مصطفى الأسمر - بـزوغ.. قصة قصيرة

(1)

حاولت جاهدا أن أتجاهل قلقي ولكنه كان أقوى من كل محاولاتي وأعمق .. أغمضت عيني واستدعيت طفولتي وانطلقت أركض كعادتي كل صباح قبل الذهاب إلى المدرسة مخترقا شوارع المدينة كأنني أخوض معركة أو كأنني أعدو في سباق دورة أوليمبية .. تلفت حولي استحث الآخرين كي يشاركوني العدو فيدفعني التنافس إلى التجويد .. ضحكوا .. لم أعبأ .. دخلت المدرسة في آخر لحظة قبل أن يغلقوا بابها الحديدي المرتفع بالسلسلة الطويلة .. انتظمت في الصف وأنا ألهث .. ومع ذلك تقدم نحوي ضابط النظام ووكزني في جنبي وقال: حذاؤك لا يلمع .. والقميص ينقصه أحد الأزرار.

طلب مني أن أمد يدي أماما وظهرها لأعلى .. فعلت .. هوى بعصاه الرفيعة على سلاميات أصابعي بعشر ضربات سريعة متتابعة كأنه قصد أن تكون الضربات بعدد أصابع يدي .. تماسكت، وصممت أن لا أسحب يدي بعد كل ضربة مهما كان الألم.

(كانت الأرض منبسطة، وكانت السوق الصغيرة تجاهد كي تصلب أعوادها .. ولكن الجذور المتشعبة للشجرة العملاقة كانت تخلخل التربة من تحتها).

(2)

من البداية لم يرتح إلي .. وحتى لا أكتم شهادة في قلبي فأنا بدوري أيضا لم أرتح إليه .. من أول عام جاءت تقاريره السنوية السرية عن عملي غير مرضية .. كانت دون المتوسط .. ومع ذلك صممت ألا أداهنه كالآخرين .. فما حاجتي إلى التقديرات العالية ولا مطمع عندي في إعارة .. كان يحلو لي أن أستثيره لأراه هائجا وأنا واقف أمامه أتلقى تأنيبه وتوبيخه وقراراته وعلى وجهي ترتسم البراءة كاملة، ناشدني الزملاء أن أغير من أسلوب تعاملي معه، فكنت أتصنع البلاهة وأقول لهم: وهل أملك أنا حياله شيئا .. إنه هو الذي يملك أن يحرمني من الحوافز والمكافآت وبدلات السفر .. ومن سلطاته أن يوقع علي الجزاءات .. وكانت حجتي تلجم ألسنتهم فيصمتوا .. مع الأيام بت أخشى أن يكون الحال قد وصل بي إلى حد استعذاب ما يصنعه بي .. ثم تبين لي بعد حين أن خشيتي لا مبرر لها، فسلوكي أنا معه دفعه إلى تعاطي المزيد من حبوب الضغط وإلى جحوظ عينيه.

(لمحت الشجرة العملاقة الورود المتفتحة الناعمة .. غاظتها ابتسامتها وتوردها .. مالت بأفرعها الثقيلة عليها تريد أن تئدها .. تماسكت الورود أمامها كي لا تنفرط أوراقها الرقيقة).

(3)

بدون تردد قلت لهم: سأكون معكم.

حاولوا أن يبصروني بخطورة ما سأقدم عليه وبما سيجلبه انضمامي هذا من مصاعب.

فقالوا: ستلاحقك المشاكل والمتاعب.

قلت: أعرف .. وسيكون هذا بالنسبة لي أفضل.

قالوا: عليك أن تفكر طويلا وتتدبر أمرك على مهل.

قلت: ومن قال إنني لم أفكر.

قالوا: أعط نفسك مهلة وبعدها قرر .. وتذكر ما يصيبك فقد تتراجع.

قلت: الآن أو لا!! أبدا.

قالوا: نذكرك نحن ..

: لا فائدة .. فكل المشاكل تهون بجانب ما أنا فيه.

شهادة صدق وحق حاولوا ردي كثيرا، أكثر مما ينبغي، فعلوا المستحيل كي يثنوني عن عزمي لكني ركبت رأسي، ليس حبا في المغامرة أو رغبة في ذيوع الصيت ولكن لأن طاقتي على الصبر كانت قد نفدت تماما .. فبعد ما حدث معي لم يعد أمامي من طريق آخر أسلكه غير هذا الطريق .. أخيرا وافقوا وقالوا: أبرأنا ذمتنا ونصحناك .. فأنت في مطلع العمر وقد يأتي اليوم الذي تندم فيه لأنك اخترت أن تكون في هذا الجانب.

(حنت نسمات رطبة على أوراق الورود المبعثرة تضمد جراحها وتواسيها .. تحاملت الأوراق وجاهدت كي تصنع من تبعثرها وردة كاملة .. زمجرت الشجرة العملاقة فتحولت النسمة إلى ريح صرصر عاتية).

(4)

قالوا: الصبر .. عليك بالصبر.

قلت لهم: ومن أين آتي به .. لم يعد في الصدر ذرة منه ولا متسع له.

قالوا: تمسك به تبلغ ما تريد.

قلت: صبرت بما فيه الكفاية وأكثر.

ضقت بهم وبنصائحهم وتحذيراتهم وتعليماتهم .. وتراءى لي أنه قد آن الأوان أخيرا كي أتصرف كما ينبغي أن يكون التصرف .. وكأنهم كانوا يقرؤون أفكاري إذ قالوا: تذكر أن العيون كثيرة ومبثوثة في كل مكان.

طمأنتهم متحديا: أعرف مثلما تعرفون.

تضخمت رغبتي الضاغطة في لقائه قبل أن تقل الحماسة وتضعف الصحة .. تحايلت حتى وصلت إليه متخطيا كل الحواجز التي تحيط به .. بالمصادفة كان بمفرده .. بهرتني الحجرة .. قاومت باستماتة كي لا تصرفني عما جئت من أجله لوحات الجدار “الجوبلانية” ومنمنمات السقف المذهبة والأرائك الوثيرة وسجاد الأرضية الصوفي .. وعندما استخلصت نفسي من نفسي تنبهت وتذكرت مهمتي .. كان قد قام من فوق مقعده الوثير وهو يبتسم .. خدرتني ابتسامته وبدت لعيني سنارة تحمل طعما مغريا وهي تتأرجح أمامي في محاولة لاصطيادي وترويضي .. أغمضت عيني وقلت: آن الأوان لنصفي كل الحسابات المعلقة.

بدون اعتراض وافقني وقال: معك كل الحق .. اجلس أولا .. ثم اشرب قهوتك ثانيا، وبعدها نتفرغ لتصفية كل الحسابات، صغيرها قبل كبيرها .. أليس هذا هو هدفك ومقصدك؟

أدرت ما قاله في ذهني، بدا في ظاهره مقبولا ومعقولا لكني لم أكن مطمئنا له .. كان يناورني .. ملامحه كانت تفضحه وتقول هذا .. لاحظت أن عينيه تكتشف كل منافذ الحجرة تستنجد الآخرين لينتشلوه من انفرادي به .. تقدم نحوي وربت على كتفي وقال: تصور .. من زمن وأنا أبحث عنك لمكافأتك .. أين كنت؟

اندهشت وتأكد لي أنه يكذب .. فيقينا هو لم يرني قبل اللحظة .. بت على ثقة أنه ابتدأ يستعمل معي لعبة الوقت ليتمكن مني في النهاية.

(أضاءت الشمس الأرض المنبسطة فاتضحت الرؤية .. كشرت الشجرة العملاقة وهي تستشعر بالجذير الرفيع يضرب في باطن التربة ويستميت في التشبث بها كي يمكن للساق الوليد من النفاذ والصعود إلى سطح الأرض ثم البزوغ لأعلى حيث أشعة الشمس).

مصطفى الأسمر

مجلة الفيصل – العدد 1993 – يناير 1993


أعلى