نزار حسين راشد - نافذة مضيئة.. قصة قصيرة

انتدبتني جهة معنية،لتتبع قضية فساد مالي في أحد الفنادق،وتحت غطاء التعيين بوظيفة مدير مالي وإداري،وبحكم خبرتي السابقة شرعت في تدقيق كشف الحساب اليومي، كان كل شيء مطابقاً تماماً،وليس هناك أي شبهة في التلاعب.

ولأسبر غور هذا السر بدأت في استدعاء المسؤولين المعنيين،واستجوابهم بطريقة مواربة،بحجة التعرف إلى أوضاع العمل ،لم يفدني أيٌّ منهم بشيء،واستحوذ علي الشك بأنهم جميعاً متواطؤون على أمرٍ ما،ولكنه شكٌّ ليس هناك ما يسنده،وفكرت أن الخطوة التالية هي أن أسائل المدير نفسه،ولكن هذي كانت مخاطرة عدلت عنها،حتى لا أطلق في أذنه جرس إنذار،حيث تولدت لدي قناعة،انه لا بد ان يكون له ضلع في الموضوع،وعلى طريقة المخبر السري،بدأت في مراقبة تحركاته،ووجدت أنه يتغيب عن الحضور كثيراً، وانتابني الفضول في معرفة إلى أين يذهب،فتعقبته مرّة دون أن يحس،ولشدة دهشتي فقد توقف أمام فندق آخر،ناول مفاتيح السيارة للبواب ودلف إلى الداخل،انتظرت قليلاً،وتسللت إلى الداخل بمنتهى الحرص،ولمحته بطرف عيني جالساً إلى فتاة في مقهى التراس،كانت جلسة رومانسية،وحتى أُغلّب حسن الظن،قلت في نفسي، لعلها خطيبته،كونه أعزب وربما ارتبط بها حديثا،ولذا فهو متلهف على لقاءها كل حين.

وحتى أقطع الشك باليقين،دأبت على تعقبه مر.ّاتٍ لاحقة،كان يأتي إلى نفس المكان،ولكن الذي اختلف في كل مرّة هو الفتاة،ففي كل مرة كانت هناك فتاة جديدة،مما دفعني إلى الإنتظار لأرى ما الذي يحدث بعد ذلك،لم تكن النتيجة مفاجئة تماماً ،كان يصطحب الفتيات في سيارته بعد كل جلسة.

تعزّز لدي الشك بأنه متورط،وإلا فمن أين له بالمال لينفق على كل أولئك الفتيات.

لم يكن لدي الكثير لأفعله،كون السجلات والقيود كلها سليمة،فجلست في قاعة الضيافة،قبالة مكتب الإستقبال أراقب الرائح والغادي،ولفت نظري رجل أصلع ضخم توجه إلى مكتب الإستقبال،وبعد حديث قصير تناهت إلي أطرافه،عرفت أنه زبون جديد،ولكن مسؤول الإستقبال لم يأخذ منه أية بيانات ولم يفتح له صفحة على جهاز الحاسوب،فقط ناوله المفتاح وتركه يمضي!

ووثبت من مكاني متوجهاً إلى موظف الإستقبال كنمر ينقض على فريسة لاحت له فجأة،ولمعت في ذهني فكرة أن هذا هو مصدر الفساد،زبائن بلا قيود،إشغال للغرف خارج القيود،حملقت في الموظف بعينين مهددتين على وسعهماُ:

-هل هذا زبون جديد؟

-نعم!

- ولماذا لم تأخذ بياناته؟

- هذا ضيف الأستاذ جورج!

- وإذا كان،هل يعني ذلك أن تدخله إلى الفندق هكذا؟

ألا تعرف أن هذه مسؤولية كبيرة؟

ورأيت أن ألقي الرعب في قلب الموظف،حتى يدلي لي بالحقيقة كاملة،فاستأنفت:

- ألا تعلم أننا مسؤولون أمام الجهات الأمنية،عمن يدخل وعمن يخرج،ربما يكون الرجل جاسوساً أو مجرماً هارباً،وأنا ملزم بكتابة تقرير وتسليمك للجهات الأمنية.

امتقع وجه الموظف وبدأ بالتوسل:

- أرجوك يا سيدي! لقد هددني الأستاذ جورج بالفصل من عملي إذا لم أفعل،وأنا أعيل أمي وإخوتي الأيتام!

-حسناً،تعال إلى مكتبي واحك لي الحكاية من أولها!

وحكى لي الموظف الحكاية،ثلث غرف الفندق محجوزة باستمرار لزبائن الأستاذ جورج،منهم من يدفع أكثر ليقابل عشيقة أو بنت هوى،ومنهم من يدفع أقل مقابل أن يواظب على الإقامة في فندق الأستاذ جورج دون غيره،رجال أعمال وما شابه!

كنت بصدد إكمال تقريري لأرفعه للجهة المعنية حين رنّ التلفون الداخلي،كان موظف الإستقبال الذي أبلغني وهو يتلجلج أنّ الأستاذ جورج توفي على إثر سكتة قلبية وأنه في مستشفى الحياة،وأن صاحبة الفندق مدام أليسا تريدني أن أصطحبها إلى هناك لأنها فقدت أعصابها على إثر هذا الخبر،وأن عليها أن تهرع لتواسي صديقتها أم جورج والذي وظفته إكراماً لخاطرها أصلاً!!

كان المستشفى يروج ويموج بعائلة جورج وأصدقائه ومريديه،ولكني لم أر أياً من وجوه خليلاته اللاتي كنت سأميزّ وجوههن على الفور!

ورأيت أنه من اللطف أن أسأل الطبيب عن سبب الوفاة إذ ربما أطيب خاطر أم جورج التي كانت منهارة تماماً، بأن ما حدث كان قضاء الله وقدره!

ابتسم لي الطبيب ابتسامة غريبة،وكأنه يتكتم على شيء ما،ثم سألني :

-هل أنت أخوه؟

-نعم!

وبمهنية مطلقة قال:

- لا شيء مريب في الوفاة،مجرد منشطات جنسية،يبدو أنه بالغ في تناولها قليلاً،على أية حال،التقرير سيظهر كل شيء وسنسلمه للمركز الأمني لتتمكنوا من استكمال إجراءات الدفن!

خرجت من مكتب الطبيب لأفاجأ براهبة مندفعة نحوي،ولا بد أن مدام أليسا أخبرتها انني زميل جورج فاستوقفتُها قبل أن تندفع عبر باب المكتب وتصدمها الفضيحة:

-هل أنتِ من أقارب المرحوم جورج؟

- أنا أخته الوحيدة!

- لقد تحدثتُ مع الطبيب للتو،لا توجد أي شبهة في الوفاة،مجرد جلطة،قضاء الله وقدره!

جلست متهالكة على مقعد قريبٍ في الممر،رسمت على صدرها إشارة الصليب،واسترسلت في البكاء.

في تلك الليلة لم يراودني النوم مطلقاً حتى أوشك الفجر أن يؤذن،وأخيراً حسمت أمري،ارتديت ملابسي وأسرعت إلى مكتبي في الفندق،وقلت محدثاً نفسي:

لا داعي للتشهير برجل ميت،تناولت التقرير واطعمته لآلة التمزيق،وكتبت تقريراً بديلاً:بالاطلاع على القيود ومتابعة الإجراءات،يتبين أن سبب تدني الدخل حسب الشكوى المقدمة من مالكة الفندق هو تدني نسبة الإشغال واقبلوا الاحترام!

من خلف زجاج المكتب وقفت أراقب العالم،فجأة أضاءت نافذة بين زحام البنايات الغارقة في العتمة،وسقط الضوء على امرأة بملاءة الصلاة تنتظر نهاية الآذان لتشرع في صلاتها!

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى