محمد علوان جبر - تاريخ عربة (أدب ثورة تشرين)

في أغلب الاحداث الكبيرة التي مر بها الوطن ، ومنها تظاهرات ساحة التحرير 2011 كان للعربة الخشبية بعجلاتها الثلاث التي تدفع باليد دورها الهام والفاعل في نقل الجرحى والشهداء وهم يتساقطون قرب الجسر.. ذات الجسر الذي شهد انتفاضة شباب اكتوبر. أنذاك كتبت عن العربة نصا حاولت فيه أنسنتها واستنطاقها وهي تصف مشاهد التظاهرات . اليوم وفي انتفاضة الشعب التشرينية حلت بديلا عنها ـ التكتك ـ العربية التي تركت اثرها في ثورة تشرين ، ولكن وكجزء من الوفاء للعربة اضع النص امامكم عله ينصف (العربانة) طيبة الذكر .
لست سوى “عربة” أو كما يسميني العامة “عربانة”، صُنعت من أخشاب مختلفة، الزان أوالتوت أوالبلوط، أو خليطا من أخشاب مغسولة بالشمس والمطر. أما عن تاريخي فقد كنت فيما مضى شجرة صغيرة وهبتني الأرض الحياة، فتحولت إلى جزء من غابة انتميت لها وأصبحت وطني وبيتي. كنت أكبر كل يوم وكلما أكبر يشتد عودي في الغابة وأنا أمتص ضوء الشمس وأسمع موسيقى العصافير وتغريد البلابل على أغصاني، حتى اللحظة التي توغل منشار بدائي أخرس في جسدي وقطعني من جذوري، ثم عملت مناشير أخرى على جسدي وحولتني إلى ألواح صغيرة وكبيرة ورُكنت مع آلاف الأشجار المقطعة في مخازن وخانات معتمة ورطبة، وفيما بعد اخترقت جسدي المسامير الكبيرة المعززة بأساور من حديد مسطح شدت به أجزائي لبعضها البعض. ثم بدأت أسير على ثلاث عجلات من حديد ومطاط.. يومها كان لوني أبيض كقلوب الأشجار، لكن سرعان ما حولته الشمس والرطوبة واحتكاك الأشياء التي أحملها على سطحي المصقول إلى لون آخر يشبه سمرة رجال لوحتهم الشمس طويلا.
لست سوى عربة أو “عربانة”… أسير في الشوارع يدفعني من يملكني وأنجح دائما في نقل الحمولات، لم اتقهقر يوما أو أفشل.. ولم أرتجف يوما وأنا أقتحم الشوارع والأسواق والمخازن.. أتذكر أغلب المهرجانات البشرية وأرى بوضوح تدافع مرتاديها في أيام يسمونها “الفرهود”! كنت أمضي في الطريق، الذي أقاد إليه بيسر وسهولة، أنقل ما يُسرق من البيوت والمخازن والدوائر والبنوك. حمولات كثيرة يتنافس في وضعها على ظهري المسطح، الملوث ببقايا الأشياء المتروكة عليه، بشرهلعون خائفون غاضبون، يسلمني واحد للآخر.. لم يحدث اطلاقا أن أصبت بالقنوط، كنت أطلق الصرير المعروف لاحتكاك عجلاتي بالاسفلت أو بعض صوت مكتوم ينبعث من أجزاء جسدي الخشبية وهي تعصر نفسها وتتلوى إلى الحد الذي يجعلها تكاد تتكسر… لم أرتجف ولم أحزن إلا حينما بدأ البعض باستخدامي كواسطة لنقل الجثث البشرية، أو نقل الجرحى، حيث يختلط الدم بالصراخ، يسيح الدم البشري على الشجرة التي كنتها، دم يصاحبه الكثير من الصراخ والهلع. كنت أنتفض من قسوة الموت الذي أحمله على ظهري وأرتجف من هول ما أسمعه من لغة الخوف والقلق وأحيانا يغطيني الكثير من دخان الانفجارات القريبة مني حيث تخترق جسدي الخشبي شظايا حديدية ساخنة تترك آثارها عليه، وأصاب بالاختناق من الدخان الأسود المغبر الملوث بالدم، الاختناق يصيبني بما يشبه الاغماء وبالكاد أتمكن من السير رغم إصرار من يدفعني بقوة.. تحولت مهمتي بسرعة إلى منقذة.
أنا “العربة” أو “العربانة” كما يسميني العامة.. وسط الانفجارات ولعلعة الرصاص حاولت أن أعوض كل هذه الفوضى باستعادة صور قديمة من صفاء الريح في الغابة وزقزقة العصافير، أن أستعيد شكل ملامسة حفيف أجنحة الفراشات وتغريد البلابل وهي تقف على أغصاني، وسط بشر يهزجون ويغنون بكلمات أصبحت بفعل شيخوختي، التي بدأت واضحة على تفاصيل جسدي الخشبية، كلمات تشبه الصراخ وهم يشيرون إلى كتل اسمنتية ينطلق منها رصاص وقنابل وكثير من الدخان النتن.. لم أشهد طوال عمري الخشبي دخانا أكثر نتانة منه، بدأ سطحي الخشبي يحمل جرحى وقتلى… سال دم كثير على خشباتي التي لم تعد بيضاء.. خشباتي التي استحال لونها إلى أسود محمر بفعل الدم.
أنا “عربة”، أو “عربانة” كما يسميني العامة من الناس، بدأت بعد أن شممت رائحة الدم أتحول إلى شيء آخر لا حول له ولا قوة، شيء أصم تماما ومتعب تماما، أجر خطوات عجلاتي الثلاث وسط معركة دخان نتن يفزعني أكثر من أصوات الانفجارات في الأسواق.ِ


محمد علوان جبر


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى