خيري شلبي - إحيـــاء الـنــــار..

في النهار تخمد النار ويضمحل الوهج المشتعل؛ لكن جميع أهل بلدتنا وأهالي البلاد المجاورة لها والتابعة لعموديتها: منية الكردي وعزبة نصيف ومنشية العرب وعزبة الحجر ونجع النصارى ومحلة أبو مريكب.. كلهم يعرفون أنه خمود مؤقت، وأن الجمرات المستورة بالرماد في القصعة فوق سطح دار إسطاسية في عزبة الحجر ـ المقامة كلها فوق تل جبلي صخري ـ سوف تنفض عن نفسها الغطاء وسرعان ما تلتحم بالريح الغاضبة في وقت معلوم، حيث تشب ألسنة اللهب المزرقة الأطراف من فرط الاحمرار، فتبدو لقاطني البلدان المترامية في السفوح كأنها موفدة من جهنم العظمى كي تنذر الناس بالهول نتيجة ذنب لا يغتفر ارتكبه مجهول من بينهم.
النار تصحو قبل أذان الفجر بقليل. ما تكاد ألسنة اللهب تزيح ستائر الدخان الكثيف وتظهر في الفضاء سافرة عارية فوق دار إسطاسية أرملة المقدس جرجس غطاس حتى يتأكد كل من كان في الخلاء لحظتها أن الفجر قد وجب. إن هي إلا لحظات ويرتفع صوت المؤذن باستغاثة الفجر الأبدية كلاما ونغما وأداء: يا رب بالمصطفى بلغ مقاصدنا واسمح لنا بالرضا يا واسع الكرم.. إلخ، تضخ مشاعر الخضوع والخشوع والرهبة في الأفئدة الراقدة ما بين النوم واليقظة، وفي جميع الأشياء والكائنات التي تبدو كلها في حالة ورع تسبح بحمد خالقها، تتصايح الديكة، تزيّق البوابات الثقيلة وهي تنزاح عن فُرجة يخرج منها الرجال إلى المسجد، وتخرج النسوة إلى الخلاء يدلقن بلاليص مياه الاستحمام ذات الرائحة العطنة الكريهة، المريبة والمبهجة في آن؛ وأخريات يتسللن بالبلاليص الفارغة ليملأنها من الترع أو من أحواض السواقي القريبة. دور كثيرة قميئة تمتد على مساحات شاسعة، تربض في أماكنها منذ آلاف السنين تحت الشجر والنخيل، منظرها الكابي يوحي بالعراقة وبالهوان معا. قرى وعزب وكفور منسوبة لقبائل عربية ولعصور فرعونية موغلة في القدم.
كل أهالي هذه البلدان المتجاورة الملمومة على بعضها متصلة الحدود والزمامات والشياخات والعلاقات والأوضاع والمصالح والأسرار مهما كانت خافية.. أصبحوا يتجرعون مرارة محنة الأرملة التعيسة إسطاسية، يتألمون لمصابها ولكن ما باليد حيلة، حُرقة بكائها تنسرب إلى أفئدة النساء فينخرطن في بكاء صامت حراق تتخلله عبارات أسيفة من قبيل: «لا حول ولا قوة إلا بالله! اللهم ألهمها الصبر! ربنا يعوض عليك يا إسطاسية!». ولقد يأخذ التأثر العميق ـ لفرط عمقه ـ شكل الخنق وربما الضغن إلا أنه في النهاية محاولة لدرء الشعور بالخطر المجهول الذي يتخايل شبحه دائمًا عندما تقع في الحياة مَظلمة صارخة كهذه التي وقعت لإسطاسية منذ شهور طويلة مضت وبقيت نارها عصية على الانطفاء. يبرطم الرجال السارحون إلى الغيطان مبكرًا بعبارات من قبيل: «يا ولية فضيها سيرة بقى! إحنا ناقصينك؟!»؛ إلا أن مثل هذه العبارة تخرج من حنك صاحبها مبللة بالدمع السخين. أما الديكة فإنها أشد تعاطفًا مع إسطاسية، ما تكاد تسمع صوتها يستنزل اللعنات على من فجعها في ابنها الوحيد حتى تجاوبها من أعمق أعماقها بصيحات ممطوطة كالزفير المثقل بهطيل الدمع.
يرتفع أوار النار، يعلو زئيرها وصريخها بشكل ينذر بخطر يحرق البلدان كلها. تتفرع ألسنة اللهب مع وهج الاستغاثة وجلجلة التكبيرات المؤكدة بأن الصلاة خير من النوم. عندئذ تكون إسطاسية قد دخلت في صُلب النار، صارت لها عشرات الألسنة الحادة الملتهبة، وصارت هي قريبة من السماء، تتطاير منها العبارات الملتهبة المكلومة إلى الفضاء كذرات من المشاعر المنصهرة في صدرها، صورًا من الوجع الشعوري الأليم، بمرارة الفقد والحرمان تقول: فيك يا من قتلت ولدي.
في حالة من الروع والترقب تنكمش البلدان على نفسها طوال الساعات الأولى من كل يوم. يترقب الناس حركة الناس، يصيخون السمع لعواء الكلاب الذي يقال عنه إنه ارتياع من رؤية الكلب لعزرائيل قابض الأرواح. لقد بات الناس على يقين جازم بأن الله سبحانه وتعالى سوف يستجيب لدعوات إسطاسية ويهلك من فجعها في وحيدها؛ سيما وأنها بعد إذ يئست من وجود العدل بين البشر تقدمت بمظلمتها إلى باب السماء مكتوبة على ألسنة اللهب؛ ذلك أنهم على يقين أشد رسوخًا من أن مَن يطرق باب الكريم على هذا النحو الضارع الفاجع لا بد وأن تنصفه عدالة السماء. وعلى الرغم من أنهم إن لم يكونوا على علم بالفاعل فإنهم على الأقل قادرون بالخبرة والفطنة على استنتاجه؛ فإنهم مع ذلك باتوا جميعا يخشون انتقام المنتقم الجبار؛ كأنهم جميعًا قد شاركوا في الجريمة بصورة أو بأخرى.


خيري شلبي
أعلى