نبيل محمود - مرآة نرسيس

ارتدى ملابسه وتأنّق كعادته في كل يوم جمعة. لمْ يُطل الوقوف أمام المرآة كما كان يفعل من قبل. لم يعُد يطيق رؤية الغضون في جبينه أو التجاعيد وقد خطت خطوطها في وجهه الذي انطفأت نضارته. أسرع بتمشيط شعره وهو يرى كم هو من السهل احصاء عدد الشعيرات القليلة التي لمْ تعدْ بيضاء بعْد في رأسه! عطّر ملابسه ووجهه بعطره المفضّل برشّةٍ سريعة. رنّ الموبايل فنظر إلى اسم المتصل.. والتقطه ليجيب:
- أهلا كامل.. لقد تأخرت عليكم أليس كذلك؟
- نحن هنا منذ أكثر من ساعة.. هل أنت قادم أم لا؟
- طبعاً قادم.. أنا أهمّ بالخروج، نصف ساعة وأكون عندكم.. إلى اللقاء.
- نحن بانتظارك.. إلى اللقاء.
اعتادوا الاجتماع أسبوعياً عند العاشرة من صباح كل يوم جمعة في (مقهى الشاطئ). كانوا مجموعة من الاصدقاء القدامى، معظمهم من المتقاعدين. كان جميل قد تجاوز الستين من العمر وتقاعد بعد خدمة أكثر من ثلاثين عاماً من العمل. كان لقاؤهم الأسبوعي وكأنه استعادة لذكريات أيام شبابهم وهم جالسون في ركنهم المعتاد، الذي يطل على النهر الذي يجري ماؤه قبل أن يولدوا هم وآباؤهم وأجدادهم. وإنْ كانت أحاديثهم تدور حول الشؤون العامة وما طرأ على حياة المدينة من تغيرات في السلوك والأفكار، إلا أنهم ما كانوا يغفلون غالباً في أحاديثهم من التندر والمزاح على قصص كثيرة وطريفة مرّت في حياة كل واحد منهم، ومآثر وجمال أيام زمان، حين يقارنونها بأحوال هذا الزمان العجيب. كان جميل جميلاً في شبابه، ومفعماً بالحيوية والنشاط. وقد كان واثقاً أن ما وهبته إياه الطبيعة من نضارة وحسن، هبة دائمة له وليس من قوة قادرة على انتزاعها منه، مما جعل في طبعه شيئاً من المكابرة والغرور. فكان عازفاً عن الخضوع لسنن الحياة الطبيعية، وكان دائم التأجيل لما يجب أن يقوم به في الوقت المناسب، مثلاً، مسألة الارتباط وتكوين أسرته الخاصة. كان يقول لمن يفاتحه بهذا الأمر جملة مراوغة ومختالة! بأنه ينتظر الأجمل والأفضل.. فلم العجلة ولديه حياة طويلة وعريضة؟ دون أن يدرك حقيقة أن الزمان لن ينتظر مع المنتظرين!
فالأشياء الجميلة جميلة.. لأنها تحدث في الوقت المناسب. أما فوات الأوان فلن يخلّف وراءه غير الزهور الذابلة، وأوراقاً شديدة الشحوب، ونفوساً ناضبة، وأجساماً أصابها الجفاف، فباتت أشبه بالحطب القابل للاشتعال عند تعرضه لأصغر شرارة نار.

اِستدار جميل بسرعة بعد مكالمة كامل، وقد انتهى من ترتيب هندامه وتصفيف شعره، لكي يغادر غرفة نومه ويلتحق بالاصدقاء. تفاجأ بمرأى ما يحجب عنه باب غرفة النوم. فقد كان بمواجهة مرآة أخرى! على بعد خطوتين منه، لم تكن مرآة بالضبط.. كانت أشبه بشاشة بلازما هلامية السطح بطول قامته، تنعكس عليها صورته وهيأته كاملةً، وهي تتموج وكأنها منعكسة على صفحة ماء! كان التموّج خفيفاً مع أن التفاصيل كانت شديدة الوضوح. اندهش مما يراه إلاّ أنه ظنّها لعبة من ألاعيب الخيال، أو حسبه اختلاقاً ذهنياً لكثرة ما اعتاد أن يحدّق في المرآة طيلة حياته.
وما أن بادر إلى التحرك من مكانه حتى راحت صورته في المرآة العجيبة تحاكي الحركات التي يقوم بها. مدّ أصبعه إلى المرآة لكي يتأكد من واقعية أو وهم ما يراه، وإذا ما كان شيئاً حقيقياً بالفعل. استغرب لما رأى أن حركة أصبعه تنعكس في المرآة. قرّب أصبعه من المرآة وحاول لمس صورة وجهه المنعكسة فيها، وما أن لمس نقطة في خدّ صورته المنعكسة، حتى بدأ موضع اللمس بالتموج بسرعة كدوامة صغيرة. ثم ما لبثت أن تحولت إلى ما يشبه قطعة من نقاط كثيرة ومضيئة كسديم صغير، وأخذت تلك النقاط المضيئة بالانطفاء الواحدة تلو الأخرى. وتحوّل ذلك الجزء من خده إلى بقعة من السواد، وكأنْ لمْ يعدْ هناك في ذلك الموضع ما ينعكس في المرآة العجيبة! فكر مع نفسه إنها ليست لعبة وليست أمراً متخيلاً.. والتفت بسرعة إلى المرآة الحقيقية لينظر إلى صورته فيها. استولى عليه الجزع وهو يشاهد أن ذلك الجزء من خده لا وجود له! مجرد فراغ أسود غائر قد حلّ مكان ذلك الموضع من وجهه! استبد به القلق الشديد، فحرك يده ليتحسس ذلك الموضع من وجهه بأصابعه، فتملكه الخوف والفزع وتسارعت خفقات قلبه. فقد كانت أصابعه وكأنها تتحرك في حفرة صغيرة انحفرت في ذلك الموضع، لم يعد ذلك الجزء من خده موجوداً وهو يتحسسه بأصابعه. شعر بتشنج وانقباض شديد في صدره يضغط بقوة على قلبه. وبدأت وخزات من الألم تشكّ قلبه. وهذا دليل على أن نوبة من تلك النوبات الخطيرة على وشك مداهمته. كان يجب أن يأخذ حبة من دواء القلب. والعلبة عادة يضعها فوق منضدة قرب الباب بجانب محفظته. وهو إجراء لجأ إليه منذ فترة طويلة، لكي لا ينسى حمل علبة حبوب القلب معه، حين يخرج من شقته. سارع إلى الالتفات للوصول إلى علبة الدواء، فقد بدأت قواه تخور، وساقاه ترتعشان. ولكن واجهته، ثانية، تلك المرآة اللعينة. كان في ورطة حقيقية، فإنْ جازف بلمس المرآة مرة أخرى، يخشي من أن يفقد المزيد من أعضائه، وإنْ بقيِ في مكانه فمصيره الهلاك لا محالة!
عرف لأول مرة لعنة كون المرء أعزباً ويحيا وحيداً، وليس هناك من أحد في هذه اللحظات الحرجة ليمد له يد العون ويناوله تلك الحبة اللعينة! أخذت قواه توهن أكثر فأكثر وخفقات قلبه تتسارع أكثر، والوخزات تزداد إيغالاً وإيلاماً لقلبه. تأكد من أن لا أمل له سوى المخاطرة، فلم يعد أمامه من حل سوى اختراق تلك المرآة اللعينة والوصول إلى علبة الحبوب، وليكن ما يكون! استجمع كل ما تبقّى لديه من قوى، واندفع بقوة وكأنه يقفز مجتازاً هوة سحيقة، للوصول إلى علبة الدواء..

لم يكف الموبايل عن الرنين طيلة الظهيرة وخلال العصر كله. اعتاد أصدقاؤه التفرّق عند وقت الغداء مغادرين إلى بيوتهم وعوائلهم لتناول طعام الغداء بعد اجتماعهم الأسبوعي. وقد حسبوا أن شاغلاً ما شغل صديقهم جميل عن الحضور. لكن كامل صديقه الحميم أخذت تراوده الشكوك ويساوره القلق، وظل يتصل به طوال الوقت. وحسم أمره أخيراً واتصل بصديق مشترك لهما عند المساء، وشرح له شعوره بالقلق الشديد من عدم رد جميل على مكالماته منذ الظهر وحتى ذلك الحين، فقررا الالتقاء للذهاب إلى شقة جميل التي يحيا فيها لوحده منذ تقاعده.. عند وصولهم قرعوا الجرس ثم طرقوا الباب بقوة ولما لم يفتح لهم الباب أحد، استعانا بجيران جميل وشرحا لهم غيابه وعدم رده على الموبايل منذ ما قبل الظهر. وقرّ قرار الجميع على كسر باب الشقة عنوة والدخول لاستجلاء حقيقة الأمر. استغرق الأمر منهم قليلاً من الوقت وكثيراً من الجهد. دخلوا وهم ينادون على جميل. توجّه كامل، الذي كان يعرف كل مكان في الشقة جيداً، إلى غرفة نوم جميل. فتح الباب ووجد جميل ممدّداً على الأرض ويده اليمنى ممتدة باتجاه المنضدة التي عليها علبة الدواء، وعيناه شاخصتان تملأهما نظرة رعب هائلة، وفمه مفتوح على اتساعه وكأنه كان يريد أن يعبّ هواء العالم كله. بادر أحد الجيران وهو موظف صحي إلى الانحناء على جسد جميل متفحصاً، وضع أذنه على صدر جميل منصتاً إلى دقات قلبه، وتحسس بأصبعه عنقه، ولمس بكفه جبينه فألفاه جافاً وبارداً، نهض وهو يخاطب الحضور بنبرة حزينة:
- لا شيء يمكن عمله يا جماعة.. يبدو أن المسكين قد فارق الحياة منذ ساعات طويلة..
  • Like
التفاعلات: Maged Elgrah

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى