أريج عبد الجليل مختار - ملامح من دخان.. قصة قصيرة

جلست على كرسيها الهزاز بعد أن هدها الإعياء ، تنظر الى السماء بحزن كبير وقد ألتف حولها دخان سيجارتها التي اضحت جزءا من ملامحها.
جلست وفي ملامحها بقايا تفاصيل انثى من الماضي ، بعد أن فارقها الأمل وصارت ترى نفسها بلا ذكرى ، بلا أسرة ، بلا أحساس ، فقط كانت تستيقظ لتدخن سيجارتها وتنام لتحلم بها .
في الماضي عندما كانت صغيرة ، كانت تتراكض في أرجاء الحي وتتبختر وكأن لا انثى اخرى غيرها في الأرجاء ، كانت ترى نفسها اجمل انثى على وجه الارض بل اجمل انسان ، كان الجميع ينظر اليها بتفانٍ واعجاب شديدين ، وهي قد أجادت في كل خطوة رسم ملامحها وتفاصيلها الانثوية ، يتراصون على طول الطريق لرؤيتها قادمة من اوله لآخره ، وقد كان الصمت يعم المكان الذي تمر به الا من همسات بعض النساء اللائي يرينها خطرا˝ عليهن ، فكثير من الرجال كانت لهم أجمل حلم ، وبأن الرجل الذي ستتزوجه سيكون اوفر المخلوقات حظا˝، ولكنها مع ذلك لم تك تكترث لأحد بل ظلت تبتعد عن كل رجل حاول التقرب منها ، او التودد اليها ركلت كل الرجال بعيدا˝ دون ان تفكر في ان هنالك يوما˝ قد تفتقد فيه كل هذا .
حكت كل هزة عن مغامرة تمنت لو عاشتها متخيلة اصوات المارة من خلال صرير الكرسي الذي كان دائما˝ ما ينبهها الى العالم الخارجي ، ذلك العالم الذي انفصلت عنه وباتت الوحدة تنخر في عظامها حتى اصبحت هشة ، وقميصها الذي تلون برائحة الوحدة ترى من خلاله آلام السنين التي رسمت ملامحها بأتقان مجسدة ذلك الالم في ثنايا القميص ، وتلك التجاعيد التي حملت بين طياتها بقايا سيجار .
كان كل شيء بالنسبة لها كسجائرها تلك ، يبدأ ثم يتلاشى للاشيء ، وهي لا تزال تتأرجح في كرسيها الهزاز ومواء قطتها السوداء التي أضناها ذاك الرفيق الذي يبدأ يومه كما ينهيه ، حتى قطتها بدأت تحس بالملل منها، فكانت كثيرا ما تلجأ الى الجلوس في أعلى سقف المنزل تنتظر رؤية اي ظل يقترب من المنزل علَّّ أحدهم يأتي لزيارتهم ، حتى القطط اصبحت لا تأتي ، وكان اكثر ماتكرهه وتدير وجهها منه .. القطار الذي ظل يذكرها بسيدتها من خلال دخانه الكثيف المتصاعد ، والفرق الوحيد بين القطار وبين سيدتها هو صوت الصافرة، فسيدتها حتى لو أرادت ان تنادي عليها كانت تنظر اليها بأعين متماوتة ، وكأن لا حياة فيها ثم تغمضهما ونادرا˝ ما كانت تسمع صوتها .

لذا ظلت تلجأ في كل يوم الى اعلى المنزل تهز ذيلها الذي نادرا ما تتذكر وجوده لأنه ليس هنالك من سبب يدخل الفرحة في قلبها لتهزه ، حتى ان احست بجوع كانت تذهب وحدها الى الثلاجة علها تجد ما يطفيء جوعها الا انها كانت تعود خائبة فتدور في المنزل بحثا˝ عن الفئران ، التي هي ايضا˝ لم تسلم من البؤس فتضطر احيانا˝ الى الافراج عنها لانها كانت جزءا˝ من الاشياء القليلة التي تبعث في نفسها السرور.
ولا تزال سيدة المنزل تتأرجح على كرسيها الهزاز الذي تمنت القطة لو يتحطم.. وهي تهمهم جيئتة˝ وذهابا بكلمات غير مفهومة ، اقرب الى التعويذات السحرية ، كانت تطلقها خلف كل أنة يصدرها الكرسي وتتفنن في اطلاق دخان السجار على أشكال مرة على هيئة كرسي، ومرة على هيئة سحابة ، وطائفة من الذكريات التي تسبح امامها ، وشيئا˝ فشيئا تستسلم للنوم ، فتلقي براسها على كتفها الهزيل الذي يئن مما يثقله ، وتنساب من بين عينيها سبيبة طويلة كانت الدليل الوحيد على ان هذه أنثى تلك ايضا لم تك تعيرها اهتماما˝ فترحل في عالم بعيد جدا تسترجع من خلال احلامها الماضي وضحكاته فتبتسم وتستيقظ مبتسمة لتواصل سحب دخان السجار وتغرق في عالمها من جديد .
بدت حياتها مملة كثيرا ، حتى هي ادمنت ذلك الحال ، فكانت تقول لقطتها اعرف ان رفقتي سيئة ولكنك مثلي لا أحد يرغب بك ، ثم تضحك وتنصرف عنها القطة وقد تكورت عيناها من الغيظ .
بهيئتها البالية تلك تخرج في الليل الى فناء المنزل وكأنها تبحث عن شيء ما ، تدور وتدور، من ثم تجلس على عتبة الباب تحتضن ارجلها وتدندن بصمت .. كأنت تبكي تطلق دمعا معبقا برائحة الدخان ... يتعثر في وجنتيها ؛ جراء بقايا السجار ، يرسم خطوطا هي اقرب الى لوحة فنان تشكيلي تحكي عن نفسها بنفسها ، تأخذ بيدها وتمسح تلك الدمعة لتذرف أخرى، وقد غاص الألم عميقا في داخلها فتطلق زفرات هي اشبه بريح دافئة ، تترك احساسا بالحزن والاكتئاب خلفها .
عندها فقط تقترب منها قطتها لتشاركها الألم والاحساس بالوحدة فتجلس بقربها بجسدها الدافيء ذاك، وتضع راسها على قدميها مجتهدة لتبعث الحب في قلبها رغم وصمها لها بالقبح، في لحظتها تلك اخذت السيدة تفكر فيما اذا كانت قد تزوجت اطفالها كانوا ليتراكضوا ويتقافزوا فرحا من حولها تتعالى ضحكاتهم لتملأ المنزل احساسا˝ بالدفء والحياة ، وكانت هي لتكون انثى ، شابة مفعمة بالجمال ولكن تستيقظ من حلمها فجأة ، من الذي سيهتم بالقطة ! ثم تعود مرة اخرى من المؤكد ان الاطفال سيهتمون بها ،فتنظر اليها القطة معاتبة وكانها تقول: لكأنك تهتمين بي الآن ! فتبتسم في وجهها بحب وتعود لتذرف دمعها .
ظلت ايامها كما احلامها متشابهة ، حتى استيقظت ذات صباح وهي على يقين بانها ستنظر الى هيئتها في المرأة بعد ان شيد العنكبوت بناء عليها فاخذت تجرجر قدماها ببطء ونظرت الى المرآة في خوف وذهول ، وعلى وجنتيها ملامح خجل شاخ مما خطه الزمان .
توقفت امام المرآة دون ان تنظر الى وجهها ، مطأطة راسها وهي بين مشتاقة وخائفة من ان ترى شبح وحدتها يمثل امامها ؛ متمثلا˝ في بقايا انثى صاغها الزمان باتقان، ترددت بعض الشيء ولكنها ما لبثت لحظات من التردد حتى نظرت الى نفسها اخذت تنظر بتمعن علها تعرف من هذا الشخص الذي يقف امام المرآة , بحثت في خصل شعرها لم تجد نفسها، بحثت في تفاصيل وجهها فلم تجد غير خطوط الدخان همت بتلوين وجهها علها تعيد صياغة ملامحها التي اضحت كلغز صعب الحل وقد امتلأ وجهها بحبيبات من الرمل اختلطت ببقايا الدخان فاظهرت تجاعيدها اكثر من ذي قبل _في تلك اللحظة_ أرادت ان تبكي .. ان تصرخ .. ان تطالب بما كان لها ، جمالها شبابها ، لم تك تتوقع ان ترى احلامها تزوي امام عينيها وهي تنظر دون حراك ودون وعي منها بان ما مضى لن يعود، ولن تعود لها ملامحها السابقة فانهالت بالضرب على ذاكرتها علها تنسى ما كانت عليه سابقا˝، وترسم لنفسها ملامح خاطها الدخان برماد سجار .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى