محمد بشكار - رسائل الكفران.. (الجزء الرابع)

1
صديقي المُناضل لِصَالح الطبقة العاملة، انتهى به نِضاله بعد أن خذله من يُدافع للرَّفْع من أجورهم تحقيقا لعيش كريم، إلى المُطالبة بإصلاح المراحيض في مقرَّات العمل، لقد أدرك متأخرا وهو على شفا التقاعد، أنَّ من يُعرقل كل المطالب النِّضالية هم أنفسهم الذين يعرقلون المجاري في دورات المياه بعد أن امتلأت بطونهم عجيناً !
2
الحياةُ لحظاتٍ نُحاول في غمْرة تعاستنا أن نغْنم أسعدها لنشْعر في الهُنيْهة ببعض الأبد. وقد أتنطَّع مُسْتقوياً على ضعفي وأنا أقول: أنا أطول منك أيها الأبد، ليس بعُمري القصير، ولكن بشِعْري ولو لم يتجاوز السَّطرُ في قلمي المسافة بين الحبل والوتد!
3
ما زال جنْبي الذي خرجتِ من ضِلْعه فارغاً، وبسبب فراغه تقوَّستُ وصرتُ أنا الأعوج، ليتكِ تعودين لمكانكِ ليكتمل جسدي!
4
هناك اقْتباسٌ يحدث في رأس صاحبه فيقرأه واهما في كل الكتابات، وهي حالة مرضية تستدعي زيارة طبيب، ومن أسبابها قلَّة النوم والرغبة في الحصول على حبيب وتضخُّم الأنا التي لِمكْرها تجعله لا يرى سواه، وليْته يداويها قبل أن يسْتفحل الداء ويجُرَّ على نفسيته المريضة أعطاباً أخرى قد تصبح مزمنة وتجعله هُزْءاً بين الناس!
وهناك اقتباسٌ يؤشِّر فيه المُقْتبِس إلى المقْبُوس المُسْتخرج من بُطون الكتب كما أخرج الله يونس عليه السلام من بطن الحوت وأعْلى مقامه نبيا في القرآن، وهذا الاقتباس للأمانة من مُسْتحبَّات الأدب وليس من نواقضه الذي يقع بخروج الريح (مثلا) ويستدعي تجديد الوضوء، ويحدث في الغالب جدل التأثير والتأثًّر مع الأعمال الكبيرة التي ذاع صيتها ودرجت أقوالا مأثورة على الألسن وليس مع خرْبشات ناشئة الأدب التي مازالت تتعثر في أخطائها النحوية وركاكتها الأسلوبية تعثُّرَ الخجولة حين ترتدي ملابس أطول من قامتها، وهو اقتباس يُسمَّى في النَّقد الشِّعري تضمينا، بل ثمة من طرَق باب بيت شاعرٍ آخر بأدبٍ جَمٍّ ولكن بإلحاح دون إحداث الجراح، وما زال الشاعر يُكلِّمه وهو يطْرُق بيده الباب حتى كلَّمتْه، ودون أن يُغْمِطه حقَّه في مِلْكِيَّة البيت، استأْذنه أن يبني بيتا آخر فوق بيته مع شرْط عدم الإخلال بالمعمار الهندسي للقصيدة مضمونا وإيقاعا وقافية، فبنى بيتا على بيت قد يكون في دفئه أكثر شاعرية، ومن رحابته اتخذته جميع الأفئدة سكنا.
وبالإضافة للاقتباس ثمة أيضا القَابَس الكهربائي الذي يسيء البعض استعماله، لذلك أنصحكَ أن تتأكد من توفره على كل مُستلزمات السلامة مأمونة العواقب، فقد يضربكَ الضوء وأنت تلمسه بسوء، وعِوضَ أن تتألق على حساب الآخرين تحترق !
5
تعاملتُ بأدبٍ كبير ولم أنلْ إلا العطب، فناديتُ ابنتي لأساعدها في حلِّ بعض المعادلات الرياضية، فوجدت بعض العزاء بعد أن غيرتُ شعبتي من الأدب إلى العلوم، فكرتُ أن أشتري وزْرة بيضاء ليكتمل في كل النفسيات المريضة طاقمها الطبي، ولكنَّني خشيتُ أن أبدو في أعين تنظر ببصيرة الدَّجل فقيها يُبَخِّر الأحْجِبة وَيُصنِّف فهارسها تحت جُبة بيضاء!
6
يقولون الجوع كافر، وأقول الحب أيضا كافر وإلا لما تزوَّج رجلٌ امرأةً من ديانة على غير ديانته، فانقلبتْ حياته فردوساً بعد أن كانت جحيماً!
7
لا أحِبُّ أن أكرِّر التعازي بالنَّشْر كما تتكرَّر بعض المراثي بالشِّعر، فمهْما اختلفتِ العبارات ودرجة التَّأثُّر بحَدث الوفاة، يبقى المضمون واحداً هو النَّعي، وأكثر التَّعازي التي لا أحب أن أكرِّرها تلك المتعلقة بشاعرٍ لا يتكرَّرْ!
8
الأشياء السيِّئة تقع سريعاً، فكأنَّ ما وقع ساقِطاً لم يحْدُث أصلا !
9
لو أحْرَزْتَ النجاح والتفوق في عصر غير عصرنا، لهنَّأتكَ بحرارة كفيلة بأن تُظهر بالذوبان النصف الآخر للجبل المغمور بالثلج، لأن نجاحك وأنت في غير زمننا سيليه التقدير والتوقير، أما وقد نجحتَ في أيامنا فانتظر الفضيحة!
10
ثمة من يتَّهم الآخرين بما تقْترِفه يداه ليدْرَأ عن نفسه العليلة الشُّبُهات!
11
لا تتواضعْ كُنْ مُتكبِّراً، وفي بعض الأحايين حتى مع نفسك وأنت تنظر للمرآة، فقطْ حذار وأنت تشْمخُ بأنفكَ لِعِنان السَّماء أنْ تمُدَّه أبعد مِمَّا تسمح المسافة بينك وبين المرآة فتكسر الزجاج، وتُحدث في الأنفس بنرجسيتك التي لا تُطاق أبغض الجراح، تكبَّرْ وتجبَّرْ خصوصا إذا كانت تسود محيطك أخلاق العبيد، هكذا لا يعرفون ما تحت رأسك ويعتبرونك وأنت في قبرك دون شاهدة تحمل اسماً جنديا مجهولا، وبجهلهم يجعلونك بطلا وسيدا وربما مزارا تضيء لياليه الشموع، قدْ تجد في العرمْرم مَنْ بتواضعك لهُ يرفعكَ كما يرفع الخاتم الحجر الكريم، ولكن ماذا تصنع بعُمْلةٍ نادرة في زمننا كتلك العُمْلة التي لم تشْتَر خبزا لأهل الكهف حين استيقظوا في زمان غير زمنهم، لا تتواضع حتى لا تَضيع في الحشد قِرداً، فأنت إن تواضعت للَّئيم وضَعكْ!
12
المُثقَّفْ هو منْ يَتموْقَفْ!
13
نقْضي حياتنا ناجحين ونحن نُحاول تحقيق أبْعد مما يرْبض تحت الوسادة في أحلامنا، وبمجرد أن نُمسك بضالَّتنا يُصيبنا الفوْز بالإحباط!
14
تُضْحكني بلاغة بعض التعابير من قبيلة أن فلاناً ذو كعب عالٍ، لَيْتهم فقطْ يطْلِقون هذه الصِّفات الفخْمة على من يستحقُّها، بدَل توزيعها على منْ لا يملك من العُلو إلا كعب الحذاء الذي منحه طولا ملْحُوظاً في القامة !
15
طبيعي أن يبدأ الشاعر تجربته واقعا تحت سُلطة شاعر آخر وتتسم بداياته بالتقليد، فثمة من بدأ من تحت الصفر وأصبح بالمواظبة على الكتابة الشعرية رقما لا يجوز بدونه الحساب، وطبيعي جدا أن يتطور هذا الشاعر وينتقل من التقليد إلى الإبداع مُبتكرا بنات أفكاره من صلبه وترائبه، فيجمع بين الأبوة والبُنُوَّة في أسلوبه الخاص الذي اختطَّه ووجد إليه السبيل بعد طول ضياع، لكن ما ليس طبيعيا ويكاد يصبح من الشذوذ، أن يعود الشاعر بعد كل التراكم الذي كوَّم دواوينه فوق رؤوسنا، إلى التقليد، ولكن التقليد هذه المرة يكون مع نفسه، ولم نكذب حين وصفْناه بالشذوذ ونحن ننظر لشعراء وقد بلغوا من الشعر عتيا، يمارسون التقليد مع أنفسهم في كل ما يكْتُبونه من جديد، فلا تقْرأ لأحدهم ديوانا صادرا إلا وتحْسَب أنكَ منغمسٌ في قراءة الذي صَدر منذ سنوات، لا اختلاف في المعاني والصُّور واللغة والأسلوب، نفْس الروح تسري في ذات الجسد الذي لم تعُد له القدرة على خلق مجالٍ تتسرَّب عبرَه روحٌ أخرى، ربما الخوف من أن تكون الروح الجديدة شريرة تدنس طهرانية التجربة الشعرية العريقة بماضيها التليد!
16
بعض مظاهر القمْع والردع التي صارت تكشِّر بأنيابها في مناحي حياتنا، صارت تفرض علينا التفكير مليّاً قبل أن نمد اللسان بالسؤال: ما هو الحديث المسموح لنا بخوْضه مع الخائضين داخل أو خارج المستنقع، وما العقوبة المفترضة سجنا وغرامةً، أسئلة يجب أن يطرحها دائما إلى الفرن قبل الخبز، من يؤمن بِجدوى الكتابة ويكْفر بالواقع وهو يعلم أن عذابها كان غراما !
17
أحيانا تكون الجائزة بتتويج أحدهم هي الفائزة، وفي أحايين حين تُعطى بأسلوب التَّواطُؤات لمنْ هم دون المستوى، تفْقِد الجائزة قيمتها الرمزية وتصبح قيمتها المادية مجرَّد رشوة، ومنْ مشى في ركْبها له أجْر من رافق الميِّت في جنازة!
18
الجائزة الأدبية أو العلمية التي تأتي لصاحبها بأموال طائلة في آخر العمر، لا طائل من وراء رصيدها السمين، إذْ سرعان ما يتغيَّر اسمها من جائزة إلى إرث يتقاسمه أبناء المرحوم!
19
هناك دائما مكان أجمل وأرحب بِنفْس المكان الذي نُوجد فيه، ولكن بعض البشر خُلق بالفطرة مُهندساً للزوايا الضيقة !
20
حيث ينْعدم الأمل يوجد أمل !

محمد بشكار


(افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليومه الخميس 21 نونبر 2019)


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى