محمد صالح البحر - رجل كبير بحجم قطعة الشوكولاتة..

لم تتسع مخيلتي لأكثر من هذا، أن أفرد ذراعيّ عن آخرهما، وأن تثب قدماي لأعلي حتى أقف علي أطراف أصابعي فوق سور السطح، ومع الإرتفاع الشاهق للعمارة التي أقطن بها ستبدو نظرتي أكثر عمقا، بحيث تظهر الأشياء صغيرة جدا، وفي حجمها الطبيعي.

لم أستعذب فكرة الطيران إليها من قبل، ليس لأن مريم لا تستحق ذلك، لكنني رأيتها فكرة رومانسية بأكثر مما تحتمل علاقتي بها، ففي المرحلة التي تعقب تشبُّع الجسدين بمتعتهما الحسّية، حيث تتكشف كل الكهوف المختبئة خلف ستائر الأقمشة التي تراصت فوق بعضها، لتطلق نمورها الجائعة إلي حد النزق، وبلوغ ذروة الأوقات الخاصة، يعم هدوء شديد، عادة ما يكون بطعم البرد، ومذاق الرغبة في الإنصراف إلي حدائق أخرى، تبدو فيها رغبة البحث عن طرائق مختلفة وسريعة لملء الأمعاء المجهدة أقرب بكثير من رغبة البحث في بدائل قد تمتلك القدرة علي تجديد الإشتياق.

لمريم سبعة أيام من تكرار الأوضاع التي بدت اعتيادية، ممارسة العادات التي بدت نادرة ومملة، ومجاهدات ظننتها صادقة للتجدد والعودة إلي نقطة البدء، ولها أخيرا استحالة تكرار الأيام السبعة بنفس مسمياتها القديمة، بعدما عجزتْ عن أن تحتفظ بطعم الشوكولاتة في فمي، ذلك الذي سكبته في داخلي صغيرا القبلة الأولي للمرأة المكتملة، وهي تضع الشمس بين قدميها كل صباح، غير أنني لم أكن أدرك بعد، أن لها في كهف الذاكرة المختبئ عن عينيّ عشق مولانا الإمام لـ " لطائف الأسرار " و " الفتوحات المكية ".

المسافة الشاسعة بين نظرتي والأرض هي ما كنت أعتقد أنها تفصلني عن مريم، وهي ذاتها التي تم اختصارها في مسافة الخطوة بيننا، في السيارة التي لم نكن نعرف من أين بدأنا رحلتنا فيها، ولا إلي أين سينتهي بنا مسيرها؟! لكن النظرة التي فشلت في اسدال الغطاء علي عينيها، والإبتسامة التي فشلت في الإختباء رغم صمتها، ألقتا بنا إلي السير في هدوء علي أرض واحدة، وكانت الطريق ممهدة مرة وموحلة مرة.

ثلاث خطوات فقط تبقت لمريم حتى تصل إلي باب الغرفة المغلق، لتتأكد من الهمهمة المحمومة التي سمعتها في ايقاع سريع ومنتظم، واستطاعت أن تميز صوتي من بين ثنائيتها المشتبكة في لحظات انفلاتها من الايقاع، للخروج إلي الألفاظ التي طالما وصفتها مريم بأنها بذيئة، ولا تتناسب مع جلال اللحظة، وصفوها الرومانسي.

فلماذا استجابت أُكرة الباب للدوران في يدها؟!
لو أنها امتلكتْ إرادتها مثلما فعلتْ معنا من قبل، وفي أوقات كثيرة كنت ومريم خلالها نتسابق ملهوفين للوصول إلي جنة الجسد، لكنها أبقتنا أمامها كتلميذين خائبين ومشردين، يتمرغان في بلاط الصالة.

لو أنها امتلكتْ ضميرها للستر علي رجل أتعب نفسه في البحث عنها، وأتعب عينيه في التدقيق حائرا حتى وقعتا عليها، فاختارها من بين عشرات الأُكر الأخرى، التي ظلت تضوي ببريقها باكية علي عدم اصطفائها، وهم يرونه بعين خيالهم كيف يعتني بها كل يوم، ويجعلها مفتاحاً لجنته الخالدة.

لو أنني انتبهت جيدا لنظرتها الخاطفة التي رمقتني بها عند ولوجي بزهرة إلي ذات جنة الجسد التي تقبع من خلفها، لوقفتُ مُنبها إياها أن رجلا يحمل طعم الشوكولاتة بين شفتيه ليس له أن يستكين إلي التكرار أو الملل أو الراحة، وأن عليها أن تتفهم ذلك جيدا لتضعه في رؤيته الصحيحة بحيث لا يصير أمرا شخصيا، أو قريبا من مفاهيم الخيانة، لكن الفرحة التي اتكأتُ عليها شديدا ألهتني، وجعلتها تستجيب للدوران في يد مريم التي رفضت أن تنظر لنفسها في تلك اللحظة، ووقفت مأخوذة ومدهوشة ومنخلع قلبها من حميمية المشهد العاري.

كنت وزهرة قد وصلنا إلي تخوم العشق التي تُغرق مَنْ يصلها في بحره المتلاطم، ولم تكن الأمواج قد هدأت بعد، بالكاد كنا نلتقط حبل أنفاسنا اللاهث محاولين كبح جماحه، وقد اتكأتْ زهرة برأسها بعيدا فيما تمددتْ قدماها فوق بطني، لكننا لم نكن كذلك في عينيّ مريم، كنا مثل عاشقين قطعا لتوهما حبال العشق بعشوائية مجنونة، ذكرتها بجنون العشق الذي تبادلناه طويلا قبل أن تنسي طعم الشوكولاته بين شفتيّ، وبعد أن نسيتْ تماما أنني لن أتخلي عنه في يوم من الأيام.

وراحتْ تحاول بجهد شديد، رأيته في عينيها، استبيان كيفية وصولنا للوضع الأخير الذي ترانا عليه الآن، وحين تأكدتْ أنها لم تحياه معي، أن ثمة طقسا جديدا للعشق قد فاتها خلسة دون أن تدري، قامت قيامتها، قرصت بكل عزمها علي أُكرة الباب لتخبطه من خلفها للدرجة التي أحدثتْ صخبا هزَّ كيان الغرفة كله، كاسرا صمت المشهد الذي لعبت فيه الرؤية فقط دور البطولة المطلقة.

لا أنكر أنني أردت الذهاب خلفها، أن أشرح لها، وبكل الصدق، أنني لا أعرف كيف وصلتُ مع الزهرة إلي هذه التخوم اللانهائية، لكنني أدركت في ذات اللحظة أن ذلك سيبدو تعبيرا صادقا أيضا علي أنني عشت اللحظة بكيان حقيقي، أنني انغمست في روح اللحظة الجسدية بعمق كانت ستكرهه مريم للدرجة التي تؤهلها لامتلاك الاستحقاق الكامل في إنهاء العلاقة، لذلك فضلتُ العودة إلي صمت المشهد الذي بدا جميلا، خصوصا بعد ذهاب صخب دوي الباب، وعودة الجميع إلي النظر بهدوء شديد داخل ذاته لإعادة ترتيبها من جديد.

الرومانسية تنفعنا في الخطوة الأولي، لنحيا بها الخطوة الثانية، لكنها في الخطوة الثالثة وما بعدها ستنهار تماما في مواجهة متطلبات الجسد، إن هي عجزت عن إقامة جنته الدائمة، المتجددة.

فوق سور سطح العمارة العالية أقف على أطراف أصابع قدمىَّ، رأسي مرفوع في مواجهة السماء، وذراعاي مفرودتان عن آخرهما، أشعر أنني خفيف للدرجة التي تؤهلني للطيران بحرية مطلقة، وأدرك أنني رجل كبير بحجم قطعة الشوكولاته التي أحبها، وحين تأكدتُ من طعم الحرية في فمي عشقتُ الطيران إليها، ليس مهما إلى أعلي أو أسفل، فالتجربة ليست محاولة للكسب أو للخسارة، بل محاولة حثيثة للمعرفة.

وأنا أطير تراءتْ لى حقائق كثيرة، بعضها قريب وبعضها غائم، لكنها توالت مثل شريط سينمائي لا يكف عن التدفق وإثبات الوجود، اليد العليا التي تحاول تشكيلنا في مقابل توقنا الشديد للحرية، الأبواب التي علينا اجتيازها خلال رحلة الحياة في مقابل الحياة نفسها، آدميتنا وحيوانيتنا هما تناقض اللحظة الواحدة بداخلنا، ترجمة أسرار الرحلة من البدء إلى المنتهى، ومع ذلك ستظل هناك دائما تشكيلات غاية في الروعة والدهشة، يمكننا خلقها من تشكيلنا البسيط المعهود، فقط لو أننا راقصنا الحياة كما ينبغي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى