علي السباعي - وساخات آدم

والعصر..
زمن عقاربه مدٌّ وجزر. طرقات. دقي يا ساعةً أخّرت في توقيتها. دقي. أعلني توقف آدم عن السير. طرقات. أيادٍ ملطخة بالأوساخ، تسأل: "هل عندكم نفايات؟".
آدم يسير شرقاً أو غرباً. خطواته حائرة، دفعته شمسٌ غيورة، لفه ليل ملغوم بالصمت، صمت مدن تنتظر المخاض، وأخرى حبلى باليأس، شمالاً أو جنوباً، حركاته مذعورة، جمدّتها مدنٌ أدمنت قضم الثلج بأسنانٍ جامعها الدم ملهوفاً، فابتلعته مدن عارية تستحم بدفء الشمَّس على شطآن عذراء.
بلا توقف. مدٌّ وجزر خطوات آدم. أكف وسخة بأصابع مبتورة، تمتد، تسأل: "ضريبة جمع القمامة؟!"
***
صبي متسول يقتلع أسنانه، تقطر دماً، يرميها بوجه الشَّمس، قائلاً :
"خذي سن الحمار، أعطني سن الغزال"
***
شمس الغروب جريحةً، تتعكز على غيمتين فضيتين كجريح يعود من الحرب، ضماداتها غيمات حمر، جامع قمامة ينادي: "قمامة للبيع. نفايات للبيع. سكراب للبيع".
انحنت الشَّمس مظهرةً عجيزتها الملطخة بالدم0 آهٍ يا زمن الدم.
شرع آدم يلطخ رؤوس تلال النفايات بدم، الشَّمس بدتْ كأحشاء المناجم المنزوعة من بطن الآرض. لافتة تقول: "من النفايات سنبني حضارتنا".
عجباً!
أكوام قمامة تفوح عفونة، متسولون، هياكل سيارات محطمة، كلاب تقضم بكسل، صفائح، سكاكين مكسورة، زبالون، فكوك حيوانية بأسنان دئبية، وآدم يلهو بعصا ينكأ جرح الشّمس، هدر دمها مجتاحاً لافتة تقول: "مرحباً بكم في مجمع النفايات".
تحجل الشّمس متعبةً نحو الغروب، أحمر داكن دم الشفق، انحنى آدم ملتقطاً حمالات صدر نسائية، قال: "يا الهي! حتى مشدات الهنود تهجر موطنها".
أمسكته أيادٍ قاسية، التفت، جامعو نفايات يلوّحون بأيديهم، يفتحون أفواههم ويهزون رؤوسهم قائلين:
- دعها، فأنت لست من سلالتنا.
قال:
- لكنها نفايات.
ماءت الأفواه:
- إنسان استهلاكي.
عوت الأفواه:
- إنسان العلب الكرتونية.
نظر إلى وجه المساء بعين واحدة. قمرٌ. قطرة زئبق انزلقت فوق شعر الليل. خرج أنصار الحفاظ على النفايات يطرقون براميل الأوساخ "كأبي طبيلة"*، يصيحون: "عجلوا، عجلوا سنسبق الحضارة".
مأخوذاً بمشاهداته، كمن نفسه وسط بركة تماسيح جائعة لا تهادن، تمتم: "جامعو قاذورات يبنون حضارة؟!".
عاصفة غضب ولدت من صدور أضلاعها الشمعية بداخلها حيوانات هلامية تنفث حقداً ودناءةً. مرغته العاصفة بوحل أسود، زعق:
-مجانين! دائماً ضحاياكم فقراء.
اختبأ القمر خلف شجرة سدر يابسة، ضخمة، عارية. جاءه صوت سريع كحاصدة زراعية ميكانيكية:
- مَنْ يسرق نفاياتنا يموت حرقاً!
***
الصبي المتسول مستمر بقلع أضراسه، بدمها، تنتظر ظهور شمس كريمة.
***
قمامة ومتسولون.
ليل المدينة ثقيل كالقار، ساعاته تتكتك بفوضى وألم، جرذان رمادية كبيرة، تقرض مثل ساعات الزمن برتابة مقززة، تدق، تقرض، تتكتك، تقرض، زمن لا يتوقف. كآدم السائر أبداً! زحف صوته متخبطاً في قاذورات، المدينة:
- أشقياء، نصيبكم الموت.
نهض، بدا كنصب شهيد، لكن بدماءٍ حقيقيةٍ. دار حول نفسه كالأرض، ضحكاتهم مواء قطط بردانة، تساءَل مقهوراً:
- عَلامَ تضحكون؟
كضجيج شارع مزدحم بمنبهات السيارات، حاداً مزعجاً جاءه صوت مناصرو الأوساخ، ملأ الفراغ، سكن الصمت بعواء غابي، بلا ملامح، كدقات ساعة قديمة لا تتوقف تكتكاتها نبضات الزمن النائم. قال أحدهم:
- كل مَنْ يسرق نفاياتنا يُحرق.
قال آخر:
-كل مَنْ يطأها بقدمه خائن.
صوت بعيد:
- كلّ مَنْ لا يدفع ضريبة جمعها يرجم بها حتى الموت.
صوت ثانٍ:
- كلّ مَنْ...
صوت ثالث:
- كل...
ركلة حاقدة، بصق أسنانه كتظاهرة احتجاجية تظاهر فيها دمه ولعابه، احتج معهم صبي وزئبق فضي، أطل فوق التظاهرة. بكى. دموع ضمائرها ذكريات، حشرج صوته: "آه... آه... آ... ء.. ء..
صفعة ويد أطفأت عينيه، مجموعة ألوان، صارت رماداً، لون واحد، لم يعد هنالك أسود ولا حتى أبيض، صرصار رمادي يجري هارباً داخل قنينة البيبسي كولا.
***
مسرح الآهات يشهد رقصة "زمن البراءة".
رُفعَ الستار، تظاهرات، لافتات، مخلوقات لا مرئية ترقص خلف تلال النفايات، لافتة بمصابيح نيونية تقول "ندوس الزهور بأحذية قديمة".
***
برتقالةٌ كبيرةٌ كُتبَ عليها "حافظ على نظافة مدينتك".
في داخلها: نساء يهجرن أطفال الزنا، رشاوي، ضمائر ميتة، ممارسات جنسية، كلاب تقضي حاجتها، وخلف كومة من سكراب آليات الحرب. صبي. يقتلع أضراسه بـطلقة صدئة.
***
مدٌّ وجزر.
أقدام آدم تطوي دلتا الشرق وصحراء الغرب. مدٌّ وجزر. الزمن لنْ يتوقف، عقاربه دائرة من جبال، الجليد، إلى خط الأستواء. لكن الزمن لايؤوب، واليوم أقدامه في القمامة. "هـه00 يازمن الهزائم".
مجانين نفايات. زعق، خبطة عنيفة، عيناه محمولتان داخل نعش من دموع رمادية، وقع نبضات بنزين يضخها قلب صفيحة عسكرية، استحمت عيناه برؤى راقصات الباليه يتسلقن عتبات الظلمة، رشيقات ملائكيات، يرسمن أحلاماً وآلاماً، كبرياء وحزناً، هزائم وضمائر معذبة. أشعلن القمر بنيران لهيبها دم أحمر/ خسف القمر/ صار كبداً، ذعر المحتشدون، أشاروا بأيادٍ ميتورةٍ:
- يا الله، القمر مصبوغ بالدم!
أغمض العالم عينيه كمؤمن يواصل تسابيحه، أذناه تنصتان:
- حان الوقت.
تسمعان:
- توبوا.
اختلطت الأصوات:
- ماذا صنعنا؟
- هزمنا.
- أين حروبنا؟
- توبوا.
- ما خطيئتنا؟
- الولادة.
ندّت عن آدم زئرة حبيسة:
- حفاة. أعلنوا هزيمتكم.
حشرجات عديدة:
- أأأ... ح ح ح... ر ر ر... ق ق ق... و و و... هـ هـ هـ.
صوتٌ لجوج يأمر:
- أحرقوه.
انطلق لسان النار يلعق جسد آدم مثل قطة تلعق جسدها بلسانها... آه... يا آدم آه، يا آدم.
"إنّ الإنسان لَفي خُسرٍ".
نارٌ وموت.
موت ونار. اجتاح الحشد فرح مجنون.، اضطرب، ماد، تدحرج آدم وفرّ هارباً، امتدت النيران تأكل أكوام القمامة. الأرض وحدها تصلي صلاة الخسوف. المتسولون يتضرعون: "ياحوتة هديه.. هديه.. هذا أعور شلج بيه"**.
***
شجرة السدر تحترق. تحتها أتم الصبي قلع آخر أضراسه واحترق.


قاص من العراق


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أبو طبيلة هو الشخص الذي يوقظ المسلمين في ليالي شهر رمضان لتناول وجبة السحور، ويسمى في بعض الدول العربية بـ"المسحراتي".
** ثمة اعتقاد شعبي في العراق مفاده أن خسوف القمر يعني أن حوتاً ابتلعه، فيدق الناس على الأواني المعدنية كي يرغموا الحوت على تركه مع ترديد المقولة السابقة.



علي السباعي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى