نبيل محمود - المدينة الحديثة

نبيل.jpg

العقل يصلّي في مكتبة المدينة
ينكبُّ على الأوراق
بخشوعٍ دنيويٍّ..

كان الوهم كحشرةٍ تمشي على (شريط موبيوس)* بلا نهاية، ظنّ أنّها لابثةٌ في الخارج ولمّا التفت رآها تسخر منه في الداخل. توّهم أنّ المكتبة هي ملجأه الأخير، وملاذه الآمن من هوج الجهلة وهوس القتلة.. استتر بالموسوعات واندسّ بين المجلّدات ولكنْ.. لا جدل هيجل نفعه ولا مطْلقه أنقذه من فِخاخ الظلال وشُرُك المتاهات.. داهم الجند الغِلاظ القاعة وراحوا يقلبون الرفوف وينتفون ورق الكتب العزلاوات. سحبوا ذراعيه إلى الخلف وقيّدوا معصميه بقيدٍ بلاستيكي، وغطّوا رأسه بالكيس الأسود وسحبوه كالخروف.. كانت التهمة قبلةً كان قد نسيها ذات يوم على شفةٍ جائعة..

أنت في المدينة
أنت متورّط في الشأن العام إذن..
في المدينة حتى القبلة تغدو سياسيةً!

(الصخب والعنف)** على أشدّهما في الخارج. بين حقبةٍ وأخرى تجتاح المدينة الجائحة ذاتها. بعد انقشاع الغبار الأحمر وغسْل الشوارع من الأتربة والدماء ورفع الأنقاض والجثث.. تنحني المدينة على نهرها لتغتسل من آثار الهياج والاجتياح.. وترى في مرايا الماء ما خلّفته الأحداث على وجهها من خدوش وتجاعيد.. وتمشّط شعرها المجعّد.. تختلط أغنيتها الحزينة بهمهمة الأمواج..

كانت الحداثة قد سكنت الطوابق العليا للمدينة
تغنّتْ بالإنسان- المفهوم
وأغفلت الضواحي المهمّشة وأحزمة الفقر
كان الفرح هشّاً في قلب الحداثة
والصروح كانت من هياكل الجروح..

كانت الحشود تغادر الريف الفسيح صوب المدينة الجديدة، الأفواج من كلّ الاتجاهات تسرع نحو المركز. كلّما اقتربوا أكثر، تخلّصوا من بعض وحولهم ولمّعوا أحذيتهم أكثر. كانت الجموع تتسابق للوصول إلى المركز. تساقط الكثير منهم في الطريق. تزاحموا وتصادموا لم يعد المركز يسعهم كلهم واشتد التدافع، فارتفعوا عن الأرض وأخذوا يفورون إلى الأعلى كالنوافير حتى كادوا أن يلامسوا السماء. تجمّدت تلك النوافير وصارت لها نوافذ زجاجية لامعة. قليلون هم الذين نجحوا في الولوج إلى قلب تلك النوافير. صعدوا عالياً وسكنوا خلف تلك النوافذ الزجاجية، وشخصوا بأبصارهم بعيداً بعيداً.. نحو الريف المهجور. في الأسفل رفع الطفل الممسك بيد أبيه نظره إلى الأعلى وهتف متسائلاً: هل هذه هي التي يسمّونها ناطحات السحاب؟!... ابتسم الأب وهو يجيب: نعم يا بني.. ولمْ يبقَ لنا فيها أيّ مكان. استدارا وابتعدا باتجاه الضواحي حيث يسكنان..

صمتت الحداثة أخيراً
فانْبرتْ ما بعد الحداثة للحديث
عن الدروب الخلفية والأحياء المنسيّة
لكنّها لم تبْرأ من (ما) بعديتها
وظلت تسكنها سَورة النفي
ولمْ تنْفِ نفيها
فظلّتْ أسيرةَ المدينة متعدّدة الطبقات؟!

أطلقوا سراح العقل بعد شقاءٍ عظيم، بعد أن تعهّد لهم أنْ يحسن التدبير والتبرير، وأنْ يخفّف من غُلُواء الشرِّيرين من سكّان الضواحي.. خصّصوا له مكاناً فخماً هناك خلف إحدى النوافذ الزجاجية اللامعة. وفي طريقه كان عليه المرور بالضواحي.. ها هو! هتف أحد شبّان الضواحي.. أحاط به الناس بأسئلتهم النارية الغاضبة. كان وسْطهم وحدس أنّ أيّة أجابةٍ منه قد لا ترضيهم ستعرّضه للبطش.. ومن هناك من مركز المدينة العالي لمح (اليد الخفية)*** تشير إليه وتحثّه على القيام بواجبه. شعر بحيرته وعجزه الشديدين أمام الأخطار التي تتهدّده من كلّ الجهات وكلّ الأطراف. ترسّخ في أعماقه يقين أكيد.. عند حرب الجميع ضد الجميع، فإنّ رأسه يظلّ مطلوباً من الجميع!



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) شريط موبيوس مصنوع من ورقة مستطيلة تعقف نهايتها 180 درجة وتلصق بالنهاية الأخرى. فإذا قامت حشرة بالزحف على طول هذا الشريط، فإنها ستمر على كلا السطحين (وقد صارا سطحاً واحداً) وستعود إلى نقطة البداية إلى ما لانهاية، وكأنّه طريق واحد لا ينتهي.
(**) عنوان رواية لوليم فولكنر
(***) تعبير شهير لآدم سميث لآليات عمل العرض والطلب لضبط الأقتصاد في الأنظمة الرأسمالية.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى