أمل الكردفاني - أصول.. حكاية

الساعة الثانية عشر مساء ، موعد تلقي الفحص الليلي لمستوى السكر في الدم ، الفراشة مزروعة في ظهر كفي تمتد ابرتها لتمس العظم البارز فتحدث الما عصبيا خفيفا ومرا. كانت أصول تتابع حالتي باستمرار ؛ السيستر او الممرضة المبتسمة دائما ، سوداء وطويلة ممشوقة القوام ، تنحني باحتراف فتزرع الحقن داخل الفراشة او تطعن إبهامي لقياس السكر. تحزن إذا تأوهت وتعتذر بألم وتعود لتبتسم. أتعمد التأوه لأتابع رد فعلها الغريب هذا. الحزن بعمق ثم ابتسامة ثم نتسامر قليلا وتغادر لتجلس خارج الغرفة. تدير الشيفت الليلي رغم أن الأجواء تكاد تكون ساكنة. لا أحد غيري يظل مستيقظا حتى اولئك المدمرون بالكامل ممن يتعالى صراخهم طوال اليوم من الألم رغم كمية المسكنات التي يحقنونها فيهم. حوادث السيارات هي السبب ، الحوادث التي تنتج عن قيادات متهورة من سائقين لا تهمهم الحياة كثيرا.
ينام الجميع ويظل الليل ساكنا. اما أصول فهي تتبع أصول المهنة بحيوية وصرامة. المرأة التي أتمنى دوما أن أتزوج من تكون مثلها في الصبر لأنني لست صبورا ، وفي القوة لأنني ضعيف جدا ، وفي الابتسامة لأنني كئيب حد القبر.
الفراشة فوق ظهر كفي تمنعني من حمل الهاتف ، فأرخي سمعي حتى اتأكد من أن أصول جالسة في الخارج...إن وجودها يمنحني طمأنينة ما.
كان التخدير الكامل قد جرح حلقي لذلك أغمضت عيني ونمت.
بلا أحلام...أو ربما بأحلام لم أتذكرها ، لقد أصبح الحلم وعدمه سيان. أن تحلم أو لا تحلم ، أن تبقى منبسطا فوق سرير مخصص للمرضى أو فوق أعشاب مرج أخضر فلا فرق. المهم أن لا نتألم. تلك الرفاهية لم تعد ذات مغزى اليوم. فقبل عشرين عاما اكتشفت أن الحاسب الآلي لديه خلفيات متحركة لمياه البحر اللازوردية الشفافة والتي تمد جزرها وتنقبض بصوت لطيف. أتذكر أنني قضيت وقتا طويلا مستمتعا بذلك المشهد. أما اليوم فكل الأجهزة أضحت متمتعة بهذه الإمكانية حد الملل ، إن الحلم مهزوم دائما حتى يوم موتنا الأخير.
استيقظت حينما جاءت ممرضة أخرى وقاست السكر فوجدته مرتفعا ارتفاعا جنونيا. وحضرت طبيبة باطنية مع طبيب العظام. كانت الطبيبة تحدق في وجهي بشكل غريب حتى وأنا أتحدث إلى الطبيب. كانت تنظر لي وكأنها ترى شبح شخص سيموت بعد قليل.
جاء ممرض فسألته عن أصول ؛ أخبرني بأن حادثا مروريا أصاب والدتها وأختها.
حادث مروري آخر ، إنني أشعر بالغضب من السائقين وأرى أن عقوبة تهورهم يجب أن تكون الإعدام. بعض الأعراب يقودون السيارة كما لو كانوا يقودون حمارا. وهم دائما يبتسمون ابتسامة بلهاء. هؤلاء لا يملكون أي إحساس بالآخرين ، بل ويمكنك أن توجه لهم كل سباب العالم ولكنهم لا يتأثرون إلا إذا مسست جوهر أرواحهم الميتة، فهم مجرمون بلا أدنى وازع إنساني. كائنات خفيفة العقل واستئصالهم من الوجود ضروري لضمان سلام البشر.
أصول التي كدت أن اخبرها ليلا بأنها لو وجدت سبيلا للهرب إلى كندا أو امريكا فستحصل كما حصلت سودانية أخرى على جائزة أفضل ممرضة في العالم وآلاف الدولارات واحتراما شعبيا كبيرا.
لكنني تراجعت عن إخبارها في اللحظة الأخيرة ليس لأنها قد لا تهتم ولكن لأنها قد تهتم. نعم.. ربما تهتم وتمتلك حلما..خشيت أن أمنحها حلما ينتزعها من الصبر على واقعها الذي اندمجت فيه بكل خلية من خلايا جسدها وكل نفحة روح فيها.
من الأفضل لمن يعيش في بلادنا هذه ألا يحلم أبدا. بل أن يندمج في مرارة الواقع حتى أنه يتمكن من العودة للابتسام بعد لحظة حزن سريعة كما يحدث لأصول عندما تسمع تأوهاتي الكاذبة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى