نبيل محمود - فجر الكلمة

نبيل محمود.jpg

(من الضروري التنويه بأن.. تقريظ الفشل، وتناولً الطعام مع جثة، وهذه القصة.. هي وحدات سردية لعمل سردي واحد أكبر وأشمل..)

توطّدت علاقة سمير بزهير وانعقدت بينهما الصداقة والثقة العميقة والتفاهم الضمني في الرؤى والأفكار حول الحرب ولا معقوليتها. لم يكونا الوحيدين الذين تؤرقهما تلك الأفكار، فمعظم من كانوا هناك استحوذ عليهم الشعور بأنهم مقتلعون من جذورهم وحياتهم، ويواجهون خطراً واحداً ومصيراً مجهولاً.. ولكن الأمر مع زهير كان مختلفاً، فالنظرة الواحدة بينهما كانت كافيةً لاختصار حديث ساعات. لم يكن بحاجة لكثير من الوقت للتفكير، فليس من شخص غيره كان أكثر استعداداً لتلقف تلك الفكرة التي ألمح إليها زهير ذات يوم. ولم يكن زهير ليجد شخصاً أكثر ثقةً من سمير ليفضي إليه بما يفكر ويخطط له. أخبره بقراره النهائي بالهروب من الجيش. فلديه صديق في إحدى مدن الشمال حيث سيرتب له وضعاً يكون فيه بعيداً عن هذه الحرب المجنونة. لم يكن عرضاً صريحاً لسمير للالتحاق بهذه المغامرة الخطرة. وهل هناك من يبحث عن مثل هذه الفرصة كسمير مهما كلفه الأمر؟ لم يتردد سمير كثيراً بالافصاح عن رغبته في مرافقته والخلاص من كل هذا الجنون. لولا قراءة زهير لشخصية سمير وميوله لما خاطر بكشف خطته له. استفسر سمير عن تفاصيل ما بعد الوصول إلى هناك فأطلعه زهير على أن هناك أفراداً يسلكون طرقاً سرية وغير مشروعة للهروب خارج البلد بمساعدة مهربين. وهناك من يظل هناك لأمر سوف يعرفه لاحقاً. لم يكن سمير يجهل ما يعنيه زهير بالأمر الآخر! فقد كان يعرف توجهات وأفكار زهير السياسية وسمع الكثير من قصص الذين يذهبون إلى هناك لقلب معادلة العدو والصديق!.. لكن سمير أوضح له بجلاء إنه يريد الخلاص والذهاب بعيداً.. وبعيداً جداً.. أبعد ما يمكن عن هذا البلد.. أخبره زهير أن ما يفكر به سيكلفه مالاً ليس بالقليل، ولكنه سيتدبر الأمر هناك فإن كان فعلاً يفكر بالأمر بجدية فكل شيء يمكن ترتيبه. كان عرض زهير مخلصاً ومجرداً من أية مصلحة أو غاية، فالفترة القليلة التي قضاها مع سمير جعلته يدرك دواخله وطريقة تفكيره، وكان يود أن يخدمه بغض النظر عن تلك القناعات الفكرية التي تقرّب أو تفرّق بينهما، فقد أحب في سمير تلك التلقائية وتعلقه بالحرية رغم مآخذه على ما في تفكيره من شطحات فوضوية، وربما بسبب هذا أحب فيه التحرر من القناعات الجاهزة وبحثه الدائب عن إنسانيته الحقة، وإخلاصه لقناعاته الشخصية، وصدقه بالإفصاح عن كوامن نفسه دون مواربة أو مساومة أو تزييف. أوضح له زهير أنه في إجازتهما المقبلة – فكانت تصادف في نفس الوجبة للإجازات الدورية – سيلتقي بمن يرتب كل شيء والتوقيتات المضبوطة للانطلاق في تنفيذ خطتهما.

مضى كل منهما لقضاء إجازته الحالية.. ولم يعد في ذهن سمير ما يشغله سوى تخيل طريق الهروب والتفاصيل التي ستنقذه من جحيمه. حين وصل سمير إلى البيت، استقبلته عائلته، كالعادة، بلهفة واشتياق بعد غياب شهر كامل. وكما اعتاد اختلطت دموع أمه بكلماتها كلما احتضنته عائداً من الجبهة. وأبوه يلاحقه بأسئلته التي لا تنتهي عما يدور هناك؟ وكيف هو الموقف؟ وكيف وكيف وكيف...؟ أما أمه فكانت أسئلتها كعادتها، دائماً، عن صحته؟ وعن طعامه؟ وهل هو كافٍ وهل هو جيد؟ وكيف يتدبر أمر غسيل ملابسه؟ وكيف وكيف وكيف...؟
لم يكن والد سمير يدّخر جهداً بالعمل في الأرض التي يملكها، متفانياً لتوفير متطلبات معيشتهم المتواضعة. كانت علاقة سمير بشقيقته الأصغر منه حميمة ويمازحها طيلة وجوده في البيت. أما شقيقته الأكبر سناً فكانت متزوجة، وما أن يصلها خبر وصول سمير حتى تهرع هي وطفليها إلى بيت والديها وتمضي فيه طيلة أيام إجازة سمير. وتظل تطوف حول سمير متفانية في تلبية أي طلب يطلبه أو يتمناه. وكانت تصر أن تقوم بعمل المعجنات (الكليجة) بيديها في آخر يوم من إجازته. ولا تترك بيت الأسرة إلا وهي تحشو حقيبة سمير بما يمكن أن تتحمله، فتودعه حين يحين موعد التحاقه، وتودع أسرتها ثم تعود لبيتها وزوجها. أما الشقيق الأصغر الذي لا يتجاوز عمره الست سنوات، فكان يحوم حول سمير ملازماً له كظله ويطالبه باللعب معه طيلة الوقت، وكان سمير يجاريه كطفل بلا ملل. لكنه في هذه الإجازة كان كثير الشرود وهو يقلب تلك الخطة التي رسخت في رأسه ويتلهف، وخلافاً للمعتاد، على أن تنتهي أيام إجازته بأسرع ما يمكن! لكي يستعلم من زهير عن آخر التفاصيل حول ما عزما عليه..

غادر البيت في اليوم الثالث من إجازته إلى العاصمة، وأخبرهم أنه سيقضي ليلته هناك للقاء بعض الأصدقاء. لكنه في الحقيقة كان ذاهباً للقاء دعاء، تلك المرأة التي صارت جزءاً من كيانه العاطفي. تعرف عليها في أحد أيام دراسته المتعثرة، ولن يستطيع نسيان تفاصيل ذلك اليوم الذي التقاها فيه. دعاء تلك المرأة الفاتنة ليس بجمالها الخارجي، ولكن بأنوثتها المتفجرة التي أثبتت له بالدليل الحسي القاطع، وجود الفردوس في هذا العالم! كانت تكبره بسنوات قليلة، وأرملةً فقدت زوجها في الحرب. تعرّف عليها في سوق من الأسواق المزدحمة حين صدمها دون قصد أثناء أحد أيام الدراسة وتسكّعه في المدينة. زجرته بشدة فبادر للاعتذار لها بصوت خافت، وهو ينظر بذهول في عينيها البنيّتين الغامقتين، ونظراتها المتوحشة التي لطالما فتنته. لم يعرف كيف بلغها صدق اعتذاره، ربما كان سببه التعبير الذي كان مرتسماً على وجهه - كما أخبرته بذلك لاحقاً بعدما توطدت وتعمقت العلاقة الحميمة بينهما - سارع إلى جمع ما سقط منها من أغراض تبعثرت على الأرض، وعرض عليها أن يحملها عنها إلى حيث تقصد. قد تكون تلقائيته وعفويته جعلتها تطمئن إلى عرضه. كان كالمأخوذ الذي لفحته حرارة أنوثتها، وأسكره عطرها الخاص الممتزج بعطر الليمون الذي تتعطر به. ويبدو أن رائحة ما كان يشتعل في داخله من أعشابه الذكورية! قد شمّته أنف الأنثى المتوثبة داخلها.. صوتها ونبرة نطقها للكلمات، ولون بشرتها الخمري، وتورّد خديها الخاليين من أي أثر للمكياج، وسمرة شفتيها المنفرجتين كنداء عسلي.. ونظراته البرية المنبهرة وارتعاش صوته كمفتونٍ مسحور.. ربما كل ذلك قد خلق بينهما نوعاً من أنواع التواصل الحسي والعاطفي الذي لا يمكن شرحه، فربط بين كيانيهما بميثاقٍ سحريّ من الافتتان المتبادل الذي لا يمكن فصمه. ومنذ ذلك اليوم لم يحدث أن انقطعا عن التواصل واللقاءات الحميمة، رغم قلتها، حسب ما تسمح به ظروف دعاء خاصة.

لما وصل سمير إلى العاصمة وجد لديه وقتاً فائضاً، لأن موعد اللقاء مع دعاء عند المساء، فراح يجول في شوارع المدينة ويستذكر أيامه فيها. وتذكر الصحافي صلاح الذي لم يلتق به منذ أيام الدراسة، ولم يحدث بعد التحاقه بالجيش أن شعر برغبة في مقابلته بعد تلك المقابلة حين تم رفض نشر مقالته الأخيرة. تردد قليلاً قبل أن يقرر القيام بزيارته، لكن تعبه وضجره من التجول في الشوارع دون هدف، حسم الأمر وتوجه إلى صحيفة (فجر الكلمة) حيث يحرر صلاح صفحتها الثقافية. وقصة صلاح مع الصحافة تستحق التوقف عندها.. لما في بعض تفاصيلها من إثارة وطرافة.

كانت ظروف صلاح العائلية ذات المستوى المتواضع تتطلب منه الانخراط سريعاً بالعمل ليسهم في تلبية متطلبات العائلة بعد الانتهاء من دراسته وحصوله على بكالوريوس اللغة العربية في كلية الآداب. موهبته شبه بالفطرية، في دسّ أنفه بين كل اثنين، وتتبّع مصدر أية رائحة قد تحمل خبراً أو قصة، قديمة جداً.. فمنذ صباه كان ذلك الكائن المسكون بالفضول.. وقد دأب أصدقاؤه في الدراسة على تحاشيه كلياً، إذا ما كانوا يريدون الاحتفاظ بسرٍّ ما. كانت قدرته السحرية في شمّ رائحة الكلمات والأخبار السرية، وتحويلها إلى قصة مثيرة، وكأنها صفةٌ خَلْقية وسمت أنفه الدقيق منذ الولادة. وكلما انتقل من مرحلة عمرية إلى أخرى نمت وتعاظمت لديه هذه الموهبة، مع تناقص وانفضاض الأصدقاء من حوله. الحظ ووساطة أحد أقاربه هي التي قادته إلى عالم الصحافة. أما موهبته الفضولية الفطرية فجعلته يلفت انتباه أحد جهابذة الصحافة، الذي لاحظ بخبرته الطويلة تلك الصفة النادرة عند صلاح، وتوقع له النجاح وساهم في تعبيد طريق تفوقه وتقدمه المهني، بعد قراءته لتحقيقه الشهير (البلدة المخمورة!) بعد فترة قصيرة من مباشرته لعمله في الصحافة.. ذلك التحقيق الذي نجح في كتابته بعد التقائه ببطل تلك القصة المثيرة. وإن كان صلاح في حياته السابقة ماهراً في خسارة الأصدقاء بسبب فضوله الشديد، فأنه تعلم في بداية حياته المهنية المحافظة على كل صداقة مهما كانت واهية أو صلة تربطه بأي شخص. فقد أيقن أن نجاح الصحافي مرهون بكثرة صلاته وصداقاته وقدرته على الوصول إلى أكثر الأماكن استعصاءً على الآخرين. لذلك لم يكن صعباً عليه أن يكون الوحيد الذي ينجح بترتيب لقاء مع ذلك المجرم الظريف! الذي سرق الأضواء حينذاك في بداية مشواره المهني. وذلك بحكم علاقته ومعرفته بالمحقق المسؤول عن التحقيق في القضية. وبعد تلك المقابلة ونشره تحقيق (البلدة المخمورة) الذي كان سبباً في ترسّخ قدمه في عالم الصحافة. كان تحقيقاً ناجحاً بفعل غرابة موضوعه وما فيه من إثارة، فمَن من الناس يستطيع الامتناع عن قراءة موضوع مثير؟! حتى أن الكثير من وكالات الأنباء قد أشارت إليه، مما كرّس شهرة اسمه في عالم الصحافة. ويستحق ذلك التحقيق التوقف عنده وقراءته بالتفصيل كما نشره صلاح بقلمه قبل سنوات طويلة..

(( بلدة - ف - الصغيرة والنائية لا يكاد أحد يعرف مكانها على الخارطة، فهي لا تشتهر بشيء يجعلها تلفت الأنتباه إليها، لكن ما أقدم عليه (ك.أ) جعلها في مصاف أكثر البلدات شهرةً. وحسب ما تناهى إلى سمعي، لحد الآن، لم يستطع أحد أن يحدّد دوافع (ك.أ) لارتكاب جريمته! التي استعصت على تصنيف المختصين بعلم الجريمة والانحرافات السلوكية. فهي سابقة تجعل منها فعلاً عصيّاً على التصنيف، لكونها نموذجاً نادراً للسلوك البشري. فالمجرم إنسان اعتيادي حتى ساعة قيامه بما قام به. عامل بسيط في دائرة إسالة الماء في تلك البلدة. وكان أحد العاملين المناوبين عشية تلك الحادثة الخارقة للمألوف! استيقظ أهل البلدة صباحاً كعادتهم واستخدموا الماء في قضاء حاجاتهم اليومية من اغتسال وطبخ وشرب الماء.. لم تمضِ سوى ساعات قليلة، وعند ضحى ذلك النهار بدأت أحداث ووقائع ذلك اليوم الاستثنائي في تاريخ البلدة تتخذ مساراً غرائبياً.
لقد ظهرت بوادر غريبة وعجيبة على سلوك أهل البلدة، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً. أخذت الخفة وفقدان التحكم والسيطرة على الأفعال والأقوال تهيمن على الجميع، وكأنهم فقدوا رشدهم. بدا الجميع في حالة من المرح والانشراح! وكلما مضى الوقت ازدادوا خفةً وعطشاً ورغبةً في شرب المزيد من الماء! حتى تطور الأمر إلى درجة من الانفلات السلوكي والتصرف التهتكي، وكأن البلدة قد باتت تحيي عيداً باخوسياً. لقد نسي الجميع ما كان يرتسم على وجوههم من جدٍّ ويسم سلوكهم من وقار. وأغرب ما يذكره من ظل محتفظاً ببعض الذكريات عن تلك الساعات، وبتندر شديد! هو تلك الخفة وانعدام الاتزان الذي ظهر به شيخ البلدة الجليل الوقور.. فقد راح يعاكس ويتغزل بكل امرأة وفتاة تصادفه ويتحرش بهن بشكل فاضح وماجن. والأكثر غرابة كان في أنْ لا واحدة منهن ردّته بنظرة أو زجرته بكلمة! بل بدَوْنَ هنّ أيضاً مستمتعات ومنغمسات في ذلك التهتك الماجن. وما لبث أن انخرط الجميع بكل قوة وفي كل مكان بالغناء والرقص دون أي خجل أو قيود أو ضوابط.. ومع قرب حلول عصر ذلك اليوم بلغ الهياج السلوكي قدراً كبيراً لا يمكن التحكم به. واستحوذت حالة السكر والثمل على الجميع دون استثناء.
الوحيدون الذين كانوا بمنأى عن ذلك الكرنفال هو (ك.أ) وعائلته..! (علمت منه كما اخبرني أنه قد قطع الماء الرئيسي عن بيتهم، بحجة وجود صيانة، واختزنوا الماء قبل يوم من الحادثة في أوعية خاصة لقضاء حاجاتهم اليومية.) كان (ك.أ) يراقب البلدة وما يقوم به أهلها من تهتك وفضائح بانتشاء وهو يغرق في نوبات من الضحك الهستيري. لو اقتصر الحال على تلك التصرفات والخروج الفاضح على المألوف، لبلدةٍ لطالما عُرف أهلها بالمحافظة والتمسك بالسلوك القويم والسوّي لهان الأمر. لكن الأمور تطورت إلى ما هو أدهى وأمرّ من ذلك، ووصلت إلى حد خرج عن السيطرة، فحتى أفراد الأمن في البلدة نالهم ما نال أهل البلدة من انفلات وانعدام القدرة على التحكم بأقوالهم والسيطرة على أفعالهم.. ولم ينتهِ الموضوع الغريب الذي دهم أهل البلدة، إلاّ بعد أن التحق أحد أفراد الأمن من خارج البلدة بعمله وشهد حال البلدة وأهلها في ذلك الهياج والخروج عن المعقول، فبادر إلى الاتصال بالجهات الأمنية خارج البلدة، وشرح لهم ما يجري من انفلات غير مألوف وغير مفهوم. وبالفعل تم ارسال فريق أمني متخصص بسرعة للسيطرة على الوضع. شخّص المسؤولون عن القضية الحالة على أنها أشبه بحالة سكر جماعي أصاب اهل البلدة. الصدفة وحدها ساعدت على حلّ اللغز، فقد ظهرت بوادر سكر واضحة على أحد افراد الفريق الذي تم ارساله، بعد تناوله لكأس ماء من صنبور الماء! وهنا طلب المسؤول مجموعة من المتخصصين بالطب والصحة والكيمياء لتحليل وفحص الماء، لأن جميع أفراد المستوصف الصحي في البلدة قد أصابتهم نفس الأعراض التي أصابت أهل البلدة. وفورا توصل المتخصصون أن مياه الشرب تحوي نسبة كبيرة من مادة كيمياوية مسكّرة!.. وجرى على الفور قطع الماء عن خزان البلدة الرئيس (من الجدير بالذكر أن نظام توزيع الماء على البيوت هي وفق النظام القديم من خلال خزانات كبيرة مرتفعة رئيسة في أحياء المدن والبلدات)، وتبين أنه قد تم العبث به وإضافة مادة كيمياوية مخدّرة مسكّرة ولكنها غير قاتلة!.. فقاموا بتصريف المياه وتفريغ الخزان، وتزويده بماء جديد حسب المواصفات القياسية.
لم يستغرق التحقيق وقتاً طويلاً لكي يتوصل الفريق الأمني وبعد التحقيق مع العاملين في دائرة إسالة الماء من تحديد أسماء العاملين خلال الساعات الأربع والعشرين السابقة على الحادثة. واُستدعي الجميع للتحقيق. لم يحتج المسؤول لفطنة كبيرة لكي يحدد المشتبه به بالعبث في مياه الخزان الرئيس. فقد كان (ك.أ) هو الوحيد من بين العاملين الذي ليس بحالة سكْر!.. ولم يطل به الأمر كثيراً حتى اعترف بمسؤوليته، ولكن لحد اليوم لم يستطع أحد من معرفة دوافعه الحقيقية للقيام بما قام به. (وحين استفسرت منه شخصياً عن الموضوع وعما دفعه لذلك، لم يقدّم لي أي جواب مقنع). ومال المحققون والأطباء النفسيون إلى تفسير فعلته على أنها نوع من الاضطراب العقلي العدواني الانتقامي ربما نتيجة تعرضه لضغوط نفسية شديدة. خاصة وكما لاحظت أنا شخصياً أن هذا الشخص كان ينخرط في نوبات نشوة وضحك هستيري بمناسبة ودون مناسبة.
لقد أصبحت المشكلة الأكبر في هذه القضية، هي تلك الجرائم التي اُرتكبت في ذلك اليوم! فقد سُجّلت ثلاث جرائم قتل، واكثر من عشر جرائم اغتصاب جنسي! وفق ما تم تسجيله من دعاوى رسمية، وقد يكون العدد الحقيقي أكبر من ذلك بكثير، فحساسية الموضوع جعلت الكثيرين يلوذون بالصمت والكتمان ويمتنعون عن تسجيل دعوى رسمية. وقع رجال القانون في معضلة حقيقية. فالجناة كلهم كانوا في حالة سكْر بيّن، وجريمة (ك.أ) حتى لو ثبتت صحة حالته العقلية والنفسية لا تعدو كونها جريمة محاولة تسميم جماعي. أما جرائم القتل والاغتصاب فلا يمكن قانونياً تجريمه عليها بكونه المخطط أو المحرض أو المشترك بارتكابها. لم تكن هناك أدلة كافية لتحديد المتهم بتحمل وزر تلك الجرائم؟! والجناة الفعليون لم يكونوا بكامل وعيهم وقواهم العقلية لكونهم تحت تأثير السكْر وغير مسؤولين كلياً عن أفعالهم ساعة إقدامهم عليها، بل هم من وجهة نظر أخرى يمكن النظر إليهم على أنهم ضحايا لعملية تخدير جماعية..! فمن يتحمّل وزر تلك الجرائم؟!.. وهكذا وجد القانون نفسه عاجزاً أمام تحديد المسؤولية الجنائية، في حالة نادرة ولكنها ممكنة، من حالات انفلات الرغبات المكبوتة والنوازع العدوانية المدمرة للنفس البشرية. سيتوقف التحليل الاجتماعي والنفسي طويلاً أمام هذه الحادثة الغريبة. هذه الحالة التي تحدث عادة أثناء أوقات الهياج الجماعي والاضطرابات الاجتماعية والحروب حين تكف، القوانين والأعراف الاعتيادية الموضوعة للتعامل مع المجرم الفردي، عن العمل لضبط السلوك البشري الجماعي المنفلت..!
ملاحظة: حاولت، كما حاول غيري، عند زيارتي للبلدة في وقت لاحق العثور على شخص يروي ما جرى بالتفصيل. لكنني لم أفلح أبداً على حمْل أحدهم أو احداهن على الإفضاء بشيء حول الموضوع. فقد أغلقت تلك البلدة ذاكرتها على تلك الحادثة إلى الأبد. وتوارت ذكرى تلك الحادثة خلف حجابٍ من الندم والخجل. وهذا أمرٌ يمكن تفهّمه ببساطة، من ملاحظة مشاعر وسلوك أي مخمورٍ حين يصحو من سكره. فإنه سيكون تحت وطأة شعورٍ طاغٍ بالخجل والندم.. ويتمنى بكل جوارحه النسيان، وألاّ يذكّره أحد بأحداث ليلة سكره وعربدته، وما قاله أو فعله وهو تحت تأثير الثمل الشديد! ))

لقد منح هذا التحقيق لصلاح مكانة مرموقة في عالم الصحافة، وترسخ اسمه وحصد احترام وتقدير العاملين فيها. والحق يُقال أنه لم يدّخر جهداً ولم يبخل بوقت يكرسه لعمله. وبالاضافة إلى ذلك مزج موهبته الفطرية بثقافته الأدبية الواسعة، حتى ارتقى ليكون من أفضل محرري الصفحات الثقافية. إلى أن انتهى به المطاف ليكون محرر الصفحة الثقافية لصحيفة (فجر الكلمة) الأشهر بين صحف البلد، حيث تعرف عليه سمير حينما بدأ بنشر مقالاته المثيرة حول فلسفة الفشل!
لم يُخفِ صلاح دهشته حال رؤيته سمير، ورحب به كثيراً مستفسراً عن أحواله وسبب انقطاعه الطويل. شرح له سمير كل شيء عن التحاقه بالجيش.. ابتسم صلاح وقال له:
- نعم، سمير كلنا نعرف ظروف البلد والحرب، هل تدري أنني ايضاً جندي في هذا الجيش! ووجودي هنا هو بصفة منتدب للعمل في الصحافة. فكما يقولون للقلم والبندقية فوهة واحدة! هل تعرف يا سمير كم أحبك فعلاً! رغم كل مشاكساتك الأدبية والفكرية، لن أفشي سراً لو قلت لك أن الكثيرين يتمنون لو كانوا يملكون جرأتك وحريتك في قول ما تريد وما تؤمن به دون خوف أو مساومة. ولكن تعرف كم هي قاسية متطلبات الحياة والمسؤوليات العائلية، مما يجعلهم ينحنون للعاصفة لئلا تقتلعهم من أماكنهم المريحة. ليس كل شخص مستعداً للتضحية براحته ورفاهيته.. وكما يقال للضرورة أحكام..

ابتسم سمير وأومئ برأسه موافقاً ومؤكداً كلامه، قبل أن يجيب بلهجة لا تخلو من سخرية ومرارة:
- نعم، فقط السذج والفاشلون من أمثالي يدفعون ثمن طيشهم واندفاعهم.. ولا تظن أنني ألوم أحداً، وخاصة حضرتك أستاذ صلاح، فلا يمكن أن أنسى أبداً كل ما فعلته من أجلي وزيارتي لك هذه لكي اشكرك على كل شيء..
- لا، يا سمير لا تقل أنك فاشل ابداً.. أنت إنسان نقي.. ولكن زماننا هذا ليس بزمن الفرسان.. على اية حال.. كيف تتدبر أمورك هناك.. أين كتاباتك يا رجل؟ هل امتنعت عنها.. خسارة كبيرة إن فعلت!
- أستاذ صلاح أن كتاباتي كما تعرف لا تحظى بالقبول لدى الكثيرين.. (وأضاف ضاحكاً) أكتب لنفسي فقط الآن..!
- آ.. تعرف جيداً الظروف التي تمر بالبلد حالياً.. وفي النهاية نحن لسنا إلا مجرد موظفين ومحكومين بسياسات الصحيفة وخطها الرسمي.. كلنا يكتب لنفسه بين الحين والحين! هل لديك جديد للنشر؟
- أعرف جيداً كل ما تعنيه.. أنا مررت بك فقط لإلقاء التحية وشكرك.. وعندي جديد ولكن حتماً لن يجد طريقه للنشر.. ألست ممنوعاً من النشر لديكم؟
- هذا يعتمد على مضمونه.. إن كان معك ما تريد نشره.. دعني أراه..
- أنا لا أفكر بموضوع النشر حالياً.. لكن لو احببت فدفتري الصغير الذي لا يفارقني قد يكون فيه ما لا يثير حفيظة أحد.. مجرد قصيدتين كتبتهما خلال إجازتي الحالية.. تفضل بقراءتهما وقدِّرْ إن كانتا تصلحان للنشر..
تناول صلاح دفتر سمير الصغير، كان جديداً، وفتح صفحته الأولى ورأى سطوراً مشطوبة وكلمات مصححة.. وقلب الورقة فكانت كذلك.. أما في الصفحة الثالثة والرابعة فقد قرأ هاتين القصيدتين بخط دقيق وصغير:

تمرين الغياب
ـــــــــــــــــــــــــ
حالمٌ يتأرجح بأرجوحة الوقت
والزمان رذاذ..
يتشبث بحبال الزرقة
والقمر بعيد..
في غرفته الباردة يُقلّب الجمر
ويحسب الشتاءات بحبات البلوط
وبين حبة وأخرى يُطل من نافذته الوهمية
ويراقب سيدة الربيع
تقطف حبات المشمش وتملأ سلتها الذهبية
كل ربيع يراقب سيدة الربيع..
ويُحصي سنوات حياته بالبلوط
واحدة.. إثنتان.. ثلاثة وستون!
الرماد يتكدّس والجمر يخبو
للمرة الأخيرة يُطل من النافذة
ويسدل الستارة البالية
سيدة الربيع لا تزال تقطف حبات المشمش
وتملأ سلتها الذهبية
يلتقط آخر حبة بلوط
يُقشّرها ويضرس لبها المر
ويوهم لسانه بطعم المشمش اللاذع اللذيذ!

أسرار
ـــــــــــــ
أصابع يده اليمنى تومئ إلى قمر بعيد..
وراحة كفه اليسرى يتوسدها خدي
في غفوة سفر يخطر لي أن أحلم
وعند مطبات الطريق يحدث أن افتح عيني
أفاجئه يعبث بحقيبتي!
فيجيب على ابتسامتي المستفسرة
أسرار المرأة في حقيبتها
وأجيبه قبل أن أغفو على راحة كفه اليسرى
وأسرار الرجل في راحته!

انفرجت أسارير وجه صلاح، وهو يقرأ بصوت مسموع، ثم اعاد القراءة ثانية.. وهو يلفظ الكلمات بتلذذ واضح..
- ياااااااااه يا سمير ما أجملك!.. أين كنت تخفي كل هذا الجمال والأسرار؟! قصيدتان ساحرتان.. هل قمرك الجميل بعيد إلى هذا الحد؟! خذ هذا الورق وانسخهما لي.. ستراهما منشورتين هذا الأسبوع..
- ألا يعترض أحد على نشرهما؟!
- ماذا تقول يا رجل؟ ومن يعترض على هذا الجمال؟ لقد اشبعونا هراءً.. دعنا ننشر بعض الجمال الحقيقي!.. أهنئك من كل قلبي.. متى ستأتيني ثانية؟ سأحاول أن أستحصل لك، هذه المرة، على مكافأة مجزية..
- ليس قبل شهر من الآن!.. يعني عند موعد إجازتي المقبلة..
تناول سمير دفتره ونسخ القصيدتين على الورق.. ثم ودع صلاح الذي نهض عن مقعده واحتضن سمير مودعاً، مع التأكيد على ضرورة المرور به كلما أمكنه ذلك...

خرج سمير من صحيفة (فجر الكلمة)، وما زال لديه وقت طويل حتى موعد لقائه مع دعاء.. مضى ليتناول الطعام في أحد المطاعم الشعبية.. ثم دلف إلى مقهى لشرب الشاي.. وأمضى فترة العصر بالدخول إلى إحدى دور السينما تعرض فلماً رومانسياً توقع أن يكون هادئاً بموسيقاه! حيث الحضور قليل واختار مقعداً منزوياً وحاول أن يحظى بغفوة! كان يصحو فقط في المشاهد التي يكون صوت الموسيقى فيها مرتفعاً.. وحين تكون الموسيقى التصويرية هادئة، يعود ليغمض عينيه ويغفو من جديد! عند نهاية الفلم وإنارة الصالة استيقظ مغادراً السينما.

كان موعد اللقاء مع دعاء قد حان، دخل إلى بيتها، وكالمعتاد كانت قد رتبت الوضع ليكونا لوحدهما طيلة الليل.. لم ينتظرا كثيراً لمحو الفراغ والمسافات التي تفصل بين جسديهما، وراحا يشعلان عشب الأشواق ويوقدان حطب الأهواء المؤجلة. كما اعتادا أن يفعلا في كل لقاء بعد أيام الفراق الطويلة بينهما. لطالما فتنته تلك الفكرة في محاورة المأدبة لأفلاطون.. فكرة الكلية التي انشطرت إلى نصفين كل نصف يبحث عن آخره، ليس كفكرة علمية أو عقلية.. ولكن كحقيقة شعرية.. كم كان افلاطون مخطئاً حين طرد الشعراء من المدينة؟ وكم كان ديستويفسكي محقاً حين قال أن الجمال سينقذ العالم؟
أنّى تكن الطريقة التي تكوّن وتشكّل بها الحب.. فلم يبتدع الوجود أمراً رائعاً مثله.. الحب الذي يجمع بشكل عجيب بين الوظيفة واللعب! و يقوم الخيال عندها بأجمل أدواره حين يمضي مكتشفاً متعة ولذة الحب، فيؤجّل وظيفة الخلايا في البقاء والتكاثر ويعطّلها إلى حين، لصالح اللعب بين جسدين.. تلك الرغبة الدفينة التي تأخذ كائنين إلى تخوم المجون المجنون في لعبة الفاتن والمفتون.. فالكائن منذ أن يبدأ طفلاً يتعرّف في ذاته على فتنة اللعب وضرورته.. تلك الرغبة التي تسكنه وتنمو معه فيستبدل اللعب مع الدمى والألعاب بلعبة الحب.. وفي اللحظة التي تبدأ تلك الرغبة بالاضمحلال والذبول أو يحول أي عائق دون تحققها يكون الكائن قد صار اقرب إلى الانطفاء والموت حتى قبل أن يموت فعلاً!..
في فترة استرخاء لمحت دعاء في سلوك سمير المتمادي في عناقها بلهفة وشدة مختلفة هذه المرة لم تدرك لها سبباً. وكان التعبير الحزين البادي على وجهه كافياً ليثير في نفسها الهواجس والتساؤلات. ولم يكن سمير بغافل عما في نظراتها من بريق الاستفسار، لذا وقبل أن تبادر بطرح الأسئلة الصريحة، أفشى لها عما يعانيه وما يخطط له في المستقبل القريب وعزمه على الهروب بعيداً والخلاص من الجحيم الذي لا يرى نهاية قريبة له. وأخبرها بكل التفاصيل، وأضاف قائلاً:
- دعاء.. إن هذا البلد قد أُصيب بلوثة عقلية لن يتعافى منها سريعاً، سيمضي بالهذيان لوقت طويل وطويل جداً.. ولم يعد بمقدوري تحمّل المزيد، كان لابد لي من التصرف والخلاص. ما بدا لي أنه كمزحةٍ أدبية عن فلسفة الفشل قد بات حقيقةً وجوهرَ هذا البلد ومصيره. لم أظن يوماً ان تنقلب مزحةً طائشة في ذهن شاب عابث إلى مأساةٍ مريرة ستلاحق بلداً ومصير أفراده لزمن طويل.. أعلم أنك بعيدة عن لعبة الكلمات والأفكار، ولا تستسيغينها فلنجعل من ليلتنا هذه حديث الجسد للجسد ولنمتص رحيق بعضنا بعضاً زاداً لأيام البعد المقبلة.. هيا تعالي يا كائني الشعري الجميل!..
كانت دعاء تستغرق في ضحك عذب، سابقاً، حين تسمع سمير يخاطبها بكائني الشعري الجميل!.. كان تعليمها متوسطاً فلم تكن تدرك لعبة الكلمات وخفايا اللغة ومجازاتها واستعاراتها.. كان تعبيرها البليغ يتم عن طريق جسدها وتعابير وجهها ونظرات عينيها وضحكاتها أو دموعها.. تلك كانت لغتها، واية لغة أشدّ فتنة من تلك اللغة الأولى، لغة الجسد الفاتن والمفتون، تلك اللغة التي كانت تفتن سمير وتسكره أيما سكر.. كم كان يسحره عطر جسدها الخاص؟.. عطر القمح الممتزج بعطر الليمون الذي تتعطّر به وسمرة جسدها الذي يتلوى في حضنه كحقول القمح التي تموّج الريحُ سنابَله.. وهو يدسّ بأنفه في كل منخفض أو تجويف وشفتاه تتنقلان في تضاريس جسدها.. ولم تكن هي بأقل منه شغفاً باستكشاف جسده حتى تلتقي شفاهما في أكثر من مصادفة مقصودة!... فيرتشفان من نهر الرضاب العذب. لكنها الآن بعد أن أخبرها بقراره المفاجئ شعرت بسَورةٍ من الحزن تدور بها ودوامة من الغم تكاد تصيبها بالاغماء.. هكذا ودون تمهيد وبكل بساطة يأتي ليبلغها بأنه سيقتلع البستان الذي كانه بالنسبة لها ويحيل حياتها إلى صحراء قاحلة بلا ظل وارف أو نبع ماء.. سالت الدموع من عينيها رغماً عنها وأجهشت بالبكاء وهي تقول له:
- كيف يا سمير؟ كيف تجرؤ؟ ألا تعرف ما أنت بالنسبة؟ كيف سيكون حالي حين تمضي؟ ألم تفكر بهذا؟
- كيف يخطر ببالك أنني لم أفكر ولا أفكر بك؟ ولكنها الحرب يا حبيبتي.. إنها الحرب! أترضين أن ينتهي بي الأمر إلى جثة ممزقة الأوصال في متاهة لا يعرف أحد أولها من آخرها؟
- يا لهذه الحرب اللعينة، قد دفنت لي زوجاً.. وها هي تنتزع مني حبيباً لا أدري إلى أين سينتهي به المآل.. ولا أعرف إن كنت سألتقيه ثانية أم لا؟
كان هذا اللقاء بينهما ليس ككل اللقاءات، فقد اختلطت فيه اللهفة بالدموع، والأشواق بالخوف من الخسران. كانا نهمين ولكن مذعورين كعصفورين توشك أن تعصف بهما عاصفة من العدم.. عند الصباح غادرها ووعدها باللقاء في إجازته القادمة... أما دعاء فقد كانت ساهمة وفي حالة ذهول وكأنما الحياة بدأت بالتسرب من عروقها..

كانت هذه الإجازة الوحيدة التي يتلهف سمير على انقضائها بسرعة، ليلتقي بزهير وليطّلع على آخر ما استجد من تفاصيل الخطة – المغامرة التي نويا على خوضها..
  • Like
التفاعلات: Maged Elgrah

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى