إسماعيل غزالى - اليابانى.. قصة قصيرة

هذه أول محاولة لي في كتابة قصة قصيرة، أنا الملقب ب "الياباني".
كل ما أعلمه عن هذه القصة، هو بدايتها، وبدايتها كما هي مرسومة في ذهني هي على الشكل التالي:
فتاة تشرف على الثلاثين، بفستان أحمر، تظهر فجأة على الرصيف، متقدمة نحو صندوق البريد الأصفر المعلق إلى خرسانة قريبا من محل مكتوب على يافطته الصلبة: "مكتبة الرسالة".
ذلك هو رأس الخيط، والبقية لا أعلمها.
بإيجاز: لا صورة في خلاء ذهني عن التفاصيل الأخرى.
ربما تكون البداية ناجحة، لإنجاز قصة فعلا.
لنحاول، لن نخسر شيئا.
ليس محض تخييل أن أخبركم بأن الفتاة قادمة من الجهة الغربية (ضاحية المدينة) باتجاه الشرق (مركز المدينة). وليس محض تخمين أن أقر لكم بنيتها في التقدم نحو صندوق البريد. ولأنها تقصد البريد عمليا، فبالتأكيد هي تحمل رسالة. جيد. إنها تحمل رسالة. وحتما ستلقي بها في الصندوق الأصفر. تحصيل حاصل. لكن، أي رسالة هذه؟ لمن هي؟ وما هو محتواها؟ وأي عنوان محظوظ هذا الذي تستهدفه؟
هذه كانت تساؤلات الرجل الطويل الواقف في شرفة شقته، بالجهة المقابلة للرصيف، أي في الضفة الأخرى للشارع. وكانت هي نفسها تساؤلات الرجل القصير بالمقهى المحاذي، ونفس تساؤلات الرجل الأصلع الذي يرصد الشارع من نافذة عيادته المحاذية، ونفس تساؤلات أكثر من شخص، يجلسون بمسرح تلك الهنيهة في زوايا خفية وعاتمة.
من المكتبة يخرج شاب بنظارة سميكة، يحمل دزينة كتب، يقف اعتباطا قريبا من الصندوق الأصفر ليستوي في وضعيته المختلة، فتسترعي انتباهه الفتاة ذات الفستان الأحمر التي تحاول الإلقاء بالرسالة في الصندوق ويتمنع عليها ذلك. ربما لأن الصندوق مملوء عن آخره. وربما لأن فم الصندوق به شيء يعسر من اختراق ثلمته. تلك كانت فرصة حالمة ليدنو منها الشاب صاحب النظارة السميكة، ويحاول أن يسدي لها عونا. يتذكر أنه في ورطة. فهو يحمل دزينة كتب، ولا يتيح له وضعه المختل أن يساعد الفتاة ذات الفستان الأحمر. فيطلب مهلة، يقفل راجعا إلى المكتبة، ويحط رزمة الكتب هناك، ثم يعاود الخروج مسرعا ليقدم تلك المساعدة الجليلة.
يمسك بالرسالة أولا، وقبل أن يمسك بالرسالة يحدق في وجهها البديع. يحدق في عينيها الزرقاوين. يحدق في ابتسامتها المثيرة. ثم يشعر بدفء ملمس الرسالة، وعندما يثبت رأسها في فوهة الصندوق، تستعصي على الولوج، تنثني ويكاد يقصمها، فيكف عن دفعها، ويحاول فحص الفوهة. الفوهة تبدو فارغة، ولا شيء عالق بها. يبتسم للفتاة ويقول:
- ربما الصندوق ممتلئ عن آخره.
يعاود الكرة، ولا جدوى.
- لو سمحت؟
جاءه الصوت من الوراء. التفت ورأى رجلا طويلا يقول له:
- دعني أجرب.
كان هو الرجل الطويل نفسه الذي بدا واقفا عند الشرفة بالشارع المقابل.
لم يبتسم صاحب النظارة، لأن الرجل المتطفل أزعجه باقتحامه المشهد. المشهد الذي كان مقتصرا عليه وعلى الفتاة فقط، ما عاد كذلك.
التفت الرجل الطويل الدخيل إلى الفتاة، وحدق في وجهها البديع. حدق في عينيها الزرقاوين. حدق في ابتسامتها المثيرة. وتسلم الرسالة واستشعر ملمس دفئها، وحاول إدخالها في فوهة الصندوق، وامتنع عليه ذلك، حيث انثنت وكادت تنطوي، فأمسك عن دفعها وقال:
- ربما الصندوق ممتلئ عن آخره.
عاود الكرة أمام استياء صاحب النظارة السميكة، دون جدوى.
- عفوا، لو سمحت؟
جاء الصوت من الخلف، فالتفت ورأى رجلا قصيرا يقول له:
- هل يمكن أن أجرب؟
قالها بثقة من يعرف أحوال الصندوق. كان هو نفسه الرجل القصير الذي كان يرصدها من المقهى المحاذي.
وحدق في وجهها البديع. حدق في عينيها الزرقاوين. حدق في ابتسامتها المثيرة.
ثم أمسك الرسالة واستشعر دفء ملمسها ودفع بها إلى فوهة الصندوق، وامتنعت عن الدخول.
حاول مرارا وقال خائبا:
- ربما الصندوق مملوء عن آخره.
فاستاء منه صاحب النظارة السميكة والرجل الطويل معا.
- عفوا لو سمحت
جاء الصوت من الخلف، والتفت ورأى رجلا أصلع يقول له:
- دعني أجرب.
كان الرجل الذي رصد الفتاة من عيادته بالمحاذاة... إلخ.
ظل المتطوعون يتقدمون لإدخال الرسالة في صندوق البريد، ويفشلون في ذلك، وصار عددهم يزداد وينمو ويتناسل ويتفاقم حتى تحلق حول صندوق البريد الأصفر كل الشارع، كل الحي، كل المدينة الصغيرة.
وبرغم ذلك الحشر الفحل من الرجال لم تلج الرسالة ثلمة الصندوق الأصفر الصغير.
التفتت الفتاة ذات الفستان الأحمر حولها مذهولة، مرتابة ومذعورة، ووجدت كل ذكور المدينة يتحلقون حولها. هي الأنثى الوحيدة وسطهم، تشبه خنفساء حمراء تجس نقطة صفراء وسط دائرة هائلة سوداء.
ماذا لو تمططت النقطة الصفراء (صندوق البريد) وابتلعت الدائرة السوداء (الجمهرة) ثم توسطتها الخنفساء الحمراء (الفتاة ذات الفستان الأحمر)، تماما مثلما لو كانت تتوسط زهرة عباد الشمس؟
هناك من اقترح إسقاط الصندوق الأصفر لمعالجة أمره، وهناك من اقترح توسيع فوهته بسكين، وكثيرون طالبوا بدورهم في المحاولة.
بعدها بلحظات مصطخبة، شق شخص يرتدي قبعة طريق الجمهرة. كان ساعي البريد. أفسحوا له الطريق ووقف أخيرا عند الفتاة ذات الفستان الأحمر وتحاشى التحديق في وجهها البديع. تحاشى التحديق في عينيها الزرقاوين. تحاشى التحديق في ابتسامتها المثيرة. تلقف الرسالة دون أن يتعمد التلذذ بتلمس دفئها، وقرب رأسها من فوهة الصندوق، وبغاية الليونة، انزلقت الرسالة وسقطت في جوف الصندوق.
ندت من الجمهرة الغفيرة آية إعجاب تضمر استغرابا، شبيهة بالآيات المذهلة التي يدلقها جمهور ملاعب الكرة الصفراء (لعبة التنس). ثم اصطخب لغوهم، غير مصدقين كيف فعلها ساعي البريد بتلك الليونة الساحرة والخارقة. هذا الذي رافقها على الرصيف باعتزاز وفخر وهي تقفل راجعة باتجاه الغرب بينما كانت تجزل له في طراوة الشكر وغبطة الامتنان.
في آخر ساعة من ليلة ذلك اليوم الغريب، تقدم الشاب، صاحب النظارة السميكة، إلى المكان، بعد أن تأكد له خلو الشارع من الحارس وشق الصندوق بسكين، وفتحه، فوجد الرسالة وحيدة تستقر بجوفه. تلقفها وأسرع باتجاه عمود الكهرباء. قبل أن يفتحها حاول اكتشاف عنوان المرسل إليه وقرأ:
الياباني
شارع الدائرة السوداء
زنقة اليرقة الحمراء
حي النقطة الصفراء
رقم...
ردد صاحب النظارة اسم المرسل إليه وهو يتمتم:
من يكون هذا اللعين المدعو "الياباني"؟
وتلا تلاوة بطيئة العنوان الغامض، الذي يسمعه لأول مرة!
على سفح العمود دائما، تحت المصباح فتح الرسالة وقرأ:
هذه أول محاولة لي في كتابة قصة قصيرة، أنا الملقب ب "الياباني".
كل ما أعلمه عن هذه القصة، هو بدايتها، وبدايتها كما هي مرسومة في ذهني هي على الشكل التالي:
فتاة ثلاثينية، بفستان أحمر، تظهر فجأة على الرصيف، متقدمة نحو صندوق البريد الأصفر المعلق إلى خرسانة قريبا من محل مكتوب على يافطته الصلبة: "مكتبة الرسالة"... إلخ.
أعلى