خالد بوزيان موساوي - إيجار بدون مقابل.. قصة قصيرة

اعتذرت لي صاحبة "بانسيون" الحي الاوروبي القريب من قنطرة محطة قطار "الامير عبد القادر". تم حجز كل الغرف منذ الصيف المنصرم... "حياة" هي من نصحتني بالبحث عن غرفة لدى تلك المضيفة: هي سيدة من أصول اوروبية، و متنورة، و لا تعارض ان استضاف ساكن حبيبته او خطيبته، شريطة أن تكون العلاقة جادة، بعيدة عن كل شبهات الدعارة و السفاهة...
يومها، و في خضم البحث عن بيت او غرفة للايجار رفقة "حياة'، قاد احد السماسرة خطاي تجاه حي راق في ضاحية مدخل المدينة/ طريق فاس... حي الفيلات الراقية.
ضحكت ملء شدقي... سالت السمسار:
- هل تمزح؟!!! مداعبتك سخيفة!!! ... من تظنني؟.. انا مجرد طالب جامعي في بداية مشوار دراساتي العليا... لا املك حتى ثمن اصغر مفتاح لقبو في احدى هذه الفيلات... و لولا فتاتي (اشرت الى "حياة")، لشاركت غرفة متواضعة في حي شعبي مع زملاء من نفس طينتي...
لم يعر السمسار اي اهتمام لملاحظتي و عتابي... همست لي حبيبتي، و هي تشد على كتفي:
- لا تقاطعه... دعنا نتنزه في الحي، نستمتع بمشاهدة هذه القصور عن قرب... دعنا نحلم!!!...
دق السمسار احد الابواب... كان هو من فتح: "ح. م. الحجازي"؛ طالب في سلك الإجازة (الإجازة رقم 4 ، و ماستر، و دبلوم الدراسات العليا، و دكتوراه...). افقر و اقدم طالب في الكلية.
بعد التحية المعتادة، سالته:
- ماذا تفعل هنا؟ هل تشتغل مساعدا للسمسار؟... ام اصبحت خادم غرف او بوابا؟!!!
ابتسم بهدوء و رزانة، و دعاني و "حياة" للدخول...
- تفضلا... ارتاحا اولا، و ندردش بعدها على كاس شاي ..
همست لي حبيبتي ان اقبل.. و هي واقفة منبهرة من الشكل الهندسي المعماري لصالون الاستقبال، للاثاث الفاخر الجامع بين الأصالة و المعاصرة، و قطع الديكور و الاكسسوارات التي لا تقدر بثمن ... كنت اكثر من محرج... بالاحرى كنت منزعجا...
قال:
- مرحبا... (و هو يأمر السمسار إشارة بالمغادرة)..
سالته:
- هل هو انت "ح. م. الحجازي" افقر طالب في الكلية؟ ام مجرد تشابه؟
اجاب بنفس الابتسامة الهادئة :
- هههه هو انا... اليس من حق الفقراء العيش في قصر مثل هذا؟ ... صحيح انا لا املكه، لكنني اعيش فيه، و نظرا لطول اقامتي فيه، نسيت انه ليس ملكي هههه.. اشربا الشاي، و تناولا بعض الحلوى.. انها لذيذة و باهضة الثمن...
سالته:
- و ما شاني انا بكل هذا؟!!!
اجاب:
- انا طالب جامعي منذ سنوات... من شعبة الى اخرى و من تخصص لغيره... شهادات، و دبلومات، و تشريفات و تقديرات... كل ما حصلت عليه من طول كدي و جدي و مثابرتي لاعوام، قد لا يوفر لي وظيفة، و ان حصل، راتبها الشهري لن يمكنني من اقتناء اصغر غرفة في هذه الفيلا.... هنا.. بالاضافة الى هذا السكن الفاخر... يوفرون لي الطعام و الملبس، و مصروف الجيب، و خادمة، و... مبلغ شهري لمساعدة والدي المقهور في قريتنا النائية ..
سالته:
- يوفرون لك؟!!! من هؤلاء؟.. مقابل ماذا؟!!!
اجاب بسؤال دون ان يبدو مستغربا فضولي:
- هل من الضروري ان اجيبك؟!!! انت تبحث عن سكن لائق بك حيث ستزورك حبيبتك دون احراج الاعراف و التقاليد و نميمة الجيران... و محتاج لطعام و كتب و مصاريف لتبدا مشوارك الدراسي في الكلية.... منحة الوزارة تتاخر... و ان توصلت بها لا تسمن من جوع، و اعرف انك لست من أسرة ميسورة الحال و لا حتى متوسطة....
سالته:
- ماذا تقصد.... خلاصة القول؟!!!!
اجاب:
- هذه الفيلا في ملك اناس كبار... كبار جدا... فكرا و ثقافة و علما و مراكزا و مالا.... انا هنا مجرد حارس امين... هو مقر اجتماعاتهم الأسبوعية السرية... لا تخف، هم ليسوا متطرفين و لا ارهابيين و لا دعاة تفرقة او فوضى... هههه و لا ينتمون لحزب محظور ...
في هذا البيت يصنعون خريطة الانتخابات.. يفرقون "الوزيعة" بينهم، و يفرقون الادوار بين اغلبية و معارضة.... ههههه
سالته:
- و لماذا يحتاجونك انت؟!!! و امثالك؟!!!
اجاب:
- لان لا وقت لهم لقراءة مستجدات الاخبار، و ترسانة القوانين المعمول بها، و لا تكهنات الارصاد الجوية، و برصة القيم... لا يقرؤون و لا يكتبون و لا يتابعون الصحف و المواقع الاجتماعية و خطب الزعماء و الوزراء و الحكام. . و لا وقت لهم حتى لمضاجعة نسائهم .... انا افي بالغرض، و لست الوحيد... نحن كثر... هل تنضم الينا؟!!!
رحبت " حياة" بالفكرة.... اصرت على البقاء... تركتها معه.. و غادرت.



خالد بوزيان موساوي
مكناس، خريف سنة 1984.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى