ليلى أبو العلا - أصدقاء وجيران Friends and Neighbours.. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

امرأتان تقومان بنشر غسيلهما. كل واحدة تنشر غسيلها في حديقة منزلها.

ليزلي (أسكتلندية) تقوم بنشر مُلاءة كبيرة. تفعل ذلك في سرعة وثقة. وتنشر المُلاءة وبقية الملابس بطريقة متقنة ومنظمة على حبل الغسيل، بالطريقة التقليدية: القمصان تُنشر بِالمَقْلُوب، والجوارب معا الخ.

ريم (سودانية) تقوم بنشر ملابس أطفالها. حركتها بطيئة، وتنشر الملابس كيفما أتفق، وبطريقة فَوْضَوِيّة.

ليزلي: إذن هو ما زال مسافرا؟

ريم: نعم. هو ينتقل من منصة حفر إلى أخرى ...

ليزلي: لا بد أنك تشعرين بأنه حقيقةً ما من معنى لوجودك هنا إذا كان زوجك غائبا كل الوقت.

ريم:
ليس بيده أن يبقى لمدة طويلة بعيدا عن عمله في منصات الحفر.

ليزلي: ابن أخي في (أبو ظبي). هو هناك وأنت هنا. هذا أمر غريب لا يعقل. أليس كذلك؟ لا يبدو أن هذه الشركات تعي ما تفعل.

ريم: نحن لسنا من (أبو ظبي). نحن من السودان.

ليزلي: حسناً... وأين هو ذلك البلد إذن؟

ريم: في أفريقيا، جنوب مصر.

ليزلي: أوه. لم أكن أعد مصر في أفريقيا.

ريم: هي بالفعل في أفريقيا...

ليزلي: هذا حي جميل. أنتم محظوظون فعلا لتجدوا لكم بيتا هنا.

ريم: نحن محظوظون فعلا.

ليزلي: لا يفكر السكان هنا في تغيير منازلهم بين حين وآخر. وكل ساكن فيه يهتم بشؤونه الخاصة. وهذا ما أحبه هنا.

ريم: نعم.

ليزلي: هو حي هادئ أيضا.

ريم: نعم

ليزلي: أسمع دائما أطفالك وهم يركضون في أرجاء البيت. هذا ما لا نفعله هنا، كما تعلمين. يجب أن يجري الأطفال خارج الدار، وليس في داخله. كنا بالأمس نشاهد التلفزيون، وكان باستطاعتنا أن نسمع وقع أقدامهم وهو يتقافزون.

ريم: أنا آسفة جدا.

ليزلي: لا يمكنك السماح لهم بالركض في داخل البيت. كيف لهم أن يركضوا في داخل البيت وبين الأثاث؟

ريم: نعم. يلعبون ألعابا خيالية. يعتبرون الكنبة سفينة، ويقفزون ...

ليزلي: هذا ليس بالأمر الصحيح.

ريم: أنا آسفة جدا

********** ********** *********

يظهر رجل في الحديقة مرتديا عباءةً من صوف خشن، وواضعا فوق رأسه عمامة داكنة الخضرة. وكان يرتدي تحت عباءته بنطالا فضفاضا بني اللون، وقميصا طويلا. لم يكن هنالك في ملابسه شيء لامع أو مصنوع من الحرير. غير أن ملابسه كانت قطعا لا تناسب المكان في تلك الحديقة بأبردين. كان منظره رائعا. عندما رأته ريم، تغير منظرها وبدت مشرقة وضيئة. توقفت عن نشر غسيلها.

ريم: لقد كبرت!

الغريب: لقد كبرت أنت أيضا.

ريم: تعجبني عمامتك وملابسك.

(بدا الغريب سعيدا بالإطراء. ومس عمامته مسا خفيفا)

ريم: ماذا يقصدون؟

الغريب: أنا الآن في محطة أعلى.

ريم: ولكن ألم يكن عندك زوج من الأجنحة؟ ....

الغريب: بالفعل. وأفتقدهما أحيانا.

ريم: كنت خفاشا، وكنت تأتيني عبر نافذة الحمام. وكنت تطير عبر النافذة وتتعلق بالمقلوب من درابزين دش الحمام. كنت أجلس على مقعد الحمام (التواليت) وقدماي لا تصلان إلى الأرض وأتحدث معك لساعات.

الغريب: لم تكن رائحته طيبة... ذلك الحمام.

ريم (وهي تضحك): أنا آسفة. لم أكن أعلم أن الخفافيش يمكنها شم الأشياء.

الغريب: لكل شيء رائحة أقوى في السودان مقارنة بروائحها هنا.

ريم: كل شيء. الغبار والعرق. البطيخ والفول بالكمون ...

الغريب: تلك القلائد المصنوعة من الياسمين التي كنت تلبسينها...

ريم: كان صنعها بالنسبة لي متعة كبيرة. أستخدم الإبرة والخيط ...

الغريب: كنت أراقبك وأنت تدخلين الإبرة في سيقان النبات.

ريم: كنت أحيانا لا أستطيع رؤيتك، لكني كنت أعلم أنك هناك. لا أراك إلا في الحمام.

الغريب: قضيت عدة ليالي فوق سطح محطة البنزين. كانت رائحة أبخرة البنزين كافية لأنتشي.

ريم: كل شيء (هناك) له رائحة أقوى. الصابون والنشا في الغسيل ... كل شيء هنا ليس له رائحة. لِمَ؟

الغريب: بسبب البرد.

ريم: والألوان هنا ليست كالألوان هنالك. ليست فاقعة قوية ... لا تتعب قلبي.

الغريب: لا بد أنك تحنين هنا لغروب الشمس وتفتقدينه. ليس لديهم نفس الغروب هنا.

ريم: لِمَ؟

الغريب: سيكون ذلك أمرا مفرطا بالنسبة لهم.

ريم: فقط المطر.

الغريب: الشيء العظيم الوحيد هنا هو المطر.

ريم: أنت تحب المطر. المطر كريم مثلك. هل أنت من منطقة تكثر فيها الأمطار؟ لم أسألك طوال هذه السنوات عن المكان الذي أتيت منه. أين موطنك؟

الغريب: هذا ليس بالأمر المهم.

ريم: لِمَ لا؟

الغريب: نحن جميعا عُبَّارُ سبيل.

ريم: ما تزال كتوما متحفظا ... كنت دوما شديد السرية.

الغريب: قولي لي ما هي أخبارك. أحكي لي قصة.

ريم: لا أريد أن أنتحب. أريد أن أكون سعيدة معك.

الغريب: إذن لا تروي لي قصة محزنة.

(صمت)

ريم
: أقف على كُوبْرِي أم درمان، وأنظر تحتي للماء وهو يمتزج مع بعضه. في الجو غبار وروائح سيارات، وضوء الشمس الحار يسقط على مصدات الصدمة في السيارات، ويقع مرة أخرى على الماء تحتي. يلتقي نهران تحت هذا الجسر. كانا يجريان لأميال عديدة، ويعبران دولا مختلفة لها أسماء متنوعة وتضاريس متباينة. والآن نال منهما التعب. تعبا من الجري المنفرد. إذا دققت النظر وأرهفت السمع سأدرك أنهما يستسلمان هنا. يسجدان معا، ويتخليان بنعومة ولين عن استقلالهما. أحد النيلين داكن اللون ومثقل بالطمي، والآخر شفاف أزرق اللون. وتحت الكُوبْرِي تنطمس حوافهما. يتنفسا بعمق ويواصلان من جديد المسيرة معا في رحلة طويلة للبحر والصحارى والأهرامات وأشجار النخيل ... الكثير من أشجار النخيل. سأخبرك لِمَ يجري النهر نحو البحر. سأخبرك بالسبب – يجري النهر نحو البحر ليرتاح. كي يرتاح. عندما يبلغ النهر مياه البحر الخضراء، لا يحتاج إلى أن يجري مرة أخرى.

(صمت)

في هذا البيت أسمع أحيانا أشياءً. أصواتا من موطني. أسمع صوت الآذان يأتيني من المسجد. يأتيني عبر أنابيب التدفئة المركزية. أسمعها تقول لي: هيا... هيا ... اجري. تجذبني كما يجذب البحر ذلك النهر.

(صمت)

وأحلم في الليل بأني طفلة في موطني، وأني أرتدي ملابس إحدى طفلاتي ... هذا الفستان (وتمسك بأحد الفساتين المعلقة على حبل الغسيل)، وأني ألعب في الرُّوَاق. في الرُّوَاق أرى وعاءين حمراوين من الفخار مزروع فيهما نبات الصبّار والجهنمية. أحرص على البعد عنهما لأني سأؤذي يدي إن لمستهما. وأرضية الرواق مغطاة بالبلاط. أرسم بقطعة فحم صغيرة خطوطا وصناديق لألعب لعبة الحجلة (القفز). أكتب أرقاما أيضا. أعطي لكل صندوق رقما معينا. أعيش في أحلامي. هي عندي مثل العسل. ثم يوقظني أطفالي عند الصباح. توقظني أصواتهم. يفتحون التلفزيون بأعلى صوت أو يركضون في كل أنحاء البيت. ثم يأتون ليتقافزوا فوق سريري. ويحمل أبني سكينا، ويواجهني بها ... أمام وجهي ...

ينظر الغريب إليها مندهشا

ريم
: يحمل ولدي السكين وعلبة مربى ويضعها على خدي. مس الزجاج البارد هو ما يوقظني من نومي. يحمل أيضا قطعة خبز، وتسقط منه بعض الفتات على مُلاءة السرير. يريدني أن أمسح قطعة خبزه بالمربى. هذا هو إفطاره. يجب علي أن أستيقظ مبكرة قبل الأطفال وأحضر لهم وجبة الإفطار. غير أني كنت أحلم. أنا في وسط الأحلام ...

الغريب: هل آتيك في الحلم؟

ريم: نعم. هل تشعر بأني قد حلمت بك؟

الغريب: أشعر وكأني مَشْدُود أو مَسْحُوب نحوك.

(صمت)

ريم
: هل ما تزال تسبح في البحر؟

الغريب: سأذهب الآن. في غالب الأوقات يكون البحر هادئا (بدأ التضجر والسخط أو الحزن واضحا في صوته) ... هادئا بأكثر مما يجب. والطعام الذي أحصل عليه أكثر حلاوة مما أحب. وعندما أمس شيئا يبدو لي مثل الزَبَد (يصمت قليلا، ثم تتغير نبرة صوته ويبدو أكثر تأملا ومذعنا للأمر الواقع). ولكن هذا هو منفاي. ماء ناعم الملمس كسجادة الصلاة. ليس هنالك في السماء قطعة سحاب واحدة.

ريم: أخبرني بشيء جميل قبل أن تغادر. شيء خاص به يمكنني أن أحتفظ به وسيغدو ملكي.

الغريب: في اليوم الأخير سيكون كل فرد في رفقة صديقه المحبوب.

ريم (ببعض التردد): سأكون مع صديقي.

***** *****

تخرج ليزلي من بيتها وهي تحمل كرسي قماش وصحيفة محلية (The Press and Journal). لا تستطيع أن ترى الغريب. وتعود ريم لنشر غسيلها.

ليزلي: سيكون اليوم يوما لطيفا.

ريم: نعم. هو يوم لطيف.

ليزلي: في بداية اليوم كانت هنالك غيوم داكنة، وتصورت أنها ستمطر.

ريم: لا، لم تمطر.

ليزلي: سكن في البيت المقابل لنا أناس جدد. رأيت عندهما صغيرين. تؤامين.

ريم: تؤامان. هذا أمر رائع. من أين أتيا؟

ليزلي: من الجنوب (صمت). يأتي الآن لأبريدين كل صنوف البشر. يظنون أن الطرق هنا مرصوفة بالذهب.

ريم: أحقا يظنون ذلك؟

ليزلي: هم بالفعل يعتقدون ذلك لأن هذه منطقة ممتازة. نعم هي كذلك. الكل يريد الانتقال إلى هنا.

ريم: نعم ...

(تجلس ليزلي على كرسيها)

ليزلي: قليل من الراحة قبل أن يعود أطفالك من الروضة، ايه. (صَوْتُ دَهْشَة)

ريم: أنا آسفة بخصوص الأطفال.

(تفتح ليزلي صحيفتها وتتكلم دون أن ترفع رأسها)

ليزلي: يا لكثرة المشاكل في عالمكم! فوضى عارمة.

ريم: نعم.

ليزلي: يجب أن تشكري نجوم حظك السعيد على مجيئك هنا، حتى وإن كان زوجك غائبا نصف الوقت.

ريم: نعم.

ليزلي: لا يبدو أن بمقدورهم إدارة شؤونهم بصورة معقولة، أليس كذلك؟

ريم: لا

******** ******** *********

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى