـــ واين هو آلآن؟؟
ــ انتحر في الثلاثين من عمره
ــ اعرف ذلك
ــ سأحدثك عن شيء آخر هذه المرة.
كل نوايا الأرتباط تبدأ بالحب. ولاعتبارات ومسميات كثيرة ترافق من تجاوز الثمانين، كانت له الحظوة الكبرى في نفسه دوناً عن فصيل الأحفاد والأبناء، لذلك كان الحفيد هو المصب لما لم يجهر به لأحد...فكان هذا الحب.
كانت اكثر إعترافاته تكراراً هي قصة حبه الفاشلة لزميلة له في الكلية..وهو يصور ببراعة الحكواتي وقوفه برأس الزقاق ليلة زفافها وهي تخرج مع عريسها الثري ويستقلان السيارة الفارهة الى فندق ضخم لقضاء شهر العسل. ثم بعد مدة من الزمن يكتب قصيدة تنتشر في كليته بسرعة ثم تحفظ من طلبة الجامعة... و.. بعد سنوات يغنيها مطرب مشهور بأسم شاعر آخر.. لم يكن الفتى يظهر امام جده عدم اهتمامه بهكذا حكايا رغم معرفة الجد بهذا الأمر، لكنه لم يعرف إن الحفيد قد امسك بخيوط حقيقة من خلال كلمات سلتت من لسان جده دون وعي منه وكشفت قوة خياله، لكنه بقي يتساءل عن ما هو اهم وهو الذي جاء به الى الحديقة لأنه يعرف إن جده مفاخر كبير بماضيه الشخصي المرتب وفق مخياله والذي اوصل به الى الثروة والجهبذة والاسم الرنان في المجتمع.. إلا في أصدقائه الثلاثة... تلك الفجوة الزمنية المبتورة من عمره والتي أعقبها حكايا كثيرة هي من خياله بخاصة حين يكونان لوحدهما والجد في استرخائه ووجهه وضاح وثغره باسم ويبدأ في النسج، أحداث وبطولات فريدة، واضحة، دقيقة.. وخالية من شوائب العفوية والغموض غير المصطنع.. كيف مات الاثنان... هذا إن صدق رواية انتحار الشاعر، وما علاقة سيد حديقة الشهداء بموتهم.
جلس الاثنان على مسطبة الشاعر
رفع الشيخ اصبعه بوجه الفتى متحدياً جرأة وصفاقة حفيده:
ـــ كان رجلاً وسيماً بطوله الفارع والفته المصطنعة ونحن فتية في المرحلة الأخيرة من الدراسة الإعدادية حيث كنا متفقين على مراجعة مادة كل يوم، كان حصة ذلك اليوم، التاريخ...مازلت اتذكر كلماته.
ــ من اطلق عليه هذا الأسم؟؟؟
ـــ الرسام
ــ لماذا؟؟
ـــ لم تسبق اجاباتي دائماً....دع لساني ينساب بما فيه.... إنها ذكريات يافتى، ذكريات... في ذلك اليوم رفع يديه عالياً كخطيب مفوه:
ـــ اتعرفون ما معنى التاريخ..إنه الأنسان
ـــ إنسان؟؟؟
ــ مثلي ومثلكم..يأكل ويشرب ويزعل ويحب ويكره. وكان رد الشاعر مشوب بسخرية مبطنة بأعجاب.
ـــ ومن ابواه
ــإنهم يتغيرون بأستمرار عبره.. منذ السيد هيرودوت.
ــومتى ولد؟؟؟
ــ اووه، ذلك خارج إدراكنا بالزمن.
ـــ طيب، وأين مسقط رأسه؟؟؟
ــ هنا...هنا. ثم ابتعد عنا ودار في الحديقة وهو يصيح..هنا...هنا..وجلاس الحديقة ينظرون اليه ويضحكون. حتى قال الشاعر:
ـــ لقد اضيف مجنون جديد الى الحديقة، ووقف مراقباً ممرات الحديقة المرصوفة بالشتايكر المحاط بأزهار وورود الجنبد والجولونيا وحلق السبع والقرنفل وورد الدفلى والتي هي اشبه بأسوار معطرة تحيط بتلك الدوائر التي غلفها بساط الثيل، انتبه الى المجاميع التي افترشت تلك الأرضية الخضراء من طلبة ومجانين وسكيرين مقطوعي العائلة وجهابذة غادروا ازمانهم ومسنين متوحدين والجميع سعداء بهذا الملاذ الآمن، وسيد حديقة الشهداء يدور بينهم موزعا تعليقاته عليهم وعباراته التي تضحك آلآخرين. وكان يفعلها كل يوم قبيل مغادرته الحديقة، يسير ماسحاً بعينيه كل موجودات الحديقة من بشر وكائنات اخرى وهو يرسل اليهم قُبل في الهواء حتى ينتهي الى آخر مسطبة قبيل الباب الخارجي حيث مجموعة من ألأرمن المسنين بقبعاتهم وغلايينهم وقمصانهم المزركشة بمربعات حمر وزرق وصفر وقبل ان يصل الباب الخارجي يمر على صيادي اليانصيب. مجموعة من الحمالين والباعة المتجولين ومن توقف عن ألأستمرار واكتفى بأحلامه الرمادية عن الثراء الذي يهبط فجأة. كانوا يجتمون هناك كل اسبوع ويتحدثون بقناعة الرابح عن حلم الجائزة ألأولى ويذهبون بعيداً الى احلام يعيشوها بأقدامهم الطينية، لقد قطعوا عن افواههم الكثير من متع الدنيا وحولوها الى تلك ألأوراق الوردية المزيفة. ثم في نهاية اليوم يغادرون الحديقة تاركين خلفهم كومة من ألأوراق الممزقة واحلام متسربلة بالمستحيل ولعنات كنّاس الحديقة.
لم يكن الفتى بقادر على مجاراة جده. لكنه كان مصمما على معرفة الحقيقة التي كان جده يمنحه نصفها طيلة السنوات الماضية. اراح الجد جسده على المصطبة ـ
ـــ كان ما يعرف آلآن ببنك معلومات...او هذا المسمى بألأنترنيت، وانزاح خيال الشيخ عميقا الى ذلك اليوم حين وقف الرسام امامه في محاولة لأيقاعه.
ــ حدثنا عن الحديقة.
ـــ قبل خمس وثمانين عاماً كانت تعرف بأسم حديقة (فانشو) على اسم الجنرال الإنكليزي الذي حكم المدينة..وهذه ألأشجار التي رضعت صمت الحديقة وهي شتلات ما تزال واقفة وهي عملاقة سلوانها الصمت...الم اقل لكم ان مسقط رأس التاريخ هنا. وصعد على منصة الشاعر وكدلال ينادي على بضاعة صاح بصوت جهوري. من هنا خرج شلمنصر الثالث قاتل العيلاميين ودحرهم. اما الطين الذي كان كتبة آشور بانيبال يعملون منه الرقم فقد كان يأتي من هنا حتى اكتملت اول مكتبة في التاريخ وقد حوت عشرة آلآف رقيم امّا حملة العشرة آلآف مقاتل والتي كان يقودها زينوفون فقد مرت من هنا. من هنا....هنا تدارك الفتى الموقف لعلمه بأن جده سيأخذه بعيداً عن مقصده في سياحة كلام عن التاريخ والجغرافية فسأله:
ـــ ما الذي حل بألأخرين؟؟
ـــ لا تسبقني يا ولد... سيأتيك الحكي... نظر بعيداً ثم اردف... اما الرسام فبعد إنهائه ألأعدادية سافر الى ايطاليا حالما بأسمه الذي سيلمع هناك تعرف الى فتاة ايطالية وتزوجها، لكنه قتل بعدها. لأنها كانت إبنة احد زعماء المافيا.
ــ والقاص؟؟
ـــ القاص، القاص... اصبح مهووساً به. فقرأ لنا قصة رائعة عنه.. وسافر...لكنه مات في حادث سيارة على الطريق السريع وماتت معه قصته.
ــ وانت؟؟
ـــ انا ماذا؟؟؟........ عرف الجد بحدس الشيخوخة المعتق إن الحفيد لم يصدق ايضاً هذه النهاية لاصدقائه الثلاثة ذلك إنه كعادته نسي الحكايات السابقة كلها عنهم. لكن الفتى لم ينس شيئاً.. لذلك ومحاولة منه لأبعاد الموضوع، قال وهو يرسم إبتسامة على وجهه:
ــ لم تسألني عن سيد حديقة الشهداء.. اتعرف سمعت إنه مات.
ــ لماذا؟؟
ــ ربما العمر فقد كان اكبر منا..... ترك الفتى جده وسار في الحديقة وهو يمرر كفه على نبات آلآس، تلك الجدران المنخفضة المحيطة بمساحات الثيل..ومن اعلى اشجار اليوكالبتوس والسدر، كان يأتيه غناء (الكوكوختي)، مغني المدينة الحزين والذي تعرفه كل اشجارها. ذلك المواطن الرابع بعد منارة الحدباء وقلعة باشطابيا.. وكان الصوت الرخيم يبدو جليا وهادئاً في زحمة فوضى ألأصوات التي تعج بها الحديقة من الزرازير والسنونو وحمام طوران والذي يلقبه ابناء المدينة ( قلاش) تندراً.. ومن خلف هذه الفوضى الجميلة وحركة الريح الشرقية يحدث مايشبه إنتشار الضوع الجاذب لمن فيها الذي يملأ الحديقة بأمان خاص بها، ملأ الفتى احساس غريب، ردد مع نفسه، (غير معقول).. اسرع الى جده:
ــ هل تشعر بما اشعر به؟؟
ـــ سبقتك الى ذلك قبل اربعين عاماً..
ـــ ماهذا؟
ـــ انها حاضنة الحياة..... كمدينتنا من يدخلها لايخرج ابداً حتى لو رحل سيحملها في قلبه.
ـــ لم لاتصارحني ياجدي؟؟
ـــ وهل كذبت عليك ياولد.
ـــ لا يا جدي ولكنك تربأ عن إخباري بالحقيقة.
ــ أي حقيقة؟؟
ـــ ما حدث قبل اربعين عاماً.
ــ أتقصد سيد حديقة الشهداء. كان رجلا تحبه كل موجودات الحديقة من بشر وطيور و....
ــ اعرف هذا...هنا تذكر الشيخ إنه قد اعاد على مسمعه كثير من الحكايات فصمت، تركه الفتى وراح يتجول في الحديقة وهو ينظر الى الجلاس المنفردين على الكراسي ألأسمنتية. احس بأن عليه ان يتكلم ويكشف الحقيقة التي اخفاها عنه جده.. عاد سريعاً، لكنه لم يجد احداً في المكان..ردد مع نفسه... اين هو؟؟ اين هو؟؟، هل غادر وتركه.. دار في الحديقة وهو غاضب من تصرف جده، لكن ذلك الغضب كان مدفوعاً بخوف لايعرف كنهه مرده إحساس بأن لجده يد في إختفائهم ومن ثم إختلاق قصة لعنة سيد حديقة الشهداء...سيجبره هذه المرة على ألأعتراف. قادته قدماه الى شجرة عجوز في زاوية بعيدة فوجده جالساً على كرسي اسفلها وبيده قطعة صمون وامامه مجموعة طيور يلتقطون فتافيت الصمون.. وهو يتقدم نحوه أوقفه فجأة إحساس المهابة من هكذا مواجهة فتحرك من خلف الكرسي ووقف وظهر جده إليه متحاشياً نظراته المخيفة وبصوت مضطرب خرج الكلام من فمه:
ـــ منذ اربعين وانا اسمع وهم اختفائهم من خلال قصصك الخيالية عنهم وفي كل مرة تكون القصة هي الوسيلة الجديدة لأقناعي.. تصورتني صديقاً لها لكنك كنت واهماً في هذا ايضاً...وهو يتحدث توقع انتباه جده للزمن الوهمي الذي ذكره وهو ابن الثمانية عشر عاماً. اتعرف إن الوهم الذي صنعته لأقناعي. اقنعت نفسك به فقط، تغاضيت عني، بل تجاهلتني ونسيت انني ربما قد افكر فيما قلته، عندها سيتغير حتماً كل شيء..وهو الذي حصل..فقد لملمت من كل قصة فتافيت كلام سقطت منها كما تسقط من يدك آلآن لهذه الطيور وجمعتها فشكلت الحقيقة التي حاولت إخفائها عني..انت ياجدي...توقف لحظة ملتقطاً انفاسه..كانت الطيور قد إلتقطت كل الفتافيت وصعد غراب على كفه واخذ ينقر في قطعة الصمون والجد ساكن..حاول الفتى منع ألأضطراب من صوته وهو يتحدث بصوت كان اعلى مما توقع..... انت يا جدي، متهم بقتلهم..وصمت متوقعاً المفاجأة لكن الجد لم يلتفت اليه، اغضب ذلك الفتى، مد يده ووضعها على كتف جده..... هل تخادعني؟؟؟... انا لم اعد صغيراً...انا اعرف الحقيقة وكان إنفعاله قوياً لدرجة ضغط بيده على كتف الرجل العجوز الذي مال الى جانبه، سقطت الصمونة من يده وطار الغراب، ايقن الفتى إنه ازاء امر كبير..إقترب من جده و.... عرف.
من ذلك البعيد العالي. كان صقر يحوم فوق الحديقة بعد ان اتعبته ضيافة المكان التي حولته الى اثاث عجائبي..لقد ملت عينيه من حشره في ألأماكن الضيقة وسهولة الطعام له وهو القناص الذ ي لا ياكل إلا من صيده. قرر مغادرتهم جميعاً محطماً إسار القفص الذهبي بحنين اصيل الى رمال الجزيرة وألأحساء وسيناء والنقب والصحراء الكبرى. الى البعيد من صراخ وهدير ألألات وسواتر ألأبنية العالية التي تصطج في وهج شمس الصحراء. لكن شيء ما اعاده الى تلك المساحة الخضراء التي التقطتها قنص عينيه للبعيد في وسط المدينة الكبيرة بعد ان تعب من الطيران العالي ولا من طريدة. لقد سرقت المدن طرائده ايضاً.. دار فوق المكان ثم توقف لحظة وكمن يهوي نزل سريعا الى شجرة الجوز.... دفعة واحدة، هبت الطيور من على ألأشجار، تناثرت في سماء المدينة فيما إستكان (كوكوختي) بين مخالب الصقر مستسلماً لقدر الطريدة..ساد الحديقة سكون... رآه احد صيادي اليانصيب ونبه رفاقه اليه بعد ان مزقوا آخر ورقة يانصيب..إتجهت انظارهم اعلى..فالتمعت ببريق كأشد مايكون:
ـــ إنه صقر..أقسم على ذلك.
ـــ كم يساوي
ـــ الله عز وجل يعلم.. حط كل منهم في رأسه ارضية خرافية لحلمه... تشارك الجميع بنظرة واحدة ولمع بريق واحد في عيونهم التي اتعبتها ألأرقام.... ركض أكبرهم سناً نحو الشجرة محاولاً تسلقها بيأس واضح وإصرار لا مجدي... وهم يشاهدونه ينطنط كطفل صغير يركب التسلق لأول مرة فضحكوا...لقد اسقط الصقر البعيد عن ايديهم في ايديهم قناعة حلمهم المستحيل وكان ضحكهم خير رد على فشلهم... ولم يفهم الصقر القابض بمخالبه على فريسته (مغني المدينة الحزين) سبب خروج اولئك هاربين من حلمهم المستحيل...فجأة علا هدير طائرة اباشي من افق المدينة..ودوى إنفجار من بعيد ثم مرقت سريعاً كعادتها مدرعة (همر) من الشارع الموازي لسور الحديقة...رفع الفتى يديه الى السماء ثم دار برأسه في المكان هل يراه احد...كانت الحديقة خالية إلا واحدة يجلس عليها مجنون يهز رأسه ويضحك..حامت الطائرة فوق الحديقة.. طار الصقر تاركاً فريسته التي سقطت على كومة اوراق اليانصيب الممزقة... وكان الطيار قد انتبه خائفاً على فتى يرفع يديه وينزلهما وبجانبه جثة رجل عجوز ومن وراء الحديقة مجموعة شبان يسيرون بمحاذاة السور وهم يضحكون...نظر احدهم بأتجاه الجندي على المدرعه المارقة وقد شاب بياض وجهه امتقاع الخوف إصفراراً فبصق عليه، وكان رفاقه منشغلين برؤية فتى في الحديقة لايظهر منه سوى رأسه وذراعيه اللتين تصعدان وتنزلان،
لم يعلم احد بأن الفتى يبكي جده الذي غادر آخذاً معه سر إختفاء القاص والشاعر والرسام و... سيد حديقة الشهداء...تلك الليلة كان الفتى ممداً على سريره وحيداً ومشبعاً بلوم وتقريع اهله لأخذه جده الى تلك الحديقة المشؤومة...لكن ذلك لم يروي ظمأ حزنه العميق حد الخوف....لقد خدعه من جديد وذلك بمجيئه الى الحديقة بأعتبارها مقبرة آخر ألأفيال المدونين في السجل المدني... سينام تلك الليلة وهو عارف بالحلم الذي سيأتيه مرة واحدة في حياته... حلم توسل به ألأتيان الذي سيغير من لبنة الفتى بأتجاه ان لا يخدع مرة اخرى كما فعل الجد الذي لم يزر الحديقة من اربعين عاماً....و.. ستستيقظ المدينة على مطر اوراق ملأت شوارعها وازقتها..وسرب كبير من صقور بلون الطين المذهب تحوم في سمائها..صقور هربت من اسارها الذهبي باحثة عن معنى جديد للخوف والموت والحب هذه المعاني الثلاث كانت انقى من مطر الاوراق المكتوب عليها سر اختفاء الثلاثة اياهم، وسيستيقظ كل أبناء المدينة ويمسكون بأوراق ويقرأون... يقرأون. ويبكون عميقا قاصها وشاعرها ورسامها.. فقد حط الحزن رحاله فيها لزمن قد يطول ويطول ويطول.
حسين رحيم
الموصل
في 13 / 3 / 2008




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** حديقة معروفة في مدينة الموصل
* نُشرت القصة في مجلة مناهل جامعية (جامعة الموصل)، وقد فازت بالجائزة الأولى في المسابقة التي أقامتها قناة الديار الفضائية عام 2008.
* كلية التربية، جامعة الموصل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى