مزمل الباقر - ( كان بدري عليك ) يا أبو خليل

تودعني وأنا مشتاق ليك
كان بدري عليك
كان بدري عليك والوكت طويل
والأنس جميل في سكون الليل
كل الأفلاك كانت يا ملاك
تنظر لي علاك
دي مشتاقة إليك
كان بدري عليك



ذات السيناريو:
لأيام متتالية تكرر نفس السيناريو: ليالٍ عدة كان أبو خليل يزورني في المنام وبعيداً عن تفسير العالم محمد بن سيرين لما أراه في الحلم ، فإني أصحو مبتسماً ولأول ثواني وأنا ( بين اليقظة والأحلام )(1) أقوم سريعاً من سريري لكي أحكي الحلم لخالي فأنتبه أنه غير موجوداً بصورة نهائية بهذه الدنيا.

عميري .. الصديق المقرب:
جاء دور الفنان الخالد عبد العزيز العميري ( رحمه الله ) ليشدو بأغنية مشهورة كتبها الشاعر الجميل: عبد الرحمن الريح في بداياته وهي أغنية ( كان بدري عليك ) وأول من تغنى بكلمات هذه الأغنية هو الفنان الراحل : عمر أحمد (وذاك حديث آخر) بحد تعبير الاديب علي المك.

والفنان متعدد المواهب عبد العزيز العميري كان أحد الأصدقاء المقربين لأبي خليل يزور الأخير كثيراً في حانوت جدي بسوق أمدرمان مثل غيره من الفنانين والشعراء الذين تربطهم صلة مودة بخالي. وكثيراً ما حكى لي عن عبد العزيز العميري وفي أثناء حديثه يغني أغنية للعميري مقلداً طريقته في الغناء بصورة رائعة.


تعريفي بالمبدعين:

يقع مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي الذي انشئ بجهد شعبي خالص (في شارع الدومة بحي العمدة شرق من 15 مايو 1998م تخليداً لذكرى المناضل الأستاذ عبد الكريم ميرغني (1923 – 1995م) والذي خدم بلاده في العديد من مجالات العمل الوطني والثقافي والاجتماعي وعمل معلماً وإدارياً وسفيراً ووزيراً وإضافة إلى ذلك فهو مثقف موسوعي المعرفة واقتصادي متميز وباحث في مجالات الإبداع الشعبي في الطب والصيدلة) (2)

وكنت في معية خالي إبراهيم موسى ( أبو خليل ) كثيراً ما نرتاده بالإضافة لمنتدى البرير الثقافي بحي الملازمين بالمباني القديمة لجامعة العلوم والتقانة وكان ذلك البرنامج الثابت لأمسية الإثنين وهناك عرفني خالي على كثيراً من الشعراء والأدباء مثل كمال الجزولي ومحمد طه القدال وغيرهما وكثيراً ما كان يعرف المبدعين عليَ ويطلعهم على موهبتي في الكتابة كما فعل ذلك مع الشاعر الطاهر إبراهيم الذي كان يسكن في أمدرمان بحي السوق.

أعاصير :
دفع لي أبو خليل بديوان ( أعاصير ) لأستاذنا الشاعر سيف الدسوقي(3) كهدية وكان عليه إهداء من الشاعر صاحب الديوان بعد أن عرف الشاعر عليَ قبلها بفترة طويلة. فذهبت في اليوم التالي لشكره على الإهداء وكان أستاذ سيف الدسوقي الذي يسكن في نفس شارع بيتنا يجلس أمام بيته في الفترة الصباحية بعد أن أحيل إلى المعاش بعد رحله طويلة من العمل الإعلامي بإذاعة هنا أمدرمان ( الإذاعة القومية بالسودان ) وعدداً من المحطات الإعلامية الأخرى وبدأ ( مذيعاً في هيئة الإذاعة السودانية بأم درمان ورئيساً للقسم الثقافي بالتلفزيون السوداني. كما عمل مديراً للإخراج والمنوعات بإذاعة الرياض بالمملكة العربية السعودية ثم أنتدب إلى إذاعة وادي النيل بالسودان ليعمل فيها في وظيفة مدير مناوب للإذاعة، كذلك عمل نائبا لأمين الهيئة القومية للإعلام والإنتاج الفني بالسودان.)


العراب الثقافي :
كان أبو خليل عرابي الثقافي – إن جاز لي التعبير – منذ صغري وأنا ما زلت في المرحلة الإبتدائية من الدراسة كان يمدني بمجلة الصبيان (تأسس " مكتب النشر" عام 1946 ليقوم بإصدار مجلة الصبيان بنفس العام في معهد التربية بخت الرضا بولاية النيل الأبيض والذي كان يتبع لوزارة التربية والتعليم . فكرة إصدار المجلة تعود للأستاذ عوض ساتي وكان يسهم فيها بباب العم سرور، ومن تلك الأبواب في تلك المرحلة الباكرة من تاريخ المجلة.
• الطفل
• قصص مصورة هادفة
• القصص التراثية.
• المرأة والتدبير المنزلي.
• علي الكردفاني (الذي يسافر في انحاء السودان والقصد تعليم الناشئة بأنحاء بلادهم).
وبصدورها في تلك الفترة عقب الحرب العالمية الثانية ، تعتبر رائدة مجلات الأطفال في العالمين العربي والإفريقي.) (4)

ومجلات الأطفال التي ظهرت بعدها مثل مجلة ( الجيل ) ، ( الباحث الصغير ) و ( صباح ) إضافة لمجلات ( ميكي ) و ( ميكي جيب ) و ( سمير ) و ( ماجد ) ومنشورات دار الهلال مثل ( الشياطين ال13 ) و سلسلة قصص المغامرات البوليسة ( المغامرون الخمسة ) للكاتب المصري: محمود سالم ( رحمه الله ) وغيرها .

عندما كبرت في العمر قليلاً إتسعت دائرة قراءاتي من مكتبة خالي العامرة ومرر لي دواويين شعر لصلاح أحمد إبراهيم، محمد مفتاح الفيتوري، إدريس جماع ، فاروق جويدة وغيرهم. مجموعات قصصية لقصاص سودانيين مثل علي المك ، بشرى الفاضل ، الطيب زروق ، الزبير علي ومحمد المهدي بشرى وآخرين وبالمثل قصاص غير سودانيين ومنه تعرفت على مجلة العربي الكويتية والدوحة القطرية وغيرها من الدوريات بالإضافة لتسجيلات صوتية للأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم ولشاعر الشعب محجوب شريف وأصغيت لندوة شعرية عقب إنتفاضة أبريل 1985م للشاعرين المجيدين محمد الحسن سالم ( حميد ) ومحمد طه القدال وتسجيلات صوتية أخرى . مثلما أطلعني على الصحف فقرأت على سبيل المثال من مكتبته العامرة المساجلات الكتابية بين الأمير نقد الله وسعاد الفاتح في فترة الديمقراطية الثالثة ( أبريل 1985م – 29 يونيو 1989م ) والتي جرت راحاها بصحيفة الوطن التي اصدرها الراحل الصحافي سيد أحمد خليفة. وقرأت كتب كثيرة من مكتبه كذلك مثل كتب: ( قبل السقوط ) لفرج فودة و( كتاب الصلاة ) لمحمود محمد طه وبعض كتب حسن عبد الله الترابي وفاطمة احمد إبراهيم وغيرها . وكذلك كان أبو خليل يخصني بقراءة ما يكتب من أشعار باللهجة العامية السودانية لوسط السودان أو ما ينضمه باللغة العربية الفصيحة وأحمل مسودة مقالاته لتجد طريقها للنشر عبر جريدة الصحافة.

محجوب شريف ونجيب نور الدين .. في بيتنا :

(كنت اطوي البسط بعد ان أكلنا فيها طعام الافطار واحتسينا الشاي والقهوة .. وحيداً في بهو الرجال كنت مواصلاً الغناء رغم نشاذ صوتي:


( حتهرب منو جلدك وين؟

ويوما ما حتسكت تمّ.

وأخت راسي

افارق دنيتي وناسي

واخلي وراي .. كراسي

فما تسوّد سطر .. بالشين

وما تعوّد أساك .. العين

وما تشمت عدو .. فيني )



قبل أن اكمل ترديد باقي الاغنية التي احفظ معظمها عن ظهر قلب، إذا بجرس الباب يرن .. فتحت الباب لتقابلني هامة عالية وصوت اعرفه جيداً بزي افرنجي وآخر اقصر منه قامة إلى حد ما يرتدي جلباباً ابيض وقد جعل العمامة تغطي جزءاً كبيراً من وجهه.

حياني الأول بإسمي .. كان محدثي هو الإعلامي نجيب نور الدين، ثم سلمت على الثاني صاحب الجلباب الأبيض. سألني الأول إن كان خالي إبراهيم بالبيت، أومأت له بالإيجاب ودعوتهما للدخول وبعد ان جلسا سكبت لهما عصيرين من العصائر التي نعدها لشهر رمضان. ثم استأذنتهما لأنادي إبراهيم. قبل أن أعود إليهما بعد دقائق قليلة لأجالسهما حتى يأتي خالي.


تجاذبت أطراف الحديث مع نجيب نور الدين. والثاني صاحب الجلباب الأبيض لا زال يغطي معظم وجهه بالعمامة. ذكرني الأول بعدد الثلاثاء المميز لصحيفة الصحافة السودانية وكان نجيب نور الدين يقوم بتحريره ويكتب أحد اعمدته. وكانت لي سلسلة مقالات قد بدأت في مراسلة الصحيفة بها ونشرت لي منها حلقة، ولخالي مقالات بالعدد. لكن نجيب لم يذكرني كثيراً بهذه المقالات بل ذكرني بلوحة صغيرة لطفلة هي اختي بصفحة ( نفاج للأولاد والبنات ) التي يحررها شاعر الشعب: محجوب شريف. وكان بين الفينة والأخرى ينظر لرفيقه. لما أعيته حيرتي لاستحضار هذه الذكريات دفعة واحدة قال لي مشيراً لرفيقه: ( يا مزمل دا محجوب!! ). (5)

جاء الضيفين العزيزين الاستاذ الصحفي نجيب نور الدين وأستاذنا شاعر الشعب ( محجوب شريف ) في إحدى الأمسيات الرمضانية لبيتنا لزيارة خالي ومحجوب شريف مثل عميري كان من ضيوف إبراهيم موسى في حانوت جدي بالسوق الكبير ( سوق أمدرمان ) وكثيراً جداً ما حدثني أبو خليل عن محجوب شريف وعن صداقتهما التي استمرت رداً من الزمن.

تضاريس النزوح الأخير:
نهار الخميس 14 أبريل 2016م قدمت بتدشين مجموعتي القصصية الأولى : تضاريس النزوح الأخير(6) بقاعة الشارقة وكان أبو خليل أحد الحضور. وعندما جاء دور في الحديث والرد على أستفسارات الحضور تعرضت في جانب من حديثي أنني أدين بثلثي ثقافتي لخالي إبراهيم موسى وكان عرابي الثقافي بسبب ما قرأت على يديه من مطبوعات وإصدارات وصحف ومما سمعت عبر أشرطة الكاسيت التي يمتلكها لندوات وأشعار قام بتسجيلها في حقب متفاوته ومناسبات مختلفة .. كذلك كان مصححي التاريخي – إن جاز لي التعبير - لكثير من أحداث قصص مجموعتي الأولى وكذلك لمجموعتي القصصية الثانية ( شاشاية ) التي لم يرها في شكل كتاب لصدورها بعد رحيله بسنة.

القلب الكبير يتوقف :

في اليوم العشرين من شهر أكتوبر لسنة 2016م عدت في آخر الليل من العمل وجدته جالساً على سريره يعاني من إلتهاب بصدره داهمه قبل أيام ولم تفلح روشتة الطبيب في إسكات سعاله. حييته وأطمأننت على صحته ثم ولجت للداخل كي أبدل ثيابي قبل أن أعود إليه ولكن عزرائيل سبقني إليه وقبض روحه وتوقف القلب الكبير إثر ذبحة صدرية مفاجئة.

ذكريات غير مرتبة:

وبعد ،،،
هذا غيض من فيض ذكرياتي مع خالي إبراهيم موسى قصدت أن لا أرتبها تاريخياً وتركتها تنساب في سلالة مثل أنسي ونقاشات مع خالي وكذلك لأن الكلام عن من يقرب إليك وجدانياً قبل قرابة الدم يكون الحديث عصياً ويتأبى القلم فلا يسكب مداده أفكاراً تتراص فيها بينها وتترابط كيما تشكل مادة مقال أو قصيدة أو أقصوصة .. ( فلترقد بسلام ) يا أبو خليل ولك من كل الرحمة والمغفرة والفردوس الأعلى من الجنة. .

مزمل الباقر
امدرمان في 11 نوفمبر 2019م



مراجع:
(1) نار البعد والغربة قصيدة للشاعر السوداني: عبد المنعم عبد الحي تغنى بها عدد كبير من الفنانين وتعبير ( بين اليقظة والأحلام ) هو شطر بيت في القصيدة.
(2 ) مقال ( إدعموا مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي ) : عادل عثمان عوض جبريل – نشر بموقع سودانيز أونلاين يوم 30 يونيو2011م
(3) سيف الدين الدسوقي ( شاعر ) : موقع ويكبيديا.
(4) مجلة الصبيان – موقع ويكبيديا
(5) مقال : ( يابا مع السلامة ) : مزمل الباقر – موقع الأنطولوجيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى