سعاد الجزائري - جنح الفراشة

حينما أحبها، منذ زمن بعيد جدا، كانت كل الاشياء الجميلة تشبهها، أو هكذا يراها.. هي كالفراشة في رقتها، وكالطفل في براءتها، وكالنسمة الصباحية في عذوبتها..
هي ورقة خضراء مع قطرة نداها...
تختلف المفردات ووقعها، في وصف بداية علاقة الحب عن نهايتها، لأن المشاعر، حينما يأتي وقت الاختلاف والفراق، يتغير مسارها فتصبح كالسفينة التي تعاكس الريح العاتية..
لماذا يتغيرالبشر، اهو اختلال هرموني،غريزي، او هو اختلال عقلي، يجعل الواحد منا يكره حتى الموت من كان يعشقه حتى الموت.. أي شيء يقلب تلك الموازين، ويحول الحب الى كره...
احيانا تطفو هنا وهناك اشياء قد تبدو بسيطة، لكنها تكون السبب وراء العواصف القاتلة..
صندوق خشبي صغير، وفراشة اصغر منه.. ما علاقة هذين الشيئين بالخلل الهرموني، او الغريزي؟.. ما علاقة الحب وفاعليته بأشياء جامدة؟..
اهدته بعيد ميلاده، كانا يومذاك ببيتهما، الذي تشكل وصار لوحة فنية من ابسط وارخص الاشياء، فالستائر من قماش رخيص، لكنها لونتها بحيث بدت كل ستارة وكأنها لوحة فنية.. ومن العلب الفارغة التي غلفتها بورق ملون صنعت رفوفا صغيرة، وضعت عليها تحفا جمعتها من هنا وهناك.. وفي زاوية غرفة الاستقبال الصغيرة، جمعت قناني زجاجية ملونة، كدست بطريقة تبدوعشوائية ووضعت خلفها مصباحا كهربائيا، ما ان يضاء حتى تتحول تلك الزاوية الى كرنفال من الالوان التي تنعكس على سقف الغرفة ومحيطها.. اشياء بسيطة جعلت من المكان معرضا لافكار تثير فضول الآخرين، لانهم لم ينتبهوا الى ان بعض الاشياء التي تهمل ممكن ان تتحول الى قيمة تضيف الى محيطنا لونا اخر...
اهدته صندوقا خشبيا قديما، نقشت عليه بالصدف طيور وزهور وتناثرت بينها نقاط دائرية بحجوم والوان مختلفة، تزين الصندوق بالالوان الاحمر والازرق والاخضر.. وضعت داخله ورقة، واعطته هديتها..
اخذ الصندوق.. قلبه، ثم فتحه واخرج منه الورقة فقرأ بصوت عال:
- ليكن هذا الصندوق كقلبك الذي تخفيني فيه وتحميني من اذى الاخرين...
ابتسم، وقال:
- انت في قلبي ولن تستطيعي الخروج منه، لأني كما في الحكايات اغلقته ورميت مفتاحه في البحر..
قبّلها ثم نظر في عينيها وسألها:
- كيف عرفت اني احب الصناديق، فردت:
- رأيتك تحتفظ بالعلب الفارغة الانيقة لتضع فيها اشياءك الصغيرة..
في أحد أعياد ميلادها.. أهداها دبوساً على شكل فراشة ملونة بألوان القوس قزح، يعرف انها تحب الحلي، وتعشق الالوان.. حينما قدمها لها، قال:
- هناك اشياء كثيرة تشبهك بهذه الفراشة، فأنت برقّتها، وبجمالها، وقد لونت ايامي كألوانها، اما وجودك في حياتي فإنه كرفيف جنح هذه الفراشة..
للهدايا اكثر من معنى، فهي دليل على انك فكرت بمن تحب، وعرفت ما يعجبه، وايضا تشير الى معرفتك بالطرف الاخر، ثم انها اولا واخيرا تعبير عن حب وود.. نبتسم كلما رأيناها، حتى بعد سنوات طوال، لانها تذكرنا بالشخص وبالمناسبة... وحينما تتحول من كونها هدية لتصبح ذكرى....لذلك نحتفظ بهدايانا التي تعني لنا الكثير..ولأنها جزء من تاريخ حياتنا وذكرى هوانا...
كثيرة هي الاشياء التي كانا يقدمانها الى بعضها: حب.. امان.. صدق.. وفاء واخلاص.. واشياء كثيرة... لكنها بدأت تقل تدريجيا مع مرور السنوات، وقلت كثيرا حينما ظهرت هند!...
اجتاحت حياتهما وبدأ قارب الامان يهتز ببطء اولا وبقوة ثم بعنف..
تغير قليلا، ثم صار يبتعد عن مواجهتها او النظر في عينيها.. بعدها يغيب النهار وجزء من الليل لينتهي ان سفراته قد زادت..
غاب الحب عن البيت، وهربت منه كل الكلمات والقصائد، وشحبت الوان الستائر وكذلك الوان الصناديق والرفوف... بعدها انطفأت في حياتهما كل الالوان وصار كل شيء رماديا.. لا وضوح.. ولا دراية، كل الاشياء مبهمة، والشك يتجول في اركان بيتهما بعدما دخلت انفاس غريبة تلهث بوحشية في هدوء حياة كانت شبه كاملة او على الاقل هانئة وقانعة..
كل شيء يتلاشى ويختفي.. بعد تلاشيه التدريجي من البيت، بدأت تختفي اشياؤها.. بدءا من حبها وكلماته، وانتهاء بالفراشة الملونة، الفراشة التي كانت تشبهها..
حينما نبتعد رويدا رويدا عن بعضنا، نلتجئ احيانا الى تلك الاشياء التي تذكرنا بالقرب او بالحب.. عادت الى زواياها القديمة، الى زواياهما.. الى الامكنة التي مازال دفء حبهما موجودا فيه، حتى وان كان كاذبا بحبه، على الاقل انها كانت صادقة آنذاك..
عادت الى اركانها تبحث عن الحب والامان، عن فراشتها التي فقدتها.. لم تجد لها اثرا، تاهت الوانها في خفايا ظلمة الخديعة.. فتشت في كل الاماكن، علها تجد حتى رفيفا لجنحها، او لون ربما سقط حينما طارت.. لا اثر لفراشتها..
ضاع هو الاخر، فتشت عنه في كل دربهما.. خرجت الى دروب المتاهة عله تجد له اثرا، دخلت في طرق لم تألفها وسألت عنه الكثير، قالوا انه امامها لكنه بعيد بعيد جدا..
ظلت تبحث وتتنقل من حيرة الى اخرى، ومن شك الى عذاب، من ذكرى الى وهم.. وبعد ان اعياها البحث صرخت بأعلى صوتها، ففتح باب الرذيلة، حيث كان هناك مع الاخرى، حينما اقتربت منهما رأت فراشتها معلقة على صدرها شبه العاري، عرفت عند ذاك انها افترقت عنه الى الابد، وتذكرت انه حينما احبها كتب لها:
«يداك تأقلمتا في يدي
اصابعنا اشتبكت
ومن كل صوب
هرعنا الى بعضنا كالنوارس»
وعندما افترقا كتب عنها:
«انت حذاء اسود
ينتعله الرجال»
هكذا اختلفت لغة البداية عنها في النهاية، لان كلماتنا مرآة لما تخفيه الروح، تلك الروح التي ماتت من خفقة جنح فراشة اختفت..


* عن جريدة تاتوو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى