عبداللطيف الوراري - في إيقاع الشعر: من أقيسة العروض الخليلي إلى نسق الخطاب

قام الخليل بن أحمد وتلامذته بعملٍ مُهمٍّ وأساسيٍّ في علم العروض بوصفه نظريّةً في الإيقاع نشأت عن الشعر العربي وممارساته، وهي لم تضع نصب عينيها استقراء الأنماط الإيقاعية ووصف مستويات تشكيلها شعريّاً وحسب، بل إنّها ظلّتْ حيّة وواقعاً جماليّاً يعتمل في حياة الشعراء وطرائق إلهامهم. وإن كان أكثر هؤلاء يجهل بقوانينها كما أُنْزلت في مقاساتٍ محدّدة ودقيقة، إلّا أنّهم تغنَّوا بشعرهم ورجّعوه بالإنشاد الذي يوشّيه ويكسبه فضيلة الإيقاع السليم. وفي القرن الذي عاصره الخليل، والقرنين الثالث والرابع للهجرة، كان الشعر العربي ما يفتأ يُطوِّر بنيات شكله الشعري، فافترع الشعراء فنوناً في البديع، وعنوا باللّغة أيّما عناية، وبالأوزان الشعرية توقيعاً وتقفيةً وتجنيساً، حتى تأثّر بما صنعوا شكْلُ القصيدة من حيث نسيجها وبنيتها الإيقاعية وسُلَّم قيمها الجمالية. ولم يكن ذلك يجري خارج حاجات التلقّي والذوق الفنّي المتجددة.

نظرية الإيقاع المُجرّد:

لا يخفى على الدارسين الذي بحثوا في نظريّة العروض العربي وهوامشها المتنوّعة الجهود المدهشة التي بذلها علماؤنا القدامى، في مستوياتٍ ورؤىً مختلفة، من أجل بلورة مفهومٍ خفيٍّ وزئبقيٍّ مثل مفهوم الإيقاع الذي دلّوا عليه بعبارات متنوّعة ومتباينة بحسب الأوضاع المحلّلة، وبحسب أوضاع التلقّي وآليّاتهِ (العروضية، البلاغية والموسيقية ـ الفلسفية) المتنوّعة من حقل إلى حقل، من عصر معطى إلى آخر. بيد أن تلك الجهود ظلّت متفرِّقة، ولم يحصل بينها حوارٌ نظريّ شامل يتجاوز الصعوبات المنهجية والمعرفية القائمة والمفترضة، فلم تظهر أي نظريّة حاولت أن تُقدّم إطاراً مُوحّداً لدراسة الإيقاع، وتبدأ ممّا توقّفت عنده النظريّة وتفوّقت فيه داخل إطار علم العروض. هكذا، كانت «نظريّة» الإيقاع الوحيدة والمتاحة هي «النظرية القَدَميّة» التي كانت تُقدّم الوزن، وتُقارِبه «زمانيّاً» بوصفه هو الأساس، وليس الإيقاع. وبالتالي، ظلّت أنساق النّظْم مُجرَّد معايير مُتّفق عليها تُنظِّم الوحدات غير الدالّة: التفاعيل، وعدد المقاطع. ومثل هذه الخُطاطة لا تُثِّر في ماهية الصوت، ولا المعنى، بحيث أنّ الوزن الشعري نفسه مُستقلٌّ، جوهريّاً، عن المعنى.
كان التصوُّر العروضي «المُجرَّد» لإيقاع الشعر العربي هو السائد، وهو ما ساهم في الحيلولة دون تبلور التصوّرات الأخرى الممكنة. وكان بعضٌ من هذه التصوّرات يتفتّقُ ويعِدُ بنتائج مذهلة، لكنّها انتهت إلى عصر بدا غير مُستعدّ لاستقبال الأعمال الواعدة واستثمارها، بعد أن تفشّتْ في فضاء الثقافة العربية العالمة آليّات النقل والاجترار والتلخيص، وغنمت كتبُ المُقلّدين، في علومٍ شتّى، صمت العقل وروحه المبدعة، فأخذت تشقّق الأبواب وتكثِّرها وتُردّد صورها منفصلةً عن بعضها بعضا. فكان أن اجترّ العروضيّون أنفسهم نظريّة الخليل وقتلوها شرحاً وتكريراً، ، بلا إنتاجيّة أو معنى.

الإيقاع، هذا اللانهائي:

إنَّ الإيقاع، من أكثر الكلمات التي لها تأثيرٌ سحريّ، ولا يمكن أن يُحدَّد معناها تحديداً كاملاً. لم يأل كثيرٌ من علماء الشعر والجمال والبلاغة، ومن منظِّري الخطاب، تحديدها، لكن من دون كبير نجاح، وسنحاول نحن بدورنا. كتب الشاعر بول فاليري في أحد دفاتره: «كلمة (إيقاع) هاته لا تبدو لي واضحة، ولم أستعملها البتّة». وبمثل ذلك أوحى أحد أهمّ شعرائنا في العصر الحديث، وهو عبد العزيز المقالح، بقوله: «إنّ قوانين اللاوعي التي نجهل أسرارها تتدخل في صوغ هذا الإيقاع». ومع أنّ هذا (الإيقاع) نُحسّه من الجهات جميعاً: في خفقان القلب، مساقط الماء، دقّات الساعة، تعاقب الليل والنهار، أطوار القمر، عودة الفصول، الرقص على الموسيقى، وأيضاً ـ كما هنا ودائماً ـ في الكتابة وفق تواضعنا على تسميته بـ»الإيقاع الشعري». لكن، هل نتحدّث طبعاً عن الشيء نفسه؟ بالطبع، لا. إنّ الإيقاع ليس لاشيء بالتأكيد، ولا موضوعاً يُراد الإمساك به. السؤال لا يمكن أن يُطْرح هكذا: ما هو الإيقاع؟ بل بالأحرى: ما الذي ندعوه إيقاعاً؟ غالباً ما تعتبر صعوبة تعريف المفهوم عرضاً، قبل أن يُعْرف ما هو. الرِّهان يكون باستكشافه، وبقدرما يكون محتجباً يكون مُهمّاً للغاية.

بنفنيست ورؤيته إلى الإيقاع كخطاب:

في مقالته «مقولة الإيقاع في تعبيرها اللساني»، داخل الإرث الأدبي والفلسفي الإغريقي ـ اللاتيني الذي انفتح عليه علماء المسلمين في الموسيقى والفلسفة، يعود الفرنسي إميل بنفنيست إلى جذور المقولة ليكتشف العلاقة اللّطيفة المعقودة بين الإيقاع وحركة الأمواج «المنتظمة»؛ وهو ما ينتبه إليه، تجوُّزاً، فريزر، بقوله: «عندما نقف على شاطئ البحر نراقب الأمواج تتكسّر على الرمل لتعود من جديد، نجد ثمّة تشابُهاً أساسيّاً في حركة كلِّ موجة، لكن ليس من موجتين تتكسّران في شكل متناظر تماماً. وقد ندعو هذا التشابه في اختلاف حركة الأمواج بالإيقاع». ما ميّز تحليل بنفنيست هو أنّه عاد إلى المعاني المختلفة لكلمة (إيقاع) عند كثيرٍ من المؤلفين الإغريق، من أمثال لوسيب، وديمقريطس، وهيرودوت، وأرسطو، وأخيراً أفلاطون، منتهياً إلى أنّها تدلُّ على «الشكل المميّز، الصورة المتناسبة، التنظيم»، كما تعني «الترتيب المتميّز للأشكال داخل الكُلّ»، و»الكيفية الخاصة للجريان»، أو تُحيل على «شكل الحركة الذي يكتمل فيه الجسد الإنساني وهو يرقص» كما لدى أفلاطون.
يشقُّ علينا أن نعرف أنّ هذه المعاني الأوّلية لكلمة (الإيقاع) تظهر أبعد ما تكون عن الاستعمال المعاصر للكلمة نفسها. إنّ ما نقصده، اليوم، بـ(الإيقاع) ليس، في نهاية المحصّلة، إلّا نتاج سلسلةٍ من الامتدادات في حقل من الأنشطة الإنسانية وخواصّ الكائن، الّذي يتّسع أكثر فأكثر. هكذا، كما يُثْبت بنفنيست، «نُسْقط، من جهة النظام الإنساني، الإيقاع على الأشياء والأحداث». والتعميم اللِّساني لاستعمال الكلمة يُعدُّ، هنا، شَرْطاً وليس نتيجة، لوحدة الإيقاع بين الإنسان والطبيعة؛ فاستخدام اللُّغة هو الّذي يَصُوغ وجود تفكيرنا، وليس العكس. والإنسان هو الّذي يُسْقط خُطاطات فكره على العالم، وليس العالم الذي يفرض «إيقاعاته» على الإنسان. وإذا كان لنا من حُكْمٍ على هذا التعميم المتعسِّف، فإنّما علينا أن ندين لعالم اللُّغة بنفنيست بهذا الاكتشاف، وهو يقول: «بعيداً عن التمثيلات التبسيطيّة التي تُوحي بها الإثيمولوجيا السطحية، وبمنأى عن تأمُّل لعبة الأمواج على الضفّة، حيث اكتشف الهيليني البدائي «الإيقاع»، فإنّنا، على العكس من ذلك، نتكلّم المجاز عندما نتحدّث عن إيقاع الأمواج. وقد لزم تأمُّلٌ عميقٌ في بنية الأشياء، ثُمّ في نظريّةٍ للقياس تُطبَّق على وجود الرقص ومنحنيات الغناء، لكي نتعرّف على مبدأ الحركة الموقَّعة ونُحدِّده. فليس هناك من «طبيعيٍّ» أقلّ من هذا التدشين الحثيث، بجهد المفكِّرين، لمقولةٍ تبدو لنا ملازمةً، بالضرورة، للأشكال المتمفصلة للحركة التي يشقُّ علينا الاعتقاد بأنّنا وعَيْنا بها منذ الأصل».

في شعرية الإيقاع:

أدرك هنري ميشونيك قيمة عمل بنفنيست الذي «خلخل وقوّض ليس مفهوم الإيقاع فحسب، بل وإدماجه في نظريّة الدليل»، وهو ما ساهم في بلورة هذا المفهوم داخل شعرية الخطاب التي جعلها ممكنةً، بحيث «تُحلّل القصيدة باعتبارها كاشفةً عن اشتغال الإيقاع داخل الخطاب». بوصفه كتنظيمٍ، و»تشكُّلاتٍ مخصوصة للمتحرّك»، أو كـ»ترتيبٍ مميّزٍ داخل الكلّ»، و»شَكْلٍ من الحركة»، يكون الإيقاع قد هجر التعريف الجامد الّذي أبقاه داخل الدليل وأولويّة اللسان، وصار بإمكانه أن يلج إلى الخطاب، ويشتغل عبره.
داخل نظريّة الإيقاع التي جعلها بنفنيست ممكنةً، لا يكون الخطاب في نظر ميشونيك استعمالاً للأدلّة، بل فعالية للذّوات. وانطلاقاً من ذلك، قدّم عملاً خلّاقاً أضاء من خلاله الإيقاع وتشهّياته وأبعاده شديدة الرهافة، في كتابه ذائع العطر «نقد الإيقاع: الأنثروبولوجيا التاريخية للغة». عبر فصول هذا الكتاب الأشبه بثورة كوبرنيكية في مجال الإيقاع، أسس ميشونيك نظرية جديدة للإيقاع انطلاقاً من اعتبار «الإيقاع هو الدالّ الأرقى». ويُرشدنا إلى أنّ نقد الإيقاع لن يكون فحسب نقداً لنظريات الإيقاع، بل لن يكون ممكناً، وضروريّاً، إلا ببناء نظرية للإيقاع تؤسّس الإيقاع في اللغة كخطاب. ولم يكن نقده للإيقاع سوى نقْدٍ للشعرية، سواء المحصورة في الشكلانية والبنيوية التي تخلّت عن نظرية المعنى والذات والتاريخ وسجنت نفسها داخل نظرية الدليل وأولوية اللسان، أو الشعرية التاريخية للخطاب والذّوات، أو شعرية اللغة التي تقوم على أنساق الأدلّة؛ فيما أقام رهانه على شعرية الخطاب التي يرى أنها تتعاضد ولسانيات الخطاب، إذ ليست لها أدلة مادامت ترى التواصل، والقصيدة كأيّ خطابٍ، يتجاوز الأدلّة.
بهذا الافتراض النظري غير المكتمل الذي يعطيه الأسبقيّة بوصفه مبدأً لنسق الخطاب، يتحرّر الإيقاع من إسار نظريّتي الإيقاع المجرَّد والشكل، ويستعيد عناصر حيويّته وتشكُّله اللانهائي. وفي هذا المستوى من التحليل، نتعرّفُ على ثلاثة أصنافٍ من الإيقاع مشتبكةٍ بالخطاب: الإيقاع اللساني (إيقاع الحديث داخل أيّ لغة، إيقاع الكلمة أو المجموعة، وإيقاع الجملة)، والإيقاع البلاغي (المتغيّر وفقاً للأعراف الثقافية، العصور الأسلوبيّة، والسجلّات)، ثُمّ الإيقاع الشعري بوصفه تنظيماً للكتابة.
في «سياسة الإيقاع، سياسة الذّات»، واصل ميشونيك مجهول البحث في الإيقاع ونقده. فبعد أن بحث حركة الكلام داخل الكتابة وكشف كيف يُحرّر الإيقاع الذات، يسعى إلى أن يجعل من تفكيره في الذّات «سياسةً» للذّات، شارطاً بأنّ ما تحتاج إليه القصيدة هو ذات القصيدة، من ذاتٍ إلى ذات. هذه الذّات النوعيّة ينبغي أن يكون مُفكَّراً فيها باستمرار. يقول:»هذا التفكير ضروريٌّ لنا كلِّنا، حتّى إن لم يُعْرف بعد. إنّها ديمقراطية القصيدة، تلك التي تسعفنا للتفكير في مقولة الفكر الشعري وعبره بما يسمح له بأن لا يُحوِّل التمثُّل السائد للغة فحسب، بل أن يعيد اليوم، وبشكل آخر، اكتشاف الوشيجة المنسية بين اللغة، الشيء الأدبي، الأخلاقيّات والسياسيّ. كما بين الإيقاع والذّات وشيجة تتأتّى ممّا نعني به في الفكر الشعري اكتشافَ الإيقاع، بالمعنى الذي لا يكون فيه تتابعاً شكليّاً بل تنظيماً للذّات».
وهو يستعيد فكرة هيروقليطس عن الإيقاع، يُبْرز ميشونيك أنّهُ «للمرّة الأولى، منذ أفلاطون، يمكن للإيقاع داخل اللُّغة أن يتجلّى كتنظيمٍ للحركة في الكلام، وتنظيمٍ للخطاب عبر الذات، وللذات عبر خطابها: «ليس ثمّة من صَوْت، ولا من شَكْل، بل الذّات». فلا يوجد تَمفْصلٌ مُزْدوجٌ للُّغة، إنّما الدوالّ فحسب. وفي فهمه، يرى أنَّ الدالّ يُغيِّر المعنى، بحيث لا يتعارض مع المدلول، وأنّ الخطاب يُنْجز داخل علم الدلالة الإيقاعي والتطريزي – الذي لا يتِمّ بحسب الوحدات المفكَّكة للمعنى – وداخل فيزياء اللُّغة، منتبهاً إلى تماسّ الصوت والجسد في المكتوب.

من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر:

رغم وفرة الدراسات التي أُنْجزت بصدد الإيقاع، خاصّةٍ داخل «نظريّات» الشعر العربي قديمه وحديثه، إلّا أنَّ أكثرها وقع سجين العروض ومعاييره الاصطلاحيّة الثابتة، ولم تنفلت بالنتيجة من الخلط بين الإيقاع والوزن. في المقابل، هناك دراساتٌ قدّمت تصوّراتها للإيقاع خارج ما استقرَّ عليه العُرْف النقدي، بعد أن تسلّحت بمناهج في الوصف والتحليل جديدة ومبتكرة، بما في ذلك التي أنجزها محمد شكري عياد، وكمال أبو ديب، ومحمد العياشي، وسيد البحراوي، وحسن الغرفي، وعلوي الهاشمي، ومحمد مفتاح، تمثيلاً لا حصراً.
الإيقاع ليس الوزن، إنّه أشمل من الوزن. لكن، لا يزال الالتباس بين الإيقاع والوزن حاصلاً في أذهان الكثير من الدارسين إلى اليوم، إذ ما فتئ يعتقدون بأنّ هذا هو ذاك بعينه، وأنّ معناهما واحد. فإذا كان الوزن ظاهرةً صوتيّةً تنشأ من تساوي أجزاء البيت الشعري وتردُّدها على مسافاتٍ أو مقادير موزونة متساوية أو متناسبة في الكمّية، فإنّ الإيقاع يضمُّ النسق الصوتي الذي لا يُخْتزل في الوزن فحسب، وإنّما يشمل القافية والنبر والتنغيم والتكرار وتوازي المقاطع وسوى ذلك من المحسّنات البديعيّة، إلى جانب النسق الدلالي الذي يخصُّ حركة المعنى ودلاليّته التي تُحوّل بنية القصيدة ببعديها الزماني والمكاني، ومجاليها الشفوي والمكتوب. ولهذا، فالوزن ثابتٌ قابلٌ للقياس، فيما الإيقاع مُتعدّد ولا يقبل العدّ ولا القياس. الإيقاع هو كلٌّ، لا إيقاعا خارجيا وآخر داخليا.
إذا كان الوزن يضع إيقاع البيت داخل البنية، الصّوتية، فإنّ الإيقاع لا يكون إلّا داخل نسق الخطاب، فيكون إيقاع الخطاب تركيباً لكلّ عناصر الخطاب، بما فيه عناصر الإبلاغ الشعري(المقام/ الباثّ/ المتلقّي). هكذا، يمكننا أنْ نستقصي إيقاع قصيدة التفعيلة مثلما النّثْر من مكان شعريّة الإيقاع كتصوُّرٍ إجرائي يفترض اللسانيات والبلاغة وشعرية الخطاب في آن، لأنّ ما من كتابة فجّرت دالّ الإيقاع كهذه القصيدة. فالنّحو، نحو القصيدة، يُشكِّل جزءاً تأسيسيّاً منْ إيقاعها، ومن دلاليّتها. فالإيقاع يظهر غير منْفصل، البتّة، عن التّركيب، والمعنى، والقيمة داخل القصيدة؛ وهو يرتبط بأصغر وحدة (صامتية، مصوّتية، مقطعية، معجمية)، وبأكبر وحدة /وحدات الخطاب المتغيّرة التي تتضمّن وحدة الجملة. وترجع أولويّة الإيقاع، المتجرّد من العروض، إلى الأولوية التجريبية للخطاب على اللسان. وبالتالي، لن تعود الوحدة الإيقاعية في نصّ قصيدة النّثر هي التّفعيلة كما يحصل في أشكال أخْرى من الشعر العربي قديمه وحديثه، بل تصبح الوحدة هي الجملة اللّغوية بوصفها تركيباً دلالياً لا وزْنيّاً، وتتوزّع القصيدة إلى «أبيات» تتحرّك وفْق «حركة المعْنى» بما تُشيعه من ضروب وتلوينات بلاغية ودلالية بحسب موقعها في نسق الخِطاب، لا وفْق قوانين وزنية قارّة وقبْليّة.
إنّ الإيقاع أهمُّ داخل نسيج اللغة، مُشْتبكاً بدوالّها جميعاً، إذ هو اللّامتوقَّع الذي يتجاوز القياس، والمتّصل – المنقطع، والجديد داخل المكتوب، كما الحياة. وهو، لذلك، «بالغ الأهمّية داخل اللُّغة بدلاً من أنْ يُزجَّ به في العروض، العروض الّذي يقيس الأزمنة التي ليست لأحد، لأنّها ليست لا زمن المعنى، ولا زمن الذّات»، كما يقول هنري ميشونيك.


عبد اللطيف الوراري


أعلى