كاهنة عباس - المعنى واللامعنى

شيدنا بيوتا وسافرنا الى بلدان بعيدة ونهلنا من المعرفة ما تيسر لنا وعرفنا الحب بحلوه ومره ، لكننا رغم طول التجربة لم ندرك معنى الحياة ، فقد تلاشت مدننا ، وتغيرت أحوال ما زرنا من البلدان ونسينا ما تعلمنا وهجرنا الاحبة.​
وتذكرنا في ما تذكرنا ما كتبه الشاعر اللبناني نسيب عريضة ذات يوم حين قال : ســـّيان. أن تُصغــــي للُنصـح أو تُغضـي يانفــسُ فالآتـــــــــــي مثلُ الـذي يمضـي.
وانكببنا نقرأ ما نقرأ عن عبثية الاحداث وعجلتها التي ما انفكت تدور وتطحن أثناء دورانها كل هدف أو غاية أو معنى ، كنا نتابع كل ذلك الصخب الذي لا غاية ترجى منه ،وقيل لنا في ما قيل لنا : أن مشاعرنا نحو من نحب قد تسعفنا بشيء من التعلق والانتظار فتقينا من لوعة القلق المقيت ومن الفقدان التام للمعنى، لكننا تبينا أنها متغيرة زائلة غير مستقرة، لا في المكان ولا في الزمان.
فقلنا : ليس للحياة معنى منفصلا عنها ، لأنها قيمة في حد ذاتها لا تحتاج إلى هدف يبررها ، جميع الأهداف لا تضاهي الصبح الطالع ولا الشجر الأخضر الصاعد ، فليكن الوجود اختزالا للحاضر ولنعد النظر في الزمان ولنكف عن الانتظار الذي لا جدوى منه.
وتواصلت حيرتنا واستمر بحثنا ، مع ما نشعر به أحيانا من سخط وأحيانا أخرى من رضاء، إلى أن سمعنا في ما سمعنا ذلك النغم الغريب عنا ، نغما لا ينبأ ولا يقول ، لا يصف ولا يعلم ، نغما يطير بعيدا بعيدا عن الكلمات، إلى السحب المنسجمة مع الرياح .
لا ندري ما الذي أصابنا ، إذا بأجسادنا تعيد وقعه وتتابع تقلباته نزولا ثم صعودا ، امتدادا وتقلصا،دون أن تكترث بموقعها من الجهات.
أجسادنا التي التقت في تلك اللحظة بما يفوق المعنى وما يتجاوزه ولا ينحبس داخله، لقد حدث اللقاء في تلك النقطة من الفضاء ، بين ما تختلج به ذواتنا وما يصدح به الوجود من لحن وأنغام ، فكان التقاطع بينهما فرحا وانتشاء ، تحت تأثير لغة هندسية رياضية ،لا أحد يعرف أسرارها .
كذلك خبرنا اللامعنى ، غبطة ورقصا ،اللامعنى الذي يتغنى بالحياة ليعلن انتصاره علنا ترافقه أجسادنا الراقصة.
وإذا " بسيسيف" Sisyphe ينهار دون أن يعيد دفع الصخرة إلى قمة الجبل ، ما إن لمحنا سقوطه حتى أعلنا رقصا وابتهاجا سطوة اللامعنى ، فتحركت أجسادنا خطوة خطوة ، لتثور على الاله اليوناني " زوس" Zeus احتجاجا على ما أصدره من حكم في حق " سيسيف" وقد حول مسألة اللامعنى إلى جحيم لا مفر منه، فقضى أن لا يموت سيسيف ولا أن يحيا ولا أن يحقق شيئا يدوم أبدا ، بل أن يستمر في دفع الصخرة إلى أعلى الجبل لكي تسقط إلى الأسفل من جديد،.
من الذي جعلنا نعلن عصياننا على سلطة المعنى ، أي معنى الكلمات والعبارات والإشارات والأحداث ومسارات والأفعال والأقوال كل ما اتصل بها أو تعلق؟
إنه زوربا Zorba الذي رقص ابتهاجا وسرورا للاحتفال بسقوط المعنى سقوطا نهائيا ، عسى أن تجتمع أجسادنا بالرياح عند هبوبها وبهدير البحار، وبكل ما لم ينجز وما ينهار بعد بلوغه القمة شبيها بصخرة سيسيف.
لقد أتاح لنا Zorba معرفة أن يحل العالم فينا ولو للحظة وأن يبرز لنا في أوجه جماله ساعة الرقص والبهجة فنتجاوز القطيعة العبثية وغياب المعنى.
وكنا إذا أتينا حركة راقصة انمحت إثرها أمراضنا أوهامنا وأسئلتنا فنشفى من كل ذلك الضجر الذي ما انفك يسكننا .
إن الوجود هجران للمعنى ، ألم يدر بخلد الأولين ، بأننا نحن من ابتدع المعنى كذبا وبهتانا وأننا نحن من جعلناه يتكاثر حتى لا نستفيق من أوهامنا أبدا؟
إن الوجود هجران للمعنى حتى وإن شغلنا بالسؤال الأزلي : لم خلقنا؟
ألم يدر بخلدكم أن السؤال الوجودي يضعنا في منطقة ما خارج أنفسنا بأننا خلقنا لسبب ما.....
الرقص ، ثم الرقص فقط هو الذي يجعلنا نحاور العالم بلغته لا بلغتنا ، فنلتقي بما يقوله لنا حركة ونغما.

كاهنة عباس

أحدث المراجعات

ع
كما قال زوربا متسائلاً هل يمكن التحدث بالرقص؟
وكما قال ايضاً لا اؤمن بأي شيئ أو بأي شخص اؤمن بزوربا فقط .ليس لأن زوربا هو افضل من الاخرين،إنه وحش كالأخرين !ولكنني اؤمن بزوربا لأنه الكائن الوحيد الذي تحت سلطتي الوحيد الذي اعرفه وكل ما تبقي مجرد احداث..نص رائع يعلقك في سماء المعني وجرم السؤال عن المعني
  • Like
التفاعلات: جعفر الديري

تعليقات

أسعدني مرورك الكريم ، وقراءتك لهذا النص ، أعتقد أن سؤال المعنى بات ملحا أكثر من أي وقت مضى بعد انهيار الايديولوجيات ، وما تمخض من عنف عقائدي مرده قراءات للنص المقدس ، وفشل تحقيق رقي مجتمعاتنا واندماجها في المسار التاريخي للانسانية .إنه السؤال الراهن علينا أن نتجرأ على طرحه بكل شجاعة دون تردد لايجاد الاجوبة الممكنة .
 
أعلى