نوال السعداوي - الجينات الأنانية والكتابة..

فى طفولتى كنت أخفى مفكرتي، بعيدا عن عين أبى وأمي، والعيون الأخري. أن أكتب ، معناه أن أكون منفصلة عن الكون والبشر، والحياة والموت، وما بعد الموت. الكتابة توجد، حيث لا أكون ابنة، أو زوجة، أو أما، أو مواطنة. كأنما أنا ذرة حرة، تتحرك بعيدا عن روابط الدم والهوية، والدين، والوطن والجنسية والطبقة والعرق وغيرها. الكتابة معناها أن أعيش مكتفية بذاتي.

لم تكن الكتابة عندى مهنة، مثل الطب. وانما كانت هى الوجود أو العدم. لقد وُجد البشر على الأرض منذ ملايين السنين دون أن يدركوا علة وجودهم. يبلغ الانسان سن الرشد، عندما يكتسب هذا الوعي. لم تقدم الفلسفة إجابات شاملة، ولم تشبع نهم الأطفال للمعرفة. فقد أصبحت المعرفة أول خطيئة ارتكبها الانسان. لاشك أن معرفتنا بالعالم وبأنفسنا ستزيد على الدوام, ونعرف أكثر عن تكوين عقولنا، وأجسامنا، والجينات الموروثة.

فى كتابه الجين الأناني، يصف ريتشارد داوكينز، الحرب اللانهائية التى يخوضها الانسان منذ كان جنينا فى بطن الأم. وهى حرب حتمية ليس من أجل البقاء فقط ولكن من أجل التطور والتقدم والإبداع.

البقاء ليس للأصلح فى نظر داوكينز ولكن للأكثر انانية، وقدرة على كسب الوجود ان الجينات الأنانية، مبرمجة للحفاظ على الذات.انكار الذات، هو طريقة أخرى للحفاظ على الذات. قد تبدو متناقضة فى حالة الأمومة، قمة التضحية من أجل الحفاظ على الجنين. وفى حالة الكتابة الابداعية أيضا حيث التمرد والتضحية بالذات، من أجل تحطيم التقاليد والأنانية الموروثة بيولوجيا، والمفروضة سياسيا. من هنا ينشأ الصراع فى حياة الكاتب. ويصبح الصراع أكثر شراسة فى حالة المرأة الكاتبة.

فالمجتمع بقيمه الطبقية الأبوية يدخل عاملا أساسيا فى الحرب ضد المرأة الكاتبة، بصفتها الجنس الأدني، المحكومة بالسُلطة الاجتماعية والثقافية والموروثات الدينية.

تحتاج المرأة الى شجاعة خارقة، وقوة هائلة للافلات من سجن الزواج والأمومة المثالية ومفاهيم الأخلاق والطاعة. يصبح على الكاتبة أن تختار إما الكتابة الصادقة المعبرة عن ذاتها المستقلة، أو أن تصبح مواطنة مقبولة من المجتمع ولها أسرة وزوج وأولاد وبنات وأحفاد وحفيدات.

منذ طفولتى كنت أخشى أن تقع مفكرتى الخاصة فى يد أبى أو أحد أفراد الأسرة، تجنبا لغضبهم واستنكارهم. وبعد أن كبرت أصبحت أخشى أن أنشر كتاباتى على الملأ، فأصبح وراء الشمس.

فى الأيام الماضية من شهر يوليو لزمت الفراش بعد اجراء عملية جراحية فى عينى منعتنى من رؤية الحروف أو القراءة والكتابة. أصبحت كأنما أعود جنينا فى بطن أمى يصارع الظلمة ليخرج الى الوجود وضوء الشمس. بدأت أستعيد ملامح أمى التى علمتنى الحروف. رأيت فى عينيها الحزن لأول مرة وهذا الثوب الوردى الذى ترتديه، وشعرها المنسدل فوق كتفيها، كأنما لم تكن أمي، بل صورة معلقة على الجدار فى بيتنا القديم. كانت تبتسم فى الصورة لم تعرف أن الموت يتربص بها، وابنتها الطفلة الى جوارها، ترتدى فستانها الأبي، فى قدميها صندل ويحوط خصرها حزام جلدى عريض، وفى عينيها دموع. كان حلم أمي، أن تكون كاتبة، أو شاعرة. كانت تكتب قصائدها وتخفيها فى صندوق خشبى تحت السرير، وقد ماتت أمى منذ ستين عاما، ولم يبق منها إلا هذا الصندوق.

تضحى الأمهات بالكتابة والابداع من أجل الأمومة. وربما تكون هذه التضحية، هى هدف الجينات الأنانية باعتبار أن الأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات، هم الامتداد الوحيد للأمومة البيولوجية.

أما الأمومة الأرقى فهى شيء آخر لا تحمله الجينات. بل هى ما تكتسبه خلايا العقل، من أفكار جديدة تسمى الميمات تكاد تشبه الجينات. لكنها ليست بيولوجية وانما ثقافية وفكرية وفنية، يتطور بها الكائن البشرى من رجل أو امرأة الى انسان أو انسانة تتجاوز روابط الدم وأنانية الجينات.



أعلى