د. محمود محمد علي - رمضان الصباغ.. أديباً وفيلسوفاً..

أن ترحل قامة علمية مثل الدكتور "رمضان صالح الصباغ"، (أستاذ فلسفة الفن والجمال بكلية الآداب – جامعة سوهاج بجمهورية مصر العربية)، دون كلمة رثاء فى الإعلام المصري والعربي، فتلك علامة من علامات التردي، ودليل من أدلة الرداءة والعشوائية، فهذا الرجل كان من أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعلمون بما يؤمنون، ولذلك أقول أي الكلمات لديها القدرة أن ترثى مفكراً وكاتباً بالغ الصدق والنبل والنقاء مثل رمضان الصباغ ؟! أي الكلمات لديها القدرة ؟!، فالذين يتسمون بالصدق والنبل في مهنة الفلسفة قليلون، وقد ازدادوا برحيله قلة!.. لا أظن أنه من قبيل المبالغة أن أقول إنه من أكثر الذين قدر لي أن أعرفهم من أستاذة الفلسفة بعداً عن المداهنة أو المتاجرة بالمهنة لحساب أي سلطة من السلطات بما في ذلك سلطة الرأي العام ذاته الذى كثيراً ما يغازله بعض الكتاب على حساب الحقيقة الموضوعية!.

والحقيقة التي لا يعرفها الكثيرون وهي أن الدكتور رمضان الصباغ هو واحداً من كبار الرواد في دراسة علم الجمال الماركسي بمصر والعالم العربي، وقد استطاع من خلال بحوثه ومؤلفاته أن ينقل البحث في علم الجمال الماركسي من مجرد التعريف العام به، أو الحديث الخطابي عنه – إلي مستوي دراسته دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

فلقد أقبل رمضان الصباغ علي الدرس الفلسفي في شوق ورغبة وتأمل وعناية، وانتهي به ذلك إلي إنتاج له وزنه - بحثاً – وتأليفا- أو تعليقاً وترجمة ؛ حيث يجمع رمضان الصباغ بين الدراسات الأكاديمية المتخصصة في الفلسفة المعاصرة وجه عام؛ وفى مجال علم الجمال بوجه خاص، وبين الإبداع الشعرى، والروائى، والنقدى المتميز، ولعل نظرة واحدة إلى سيرته الذاتية كفيلة بأن تعطى فكرة واضحة عن مدى خصب تجربته سواء على المستوى الإبداعي فى مجال الشعر بوجه خاص من خلال ستة دواويين شعر نشرت متفرقة على مراحل زمنية مختلفة هى: مجموعة:"معذرة يا قمري"، ومجموعة "مكابدات السندباد"، ومجموعة "حين انكسر"، ومجموعة " من مفكرة الحب الضائع"، ومجموعة "ايقاعات الحب والموت"، وأخيراً مجموعة النورس وأنت": ثم نشرت بعد ذلك تلك المجموعات في مجلد واحد تحت عنوان: الاعمال الشعرية، التى تضم بين دفتيها الأعمال سالفة.

وبالإضافة إلى الأعمال الشعرية للدكتور رمضان الصباغ ، فقد أضاف إلى سجله الأدبي روايته المتميزة : " ليلة رأس السنة ". أما فى مجال النقد، فقد قدم عدداً من الدراسات النقدية التطبيقية التي نشرها في عدد من المجلات الأدبية والفكرية المتخصصة، وأما على مستوى الدراسة الأكاديمية الخالصة، فقد قدم عددا من الدراسات التي تقع على خط التماس بين الفلسفة والأدب، ومن أهمها دراسته عن جماليات الشعر المعاصر، والذى يتضمن تأصيلاً للجماليات الشعرية، وتطبيقاً لها عند الشعراء المحدثين والمعاصرين؛ وبوجه خاص عند الشاعر السورى المجدد – ادونيس والشاعرين المصريين الكبيرين– صلاح عبد الصبور – وأحمد عبد المعطى حجازي، بالإضافة إلى الشاعر العراقي "عبد الوهاب البياتي"، وذلك جنباً إلى جنب مع دراسته التطبيقية لجماليات الشعر عند الشاعر الإنجليزى ت س . إليوت .

هذا بالإضافة إلي الكتابات العديدة في مجال الفلسفة ومنها: جماليات الشعر العربي- وفلسفة الفن عند سارتر وتأثير الماركسية عليها – والأحكام التقويمية في الجمال والأخلاق - وعناصر العمل الفني دراسة جمالية - وجماليات الفن- والنظرية الجمالية السياقية عند ستيفن بيبر- والفن والأخلاق عند جاك ماريتان- والفن والقيم الجمالية بين المثالية والمادية – وفلسفة عند زكي نجيب محمود- والفن والايديولوجيا- وفيلسوف الموسيقي(فاجنر)...الخ

وقد علمتنا قراءة تاريخ الأعلام أن الشخصية العظيمة هي التي تختلف آراء الناس حولها اختلافاً كبيراً، وكلما كانت الشخصية أشد لمعاناً كان الاختلاف بشأنها أكثر حدة . والواقع أنني لم أكن أتصور في يوم في من الأيام أن ألتقي في حركة الحياة الجارية، بمثل هذه الشخصية، حتي وضعتني الظروف في طريق الدكتور رمضان الصباغ .

كان رمضان الصباغ رجلاً وهبه الله خلقة حسنة، فهو معتدل الطول، ليس باليدين المفرطح، ولا القصير المنكدر، له عينان يشع منهما بريق حاد يدل علي ذكاء متقد ويوحي بشخصية قوية . ملبسه أميل إلي الأناقة، ولكنها الأناقة التي لا يبدو منها تكلف ولا يظهر عليها استعلاء . كان متحفظاً في حركاته، وقوراً في مشيته . أما مجلسه فغاية في الاحترام الذي لا يخلو أحياناً من تبسط، ولكنه لا يشجع الثرثارين والمتفيقهين، ويستبعد تماماً النمامين والوشاة .

عايشت رمضان الصباغ، ما يقرب من أكثر من عشرين عاماً، لم أره فيها ينحني أمام أحد من رؤسائه، أو يتملقه، أو يداهنه، وكان شديد الاعتزاز بنفسه، معتمداً علي قدراته الخاصة، وكفاحه الشخصي، ولم يكن يفخر بجاه ولا مال، وإنما كان موضع فخره الدائم : انجازه العلمي الذي حققه بالعمل الدؤوب، والجهد المتواصل.

كان رمضان الصباغ يجيد اللغة الإنجليزية تماما وترجم منها العديد من المؤلفات في فلسفة الجمال، كما كان متزوجا من سيدة فاضلة وهي الدكتورة سناء خضر (أستاذ فلسفة القيم المساعد بكلية الآداب جامعة جنوب الوادي) وقد أنجبت له سمر ورنا .

كما كان يحب الشعر وفي نفس الوقت؛ كان اهتمامه بالفلسفة، والنقد الأدبي، والسياسة، وغيرها من المجالات، وقد ظل اهتمامه بها جميعاً، حتى وفاته المنية، وكان الشعر عنده متنوعاً؛ ففيه الشعر السياسي، والفلسفي، والغزل، وغير ذلك، والشعر، بالنسبة له كان تعبير عما يجول في خاطره ونفسه، وقد درس رمضان الصباغ مدارس الشعر والفن؛ خاصة الشعر الغربي (الإنجليزي والأمريكي والفرنسي والألماني)، بالإضافة إلى الشعر الروسي والعربي بالطبع؛ فاستفاد كثيراً من اطلاعه على هذه المدارس المختلفة، وقد قدم في ذلك ست دواوين من الشعر الحر (شعر التفعيلة)؛ أحدها من قصائد النثر سريالى الطابع، كما قدم دراسة مستفيضة عن الشعر العربى المعاصر (الشعر الحر)، درس فيها، بالتفصيل، مفهوم الشعر وتطوره، والتجربة الشعرية، واللغة الشعرية، وموسيقى الشعر، والمؤثرات الغربية على الشعر، والإيقاع، والتضمين، والتدوير، والتكرار، كما درس الخيال والصورة وتطورهما، والتناص مع الأسطورة والتراث، هذا بالإضافة إلى كتابة روايتين؛ إحداهما منشورة، وعدداً من الدراسات عن الرواية، وهو، بشكل عام، في الشعر والرواية، أميل إلى التجديد، وذلك من خلال متابعته للأدب الغربي المعاصر، كما أنه مهتم بالفنون التشكيلية، والموسيقى الكلاسيكية، والأوبرا، والباليه، ولكنه على مستوى الدراسة والنقد والتذوق.

وبجانب اهتمامه بالشعر كان رمضان الصباغ مهتماً بالفلسفة الحديثة؛ حيث كان يعتبرها بأنها فلسفات نسقية، بمعنى؛ أن كل فيلسوف يشكل مذهباً بعينه، وعلى سبيل المثال؛ هناك المذاهب المادية، أو أنساق الفلسفة المادية؛ التي أسس لها هوبز وهولباخ، مثلاً، وهناك المذهب العقلي؛ الذي أسس له ديكارت، وهناك المذهب المثالي؛ الذي أسس له كانط وهيجل، على سبيل المثال، أما الفلسفات المعاصرة؛ فهي فلسفات لا نسقية، وقد غاب عنها البعد (الشمولي)؛ الذي كانت تتسم به الفلسفة الكلاسيكية والحديثة؛ فظهرت نزاعات، وتيارات، واتجاهات. فالفلسفة الوجودية، مثلاً، هي: اتجاه فلسفي، وليست مذهباً بالمعنى الدقيق، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفلسفات الوضعية، والبراجماتية، والتحليلية؛ فهي أقرب ما تكون إلى النزاعات والتيارات الفلسفية، منها إلى المذاهب والأنساق الفلسفية الشاملة.

وثمة نقطة جديرة بالإشارة وهي أن الدكتور رمضان الصباغ كان ينظر للفلسفة علي أنها تمثل رؤية للعالم الذى نعيش فيه، ومحاولة لتقديم معرفة منظمة عن عالم مشوش وغير منظم، وتقوم الفلسفة بتنظيم رؤية الفيلسوف أو المفكر في نسق عقلي منطقي متماسك، وتتم صياغته في عبارات لغوية منضبطة، وبذلك، يسهل التعامل مع الواقع والتأثير فيه، وعندما تتبنى طبقة معينة، أو فئة، أو جماعة، فلسفة معينة، وتجعلها برنامجاً للممارسة العملية تنتج الإيديولوجيا؛ فالإيديولوجيا: هي التعبير عن الانتقال من عالم الفلسفة المجرد، إلى الواقع والممارسة العملية، ويتم التأثير المادي على وقائع الحياة، وشروطها، وتغييرها. وبما أن الإيديولوجيا تُعَدُّ تعبيراً عن طبقة أو فئة أو جماعة، لذا؛ فهي انتقال من التعبير عن الرؤية الفردية (الفلسفة)، إلى التعبير الجماعي أو عن الجماعة، وتعتبر الفلسفة الماركسية، عندما تتبناها طبقة البروليتاريا: هي التعبير الإيديولوجي عن مصالح وتطلعات هذه الطبقة، وكذلك، تعدّ الفلسفة الليبرالية تعبيراً عن الحرية الفردية، والمصالح الإيديولوجية للطبقة البورجوازية، وبذلك؛ تعتبر الإيديولوجيا: تطبيقاً خاصاً لفلسفة أو فكر محدد. وتنبع مشكلة الصراع بين الفلسفة والإيديولوجيا، أساساً، من محاولة تحريف الفلسفة أو الفكر، وفقاً لمصالح وتطلعات الفئة أو الجماعة، مما يجعلها تخرج عن إطار النسق الفلسفي أو تتعارض معه، وذلك يكون وفقًا لتفسير محدد لهذه الفلسفة أو ذلك الفكر، يراه آخرون تحريفاً، ويقوم على تنفيذ الإيديولوجيا جماعة سياسية، تعتقد بها، وتعمل من أجل ترسيخها في الواقع، ويشعر جميع المنضوين تحت لوائها، أن مصالحهم المباشرة ورغباتهم، سيتم تحقيقها ضمن الممارسة العملية للأهداف التى تنطوي عليها الإيديولوجيا، وكل إيديولوجيا تحاول إلغاء التناقضات الفردية، وتوحيد الأفراد المنضوين تحتها، في سياق عملية الاندماج ضمن شعاراتها العامة؛ فالإيديولوجيا تجيد الإيهام في أنها هي فقط: الحق، والحقيقة، والخير، والأخلاق، وأنها بعيدة عن التطلعات الأنانية؛ بل لابد أن نضع في اعتبارنا، القائمين عليها ومصالحهم؛ فقد تكون الشعارات زائفة، وتتناقض مع الممارسة العملية.

وأما عن نظرته لمستقبل الدراسات الفلسفية في عالمنا العربي، فهي نظرة قاتمة؛ حيث يري أنه بعد جيل من المؤسسين للفلسفة في العالم العربي، أخص بالذكر "على عبد الرازق" و"طه حسين"، ثم جيل الرواد، مثل: "عبد الرحمن بدوي"، و"توفيق الطويل"، و"يوسف كرم"، و"زكريا إبراهيم"، و"عاطف العراقي و" حسن حنفي" و" محمد علي أبو ريان"، وغيرهم، نلاحظ اضمحلال في حركة الفلسفة في الوطن العربي. وتواجه دراسة الفلسفة في العالم العربي مشكلات كثيرة، لعل أهمها؛ مشكلة انغلاق الباحث على تخصصه، وفي كثير من الأحيان، تقوقعه على كتابات فيلسوف أو اثنين فقط، هذا يؤدى إلى تحجر الفكر والفلسفة وموت الإبداع.

تحية طيبة للدكتور رمضان الصباغ التي كان وما يزال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام.



د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
أعلى