أمل الكردفاني- أين ذهب كنز بني قريظة ويهود خيبر

كانت الليلة الحمراء التي أعطت إنذارا لليهود في خيبر ؛ فأمام حصون بني قريظة تم قطع رؤوس الذكور من اليهود أجمعين كل من نبت له شارب أي كل من بلغ الخامسة عشر فما فوق. قيل بأن عدد من قتلوا هناك بلغ التسعمائة وقيل سبعمائة وقيل أربعمائة. أما النساء والأطفال فقد تم سبيهم.
ليلة طويلة مهولة بالرعب ؛ انتهت بالبحث عن كنز اليهود الخفي وباء البحث بالفشل.
وأيا ما كانت أسباب حصار حصون يهود المدينة من ناحية التبريرات الإسلامية فالمؤكد أن الجانب الاقتصادي لم يك غائبا ، فبحسب صحيفة المدينة والتي كانت معاهدة أعطت المسلمين الكثير من الحقوق والسلطات وأهمها السلطة التنفيذية (كاملة) ، والسلطة التشريعية والسلطة القضائية. فهي في المقابل فرضت على اليهود أعباء كبيرة ، حيث ألزمت يهود المدينة بدفع المال لتجهيز جيوش المسلمين في أي حرب يشنها المسلمون أو تشن على المسلمين.
والراجح عندي أن غزوة الأحزاب قد كشفت عن وضع اقتصادي سيئ للمسلمين والأرجح أن اليهود رفضوا تنفيذ التزامهم بدفع أموال في حروب المسلمين التي ليس لهم فيها ناقة ولا جمل...
لقد كان اليهود مبذرين جدا وكانوا ينفقون انفاق من لا يخشى الفقر ، تشهد على ذلك حصونهم العالية التي اضطر المسلمون لضربها -بعد ذلك- بالمنجنيق ولم تكن الحصون أمرا معهودا عند العرب. هذا الإنفاق الضخم انعكس حول تصورات شاعت بين العرب بأن لليهود كنز لا ينضب ، كنز يخفونه عن أعين الناس ، وهو سبب بناء حصونهم رغم أنهم نادرا ما يخوضوا حروبا. فإخفاء الكنز هو إذن السبب الجوهري لبناء الحصون.
مع ذلك فمقتلة بني قريظة لم تفض لأي نتيجة ، فالمسلمون لم يجدوا أي كنز ، كان ما وجدوه مجرد أشياء عادية كبضعة مئات من الدروع والسيوف لا غير.
أين ذهب الكنز يا ترى؟
وكيف ينفق اليهود على أنفسهم بكل ذلك البذخ إن لم يكونوا يملكون كنزا.
لقد ظن المسلمون حينئذ أن الكنز قد تم نقله لحصون اليهود في خيبر ، فاتجهوا بسرعة إليهم...حيث كان الوضع الاقتصادي للمسلمين يزداد سوءا حتى أن جنود المسلمين ذبحوا الحمير على قدور ضخمة ليأكلوها ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم منعهم من أكل لحم الحمير بل أمر بإهراق تلك القدور التي كانت أملهم الوحيد في انقاذهم من الموت جوعا.
وما حدث من الرسول ص أكد أنه رسول حق من الله تعالى لأنه لو لم يكن كذلك لفضل أكل الجنود للحمير بدلا عن الهزيمة من الجوع ولكنه الإيمان بضرورة اتباع حكم الله مهما كانت الظروف. وهذا ما زاد من عزيمة جنود المسلمين الذين انقضوا على حصون اليهود حصنا حصنا فتساقطت وهم يذبحون الذكور ويسبون الأطفال والنساء ويغنمون الأموال والطعام ، ولكن كل هذا شيء وكنز اليهود الخفي شيء.
لم يجد المسلمون أي كنز ، الحصون الثمانية الكبرى التي سقطت لم تكن تحتوي سوى على الأموال العادية (سيوف ودروع ونقود وطعام وبهائم..الخ) .. فأين الكنز؟!!!
جاء في السيرة النبوية لابن هشام (ج2-ص337):
(وأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكنانة بن الربيع ، وكان عنده كنز بني النضير ، فسأله عنه . فجحد أن يكون يعرف مكانه ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من يهود ، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك ، أأقتلك ؟ قال : نعم .
فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخربة فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثم سأله عما بقي ، فأبى أن يؤديه ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -الزبير بن العوام ، فقال : عذبه حتى تستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزند في صدره ، حتى أشرف على نفسه ، ثم دفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى محمد بن مسلمة ، فضرب عنقه).
ويتبين من الواقعة المذكورة أن ما وجده المسلمون من أموال اليهود لم يكن يرقى ليكون كنزا بضخامة الأسطورة التي شاعت عنه، فكنانة لو كان يعلم كنزا مدفونا ما جازف بحياته ولأفضى بمكانه.
ولكن ..
إن لم يكن هناك كنز....فكيف كان اليهود ينفقون بكل ذلك البذخ حتى ظن كل أهل الحجاز وغير الحجاز أنهم يدفنون تحتهم بحورا من كنوز الذهب والفضة؟..

في الواقع..
لقد كان الكنز أمام أعين المسلمين لكنهم لم يروه:
لقد بحث المسلمون عن كنز اليهود ، نقبوا الجدران وحفروا الأرض ، فوجدوا كل شيء ما عدا الكنز.
معركة خيبر كانت محمولة بالآمال العراض لذلك لم يسمح لجميع المسلمين بغنائمها ؛ لقد كانت الغنائم الموعود بها (أي الكنز) فقط من نصيب الذين كانوا مع الرسول (ص) في صلح الحديبية. ولا غنيمة لغيرهم.
إنها الغنيمة التي كانت تعتمد على اكتشاف كنز اليهود حتى أن القرآن تنبأ بها:
(وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (20) - سورة الفتح.
وقد جاء في تفسير الطبري:
(وقال آخرون: هذه المغانم التي وعد الله هؤلاء القوم هي مغانم خيبر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ) قال: يوم خيبر, قال: كان أبي يقول ذلك.
وقوله ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ )اختلف أهل التأويل في التي عجلت لهم, فقال جماعة: غنائم خيبر والمؤخرة سائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت إلى قيام الساعة).
مع ذلك فما وجده المسلمون لم يرق لوصفه بالكنز.
كان الكنز في الواقع أمام أعين المسلمين لكنهم لم يروه..ذلك بأن فكرة المال عندهم كانت منحصرة في مفاهيم المال التقليدية المادية.
أين كان كنز اليهود إذا؟

▪كنز اليهود الكبير: الأوراق التجارية:
لقد نشأت الفكرة الأولية للأوراق التجارية عند اليهود قبل كل البشر ، لقد بدأ الأمر بأن كان التجار اليهود الكبار يودعون ذهبهم وفضتهم لدى بعض الصيارفة ، ويحصلون على صك بتلك الوديعة ، فترى اليهودي يقطع الفيافي لا يخشى من قطاع الطرق ولا النهابين ولا السراق فهو لا يحمل في جيبه مالا بل مجرد ورقة مختومة قد تكون مكتوبة بالآرامية أو العبرية أو أي لغة كانت- -خلافا للعرب الذين لم يعرفوا من أعمال الصيرفة الكثير- حيث كان اليهود من دهاقنة المال ؛ وقبل الإسلام بستة قرون تقريبا كانوا يمارسون الصيرفة حتى داخل المعابد إلى أن ضربهم المسيح وطردهم منها ؛ جاء في إنجيل يوحنا:
(فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ ؛ اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. 16وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: «ارْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ». 17فَتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي».) يوحنا 2: 12-17.
كان اليهودي يحمل صكا وديعته لصيرفي يهودي آخر في بلد آخر بعيد فيقوم هذا الأخيير بتسييل الصك مقابل استقطاع معلوم عن هذه الخدمة وهكذا نشأت فواتيح الأوراق التجارية من كمبيالات وشيكات وخلافه.
لقد هجمت جيوش المسلمين على حصون اليهود ؛ وأغلب المسلمين كانوا أميين (لا يقرأون ولا يكتبون) ، وحتى إن قرأوا تلك الصكوك لما فهموا منها شيئا لأن مفاهيم الصيرفة عندهم كانت شبه منعدمة ، فالتجارة عندهم بيع سلعة بنقود أو مقايضة سلعة بسلعة وغير ذلك من بيوع واضحة المعالم.
وحصون بني قريظة وباقي اليهود في المدينة أو خيبر كانت تعج بتلك الصكوك ، فاليهود كانوا يوزعون أموالهم عبر العالم وهم يعتمدون على الصكوك التي يحتفظون بها كوثائق تثبت حقوقهم عند المودع عندهم تلك الأموال.
اكاد أجزم بأن المسلمين لم يهتموا بوجود أوراق (بردي أو جلود..الخ) حينما اقتحموا حصون اليهود.
كانوا يبحثون عن كنز ، والكنز هو مال مدفون (عن عمد) خلافا للركاز (الذي هو من خبو الطبيعة). ولكنهم لم يفكروا أبدا في فهم مختلف عن ذلك.
كان بامكان المسلمين حينها أن يقوموا بتسييل آلاف الصكوك والحصول على أطنان من الذهب لو كانوا فقط يملكون المعلومة...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى