حسن إمامي - مقبرة العشق..

عنوان راود الذهن بين نوم ويقظة. كان هو الحلم أو كان هو اشتغال الذهن. طفا على سطح التفكير. عاين ذاكرة الذات. جال افتراضيا في مكتبتها الخاصة. تصفح خيط الزمن والعلاقات، وبين الرفوف تذكر أن هناك ملفات، مثلما هي في طبقات النفس والوجدان. يمكن تمثيل وتشبيه الحياة الوجدانية مع العقلية بتقسيم شخص لعلاقاته ومواقفه وشعوره وتفكيره، بين لحظة منطق وقانون وتدبير يفرضه العمل، ولحظة حب وميول مشاعر يعيشه بعذوبة أحاسيس أو بحرقتها، طبعا بحسب تحولاتها المناخية والطقسية.

وفي التذكر رحمة، أو فيه رجم بغيب جديد. وفي الغيب ذكرى منسية أو فيها منفلت من وعي بعيد. هكذا يأتي الحديث هنا عن المقبرة. فكرت داخل مداخل هذا التحليل الذي شاكس وسادة النوم فجعل صاحبها في يقظة قد يسميها البعض أرقا أو سهادا، لكنها عند المهووس بعشق القراءة والكتابة فرصة ينتهزها ويقتطعها من خيط الزمن والوجود. قد تكون الكتابة هي ذلك البرزخ الذي لا يفصل، بل ذاك الذي يجعل تواصلا وعلاقة، منفذا يخترق العوالم والأماكن والأزمنة. والكتابة تفكير وتفاعل ذهني بين ما نتلقاه وما نترجمه حرفا مكتوبا.

هكذا سيكون هنا الحرف هو أداة الحفر والنبش والنقش. سيقوم بصقل كل ما هو صلب وصهر كل ما هو أصم. يخترق الظلمة بنور ينطلق في المدى اللامتناهي أو إنه لا يحب أن يعرف منتهاه أو صداه أو حتى رجعه في حينه. عبث يحقق الانتماء الحقيقي للوجود والكون أو الأكوان. عبث مرغوب يشتت القوانين الخادعة ويبعثر أجهزة مراقبتها لكي يسلك طريقه الجديد دون تكبيل ولا قيد أغلال.

حر هو ينتظر صباح الذهن الذي ليس بصباح. لا ليل يفصل النهار، ولا نهار يفصل الليل. كلما استفاق ونهض وجلس ورقن أو خطّ، كان يومه الجديد. لا ساعات تحده أو تحدده، وهو الضعيف في الوجود. أحلامه كبيرة وأجنحته بمقاس الجهد المستطاع. ويستحضر عمر الخيام وليله السرمدي العجيب الذي يسافر من خلاله بين العشق والخمر والعقل والتأمل والطرب والخيال والإبداع. حينما تخلص الذات إلى ذاته وتتحرر من قيود الاجتماع وثقافة التاريخ المنمطة للإنسان، حينها يكون الفرد قد انطلق طائرا أسطوريا مخترقا السماوات بالقدر الذي يشاؤه قدر التجربة والمحاولة والجهد المبذول. وكل يوم هو في شأن. يقتبس من العلا قدرتها واختيارها ونبلها وصفاءها وسموها، ويريد أن يكون ساميا. على الأقل، يقول عبارته ويضع نقطة نهايتها ويعود لسطر جديد.

ذهبت الكتابة بعيدا عن العنوان. ظن العنوان عنوانه أنه موت حتمي ونهاية حياة وجنازة قلب عاشق أو حبر ناضب أو قلم جاف أعماه الخط فلم يرسم إلا بحسه وحفره، ولم يكن قبره سوى ورقته ربما. لكن السؤال ظل قائما حول المقبرة وسر اتخاذها ودورها وفلسفتها وثقافتها ورمزيتها. أكيد سأبحث عن المحاولات والدراسات القائمة حولها لأستفيد وأستمر في الكتابة حول هذا الموضوع، قبل أن أعرج على جانب العشق الذي ستكون له مقبرته الخاصة هو الآخر. أكيد أن كل من وصل معي لحدود هذا المكتوب سيتساءل ويلاحظ غرائبية الحكي والاشتغال. بأي وعي اختار هذا الكاتب لهذه السطور موضوعه وتفكيره فيه؟

هل ستكون المقبرة مكان تجميع الأشلاء وحطام الذات والأشياء؟ احتراما للأموات طبعا، لا يمكننا تشييء هذا الفضاء إلى درجة كتابة مفارقة وساخرة. بالعكس هي كتابة مقارنة وموظفة لرمزية المكان، ما دام مكانا محاطا بأسوار مرئية أو غير مرئية. ما دام عالم أموات ينسب إليهم هذا المكوث الجماعي في قبور أو مقابر تجعل التسمية للفضاء بالمقبرة.

إليكم المقترح الآن، قبل الشروع في فلسفة الموضوع وتناول تفاعل الذات معه. سأسافر معكم داخل مكتبتي المتواضعة، محاولة تجسس على أسرار مكنونة تتضمنها. وكم من أسرار تضمنها المكتبات، وكم من أسفار تخوّف منها مراقبو العقول والضمائر وحرس الواقع والمصالح ومحافظو الزمن لذين لا يريدون تغييرا مخالفا لمقاسهم وميولاتهم العامة والخاصة.

حينما أتحدث عن المكتبة أستحضر قول الكاتب الإيرلندي، تلك الوصية التي تركها قبل وبعد موته: لا تعر كتبك لأحد فقد كوّنتُ مكتبتي من الإعارة.

ياه ! حقيقة صادمة يسجلها هذا البوح. اقتراف الإنسان لفعل شنيع بحكم القيم التي تسود المجتمعات، والتي تحرم السرقة والسرقات. فهل امتلاك كتب ليست لك يعتبر سرقة وجريمة؟ أكيد أن صاحب الكتاب نسيَ أنه أعارك كتابه فأصبح في حكم المفقود أو ما لم يسترجعه ممن وضع ثقته فيه وجعل الخدمة له بتقديم مصلحة راقية هي الاستفادة من قراءة كتاب. ومن سيكون هذا الجاني؟ أنا، أنت، هو، والآخرون والأخريات...

فهل يمكن اعتبار عدم استرداد كتاب سرقة شيء نعشقه ونحب امتلاكه؟ سيكون سادية وأنانية حين تعسفنا على حق الآخر. ولكنه الكتاب الذي يشكل جزءا من مكتبتنا. نريده أن يؤثثها، أن نرجع له كعنوان أو تصفح كلما أردننا الاستلذاذ بالمعرفة وبالمقروء وبالصفحات... يقع هذا مع الأسطوانة، والكاسيط، والأقراص المدمجة، وغيرها من وسائل تخزين الفن الومعرفة. لن أكون الوحيد المتورط في هذا لجرم. سأسألك أيها القارئ: ألا توجد عندك كتب لي أعرتها لك؟ لماذا لم تردَّها وأنت تعلم أنها لغيرك، لي؟ والحال هنا قد يكون مع متربصي التحف والآثار كذلك، غذا استثنينا المتاجرين بالعملات ولخصاص وفقر حال فيها.

لون آخر من العشق المدفون في مكتبتي. عندي وديعتين على الأقل فيها. هما ملفان يتضمنان كتابة حول العشق وفي العشق. رسائل عبارة عن أشعار تبادلها العشاق فيما بينهم. كيف السبيل إلى نشره هذه النصوص والتفاعل معها داخل هذا لموضوع. حينما أتلمس أوراقها أشعر بأن نبضا طمر بين سطورها، ينام نومة أهل الكهف. ربما سيستفيق من سباته وتعود له قيمة الحياة إذا ما قمت بنشره في هذا المكتوب هنا. وأسأل نفسي: ألن تكون خيانة ؟ لأمانة واختراقا لخصوصية ومسا بحق الآخر؟ طبعا ستكون التهمة لاصقة بالإيجاب في الجواب على هذه الأسئلة. فهل أتراجع وأغض الطرف والذهن على فكرة استغلالها وتوظيفها في كتابتي حول مقبرة عشق؟ وهل هناك عشق بدون شخصيات تحققه وتعيشه؟ ألم ينتهيا كطرفين من قصة حبهما وغرامهما ومغامراتهما؟ ألم تكن تلك العلاقة في مرحلة عمرية، وكانت العلاقة مشروعة حينها حقا لصاحبيها؟

كل هذا يجعلني في ورطة. رافعت ضد نفسي وكاتبتي ورغبتي في الكتابة. جعلت القيود والمنع لها. لكنني أكيد إذا ما وجدت تسامحا، أو ترخيصا، لنقل إنه إذن اكثر منه ترخيص، أكيد ساجعل تجربة الكتابة في تفجير مدفون هذه المكتبة، وفي الحديث عن هذه المقبرة، مقبررة عشق. وماذا عن كتاباتي الخاصة والتي أطمر فيها تجرابي في العشق، والتي دفنتها حية ومازالت تجس نبض غرامها وعشقها، بمعنى أنها حب لم يمت بعد؟


حسن إمامي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى