نبيل محمود - حُلُمٌ يمص حَلَمة الليل!.. (أقصوصة شعرية)

نبيل محمود.jpg

أيّها الحلُمُ، تجوّلْ وفتّشْ جيداً في الذاكرة، لعلك تجد (كلّي) المبعثر هناك.. الذي أسكنْتُه قطْعة قطْعة، في طبقاتها وغرفها وزواياها القَصية، حتى نسيتُ أغلب العناوين.. أحياناً يدلني وجهٌ أو صوتٌ أو عطرٌ على ما أريد، وأحياناً أفتح كل الأبواب وأقلّب كل الأدراج وأفـكّ كل الصُرر، فلا أحظى ببعض ما أريد.. أيّها الحلم يا منتهك حاجز النسيان، ومهيّج الذاكرة، ومُرْبك العلاقات، ومازج اللذّات... لا ريب في عداوة الصحو لك، فأنت الفاضحُ والمُعرّي، وهو الساترُ والمُحجِّب.. فمن منكما سيحظى بـ (كلّيتي)؟!

مضينا كحاطبي ليلٍ في دغَلٍ بِكْرٍ، مُبللين ومرتعشين في رطوبة ظلٍّ منزوٍ... وقطرات مطر تنثّ لذة مكتومة تحت الثياب، وتوقظ خلايا استسلمت للهجوع طويلا... البشـرة الندية تدعس البشرةَ النديةَ حتى احمرار الروح في رابعة الأُوار... تلتهب الأنفاس المشنوقة بحبال أشواق مجدولة من حرير الوجد... يتنافذُ الجسدان قبل فجر الترتيل الشهوي، ولفحة لثْم تسيّلهما وتسير بهما صوب عصور الكروم... يُمرّغهما الخمر في تموجات مائة كدُوّامات تيه، تحت ترجيعات نغمٍ متقطّعٍ ومتكتّمٍ ومتأوهٍ ومترجرج... تتفجّر فقاعات ضحكٍ مكتومةٍ في إناء نذريّ سومري، والرسم المنقوش على سطحه تسّاقطُ ألوانه وتتلاشى أشكاله... بعد اختلاط الأشكال والألوان والأنغام السحيقة لذاكرة النوع الإنْسيّ... تتطاول فوق سماء الدغَل قامة وعي جميل وعارٍ يعـصف بالجمود المرئي، ويعقـد صلة مع الرقصات اللامرئية للأشياء، ويقذف على المسرح بالباليرينات الرشيقة لتُمثّلن قصة الترنح الديونيسيوسي ..

عندما نزلنا من علياء الألف على سلّم اللام، وأشرفنا على سَوْرة العَيْن... لفّتنا دُوّامة إعياءٍ وإشراق، لمْ يكن الرجوع ممكناً ولا مرغوباً، لمْ يعُدْ وارداً جذب الروح مِن ياقتها وإعادتها إلى الما قبل... فما أنْ تطأَ القـدمان لزوجةَ العَيْـن وعربدتها، يذهب الجسـد في رقـصة الكينونة المجنونة... ويتأهب كله للحضور فــي لحظةٍ واحدة، في هذه الأبدية تتجمّع كليّة الوجود الفردي وتتكثّف، وكأنّها سـتقذف بكلها دفعةً واحدةً عبر حاجز الزمن المعروف... تلفّ كل زمانها الفردي في حزمةٍ واحدة، لم يبق لتلك التصنيفات القروسطية الى جسد وروح أيّ معنى، تهيأت الكليّة للإنقذاف كوجودٍ واحدٍ ووحيد... ينسفح الكل على فراش الشين الوثير المتموّج، وتختلطُ كل الابجديات الوثنية والمتعبّدة في كلمةٍ واحدةٍ لا تُنْطقُ أبداً، هي كلمة تكون ولا تُلفظ، هو الوجود مجعولاً مرةً واحدةً وفي لحظةٍ واحدةٍ كفعلٍ وليس بكلام... ما أنْ تشهق الكليّة شهقةَ الصحو الأولى، تجرّ نفسها بمشقّة من وهْدة فراش الشين... تُلقي برأسها المخمور والمشبّع بأبخرة عماء الخَلق الكثيفة، على وسادة القاف المرتفعة... يتمهّل الصحو قليلاً، حتى يلملم ما يمكن لملمته من موقعة الخَلق، ويعيـد ترتيب الأعضاء المتناثرة ويجمع لكل (شخص) ما يخصه، ثم يحثهما على الترجّل من منصة الخَلْـق... ويعودان الى طريق الاغترابات اليومية المعتادة التي ضاعت فيها لحظات الخَلْق، ولمْ يعْلقْ من كل تلك المعمعة الكونية غير لعْقة ذكرى خَلْقٍ في الذاكرة!..


* (هذه النصوص من ديوان رزايا الحكمة المتأخرة/2013)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى