إبراهيم أصلان - الحــــــارس.. قصة قصيرة

كانت الشقة تطل على جزيرة مزروعة بكمية من الأشجار العالية، حولها رصيف بيضاوي كبير، وفي جانب من هذه الجزيرة برميل كان البواب يضع فيه أكياس القمامة. وكان الأستاذ خليل إذا وقف في بلكونة الحجرة الكبيرة يرى الزبال وهو يحمل هذه الأكياس إلى عربته الصغيرة التي يجرها بنفسه. الحجرة الأخرى لم تكن بها بلكونة. وقد مضت فترة وهم من دون بواب أو بوابة. وعندما اشترى الجرائد وعاد رأى واحدًا يجلس على الرصيف إلى جوار الجذع الكبير أمام المبنى.
كان ضخمًا بصورة لم يعهدها في كل البوابين وغير البوابين الذين رآهم من قبل، وكاد جلبابه بطوقه المفتوح أن يتفتق عن جسده الكبير. كانت ساقه القريبة مثنية أمامه وسمانتها الممتلئة مختنقة في حافة سرواله الطويل الأبيض. ولاحظ أن سطح قدمه العاري، بأصابعه القصيرة القاتمة، منتفخًا جدًّا وفردة الشبشب مرمية تحت الرصيف. والأستاذ خليل بعدما نظر قال سلام عليكم ولكنه لم يرد عليه. لقد كان نائمًا ودماغه الحليق مائل على صدره وفمه مفتوح عن آخره ويلهث في بطء. وعندما صعد إلى الشقة وهو يستريح بين آن وآخر سألته الحاجة إن كان رأى البواب الجديد، وهو استفسر منها إن كان هـو الرجل الضخم الذي ينام تحت الشجرة وقالت:
«أنا سمعت، لكن ما شفتوش».
قـال:
«طيب».
مع خروجه ودخوله لاحظ أنه أصغر سنًا مما كان يعتقد. كما لاحظ أنه نائم طيلة الوقت. ولكنه رآه في بعض المرات يجلس مستيقظًا وبين قدميه وحوله أربعة أو خمسة من الأولاد والبنات مختلفي الأحجام يتعلقون بجسده الكبير أو يتجمعون مثل جماعة من الجراء يأكلون أمام ساقيه بينما هو يجلس حزينًا يلهث ويدفع من يتعلق بكتفيه من الصغار ولا يلوي على شيء. كانت زوجته نحيلة ونشيطة وتقوم بخدمة السكان في جلبابها الكحلي الداكن بزهوره الباهتة الخضراء. وكان عندهم في الشقة جرس له سلك طويل يمتد حتى حجرة البواب في الجراچ الواسع أسفل المبنى. من يرد شيئًا يضغط الجرس المثبت تحت السخان في المطبخ، بعد فترة تصعد زوجة البواب. كانت تضغط الجرس وتقف مشدودة القامة بعيدًا عن فتحة الباب. تنتبه لما يطلب منها وهي تضيق عينيها اليقظتين، ثم تقبض على النقود والورقة التي دونت فيها الطلبات وتنزل. توقظه ليقرأها لها وتنصرف. الأستاذ خليل لم يعرف إن كان هو الذي يخطئ في القراءة أم أنها هي التي تنسى؛ لأنها كانت تأتي أحيانًا بطلبات غير الطلبات أو تأتي بكيلو واحد بدلًا من ثلاثة. في بعض المرات كانوا يضغطون الجرس ويصعد أحد الأولاد من الصبيان أو البنات فيقولون له:
«انزل ابعت أمك».
أما عاشور فلم يكن يلبي نداء الجرس لأنه لا يستطيع أن يصعد السلم. وكان الأستاذ خليل يقف في البلكونة ويراه وهو يبحث عن ركن يغفو فيه دون أن يراه أحد. كانت زوجته تختفي بالساعات بحجة أنها لا تستطيع أن تقوم بطلبات المبنى وحدها. وعندما يبدى ساكن أو آخر ملاحظة حول هذا الأمر كانت تقول بوضوح:
«أصل احنا مش بوابين».
أو تقول:
«آني لوحدي، والراجل تخين».
وكان الأستاذ خليل يصدق أنهم ليسوا بوابين. المنطقة كلها تمتلئ بهؤلاء الناس. لا يوجد مبنى واحد من دون رجل وعائلته. هم يقبلون على هذا العمل الذي يمكن لأي أحد أن يقوم به، وهو يوفر لهم حجرة وأجرًا معقولًا، فضلًا عن الإكراميات وما قد يفيض عن السكان.
وفي كل المرات التي صادف فيها عاشور وهو مستيقظ كان يلمح كيف يتجنب عينيه ويطرق برأسه الحليق إلى ناحية. وكانت عندهم في البلكونة مروحة قديمة من أيام الشقة القديمة مركونة ومنزوعة الشبكة التي تغطي ريشها البلاستيك، وأم سليمان أعطتها لزوجة البواب، وهو رآها تأخذها وتنصرف بينما سلكها يتدلى وينسحب وراءها على البلاط أمام باب الشقة لغاية الفيشة القديمة ما وقعت على درجة السلم الأخرى وراء زوجة البواب. وفي الصباح الباكر وقف في البلكونة يشرب الشاي بعدما أكل وتناول العلاج، ومال ولمحها مرة أخرى تغادر فتحة الجراچ المنحدر وتحمل على رأسها صرة كبيرة، ثم رأى البواب نفسه وهو يتبعها والأولاد يحيطون بهم عند السور المزروع للمبنى المجاور. كان يتحرك بطيئًا مثل هضبة ويجر قدميه بصعوبة، وكان المكان خاليًا إلا منهم. وبعد ذلك نزل واشترى الجرائد وعاد والمروحة القديمة كانت مركونة في حوش المبنى والسلك ملفوفًا عليها. والأستاذ خليل حملها وراح يطلع السلم على مهله.
أعلى