أدب السجون المتوكل طه - قصص من وراء القضبان..

- حلم أسير..

مَنْ هؤلاء الذين يصّاعدون بعباءاتهم البيضاء، ويخترقون سقف الزنزانة، كأنهم ضوء أو هيولا؟

ومَنْ الذين يلفّون سماء الزنزانة بغلالات شفيفة كأنها الغيم الخفيف، ويرحلون مع الهواء؟

ومَنْ ذاك الذي يقف في الفراغ، ويمدّ ذراعيه، فتتدلى أكمامه الواسعة، لتلامس الأرض، كأنه ينتظر مَنْ يعانقه؟

ومَنْ تلك التي تلبس على رأسها تاج النور، فتضيء الزنزانةَ بهالتها الحليبية، وتفرّ منها الفراشات المضيئة كأزرار الثلج، وتسّاقط منها أزهار الياسمين؟

ومَنْ هذه التي تتهادى على فرس الغيم في طريق الغابة المطيرة، ويغطيها النوّار الأحمر؟

ومَنْ هذا الذي يمسك ذراع العروس، ويخطو معها على ماء النغم الهدهاد الرتيب، فتثور النوافير الملوّنة حولهما؟

ولمَنْ هذه الزفّة الصاخبة التي تضوّع الشرفات بزغاريدها وصهيلها ورقصات مزاميرها؟
.........
أيقظوه، إنه يحلم، كعادته!

****

- الجدران

استيقظوا كعادتهم، وبلغت الشمس رمحين في السماء، ولم يخرج عمّال المطبخ لإعداد الفطور، ولم يأت السجّانون للعدد، بل أين هم؟ لا أحد في ممرات السجن، وثمة صمت ثقيل في الأنحاء!

كاد النهار ينتصف، والصمت يزحف من كل اتجاه، حتى أن صوت المركبات البعيد قد اختفى، واختفت الطيور، وصار لون الشمس ليموناً رمادياً كئيباً

حاول المعتقلون أن يهزّوا أبواب الحديد، لكنها مكهربة، فصعدوا على أكتاف بعضهم إلى الشبابيك، فكانت مكهربة هي الأخرى. وأطلّوا بعيداً، فلم يلحظوا حركة، أو يسمعوا هسفة أو صدى!

ها هم في اليوم الثالث، ويبدو أن التموين في الكنتين سينفد، وحنفية المغسلة تنبئ بخيط رفيع، يبشّر بانقطاع الماء من الصنبور!

في اليوم الخامس، بدأ الفزع يأخذ المعتقلين إلى حواف الانهيار واليأس، وسيطر الهلع على الوجوه!

اجتمع ممثلو الفصائل واللجنة الوطنية وقيادة الظلّ، لكن العجز كان يفتك بكل اقتراح.
وذبلت الأجساد، وشارف كثير منهم على الهلاك، واستسلم القوم، أو كادوا.

قال أصغرهم: اضربوا بقبضاتكم ورؤوسكم الجدران، وظلّوا اضربوا واضربوا واضربوا..
سخروا من قوله، وكانوا منهكين! ولكن، ليس أمامهم سوى أن يفعلوا ما يخلّصهم من هذا الموت المحتوم.

دبّت الحياة في أوصالهم، وراحوا يضربون الجدران، فتشققت وتكسّرت رؤوس كثيرة، لكن الجدران شارفت على الانهيار.

***

- المُغنّي

كأنه يهبط بالغيوم، فتتناسخ قطعاً بيضاء في سماوات الزنازين، ويأتي بالغابات فتغطي الجدران الضيقة، وتتّسع، ويبثّ الفَراش المائي على باب الصدأ!

يأخذنا على بساط الريح المسحور، فنلامس بأيدينا الموج وأطراف الشجر العالي، وينزل بنا، فنكون مُحاطين بأسراب القناديل والأرجوان.

نرتوي على عطش، ونمتلئ حتى تتشظّى الزنزانة، وتتناثر حجارتها، فنجد أنفسنا فوق نجمة عاشقة.

يجرّ عرباته الذهبية فوق صدورنا، فيترك شريطاً من العشب الطري.

ويمدّ النداء، فينهمر المطر الناعم على وجوهنا.

ويجرحنا بحرف العسل، فتنبض العصافير في الضلوع.

ينُهي أغنيته، فنكون قد أكملنا الرحلة. وتظهر نتوءات الجدار الداكن الفظّ.

نتمنّى أن يعيدنا حيث كُنّا، لكنه يأخذنا إلى سيول أُخرى، لنغرق بفرح غامرٍ في غبش الشجن وشهد الأحزان.

كانت أغنيته عن تلك المرأة التي دهموا بيتها، وأمر الجنود جميع مَنْ في الدار بخلع ملابسهم حتى صاروا عراةً كما ولدتهم السماء أمام أبنائهم.

هي أغنية عن تلك الصبية التي أدخلوها إلى غرفة صغيرة في زنزانة المعتقل المليئة بالكاميرات، والجندي يأمرها بأن تخلع كل ملابسها!

هي أُغنية عن تلك التي عبثت المُجنّدات في محرابها المقدس، ومرّرن الجمر والعصي والبصاق عليها حتى كاد الجنين يفلت يديه ويخرج بدمه المنهمر.

هي أغنية هادرة، أصابتنا بالقشعريرة، فَدَهَمْنا الأسلاك الشائكة بأقدامنا، وخلعناها بأيدينا المجرّدة، وهدمنا الجدران الغليظة.. ورحنا إلى أجراس الصباح.

هي أغنية، كنّا نرددها فتتفلّع جدران الزنازين وتنهار، وتتقشّر حولنا القضبان، فنصير في برِّ مفتوح .. فتأتي الشمس بجدائلها وتغمرنا بتبرها الذي لا يُحدّ.

هي أغنية: من سجن عكا طلعت جنازه .. التي اجترحها نوح إبراهيم، الذي جاءنا بقمبازه وبندقيته وسلحلك الرصاص على صدره وكوفيته السمراء المعصوبة على رأسه، كأنه يطلّ من العتمة، وتنجلي ملامحه كلما اقترب.. فنراه بكامل قامته، في حمأة الإيقاع العالي للعاشقين الخالدين..كأرضهم ووجعهم وأغانيهم المستحيلة.

هي أغنية الحياة على أرض الحياة.

هي أغنية لا نهاية لها حتى يتذكر أهل الأرض تلك الأبواب المنسيّة.

***

- ساحر

أهلاً بالساحر!
فُكّوا قيوده،
اجلس

وظلَّ مدير السجن خلف مكتبه، يتأمل باستخفافٍ وجهََ السجين الجالس على مقعدٍ آخرَ الغرفة، وجنديان يصوّبان على رأسه.

ها.. هل تستطيع أن تجترح لنا معجزةً؟ والسجين لا يرّد!
هيّا، أخرِجْ لنا حمامة من جيبك ها ها ..
والسجين ساهمٌ لا يتحرك !

إذاً، تضحك على السجّانين، وتخيفهم بألعابك المكشوفة؟ إنني أحذّرك، وسأبعثك إلى الزنزانة الانفرادية حتى تبكي دماً، مفْهوم؟ خذوه!
وَخزَه جنديٌّ بماسورة بندقيته، وأشار إليه أنْ يسيرَ أمامه ويداه على رأسه

خرج السجين واضعاً كفّيه على شَعره، واتّجه نحو الباب، دالفاً إلى الساحة، وما إن وصلها، حتى رفع يديه، وأتى بحركات سريعة، فطارت حمامتان، فارتبك الجنود. ثم استدار، ومدّ يده في جيبه، فأخرج وردةً حمراء، وتقدم إلى جندي، وقدّمها له، فتناولها خائفاً، وما إن مسكها الجندي، حتى تخيّلها أفعى، فتركها، وولّى هارباً، ووقعت جَلَبة، خرج معها مدير السجن من غرفته، فرأى الجنود مذعورين متحفّزين، يتراجعون إلى الخلف، فيما يضع السجين يديه على رأسه، ويمضي نحو الزنزانة!

***

- زيارة

رمَوْه على أرض الزنزانة، كان الدم ينزّ من أنفه وفمه، وقد أُغمي عليه من شدّة الضرب على رأسه وكل أنحاء جسده؟ حتى لم يستطع أن يتكئ على ساعده لينهض، ويتخلّص من رائحة البطانيات العفنة ولزوجةِ البول التي تشرّبَتْها، في عتمةٍ ثقيلةٍ لم يتبيّن فيها مواضع الجروح والكدمات والكسور.

كان حلقه جافاً، لم يستطع أن يبصق الدم المتجمّد في خشب فمه، وأنفه مرضوض، يكاد الهواء لا ينسرب إليه بفعل الدم المتجلّط فيه.

تخثّر الدم، وانتفخ وجهه، وازْرَقّ ظهره، وتحطمت أضلاعه، ولم يقوَ على تحريك ذراعيه.
كأنه بين النوم والصحو، والألم يستبدّ بالرأس الثقيل الدائخ الزائغ.

وفجأة، تراءت له القامات، ولم يتبيّن الوجوه ! كان النبيّ والوليّ والشهيد والذبيح بملابسهم الطويلة المُسدلة يقفون عند رأسه، وما إن أيقنوا أنه شقّ رمشيْه ليراهم، حتى اختفوا!
التبس عليه الأمر، هل يتخيّل؟ أم أنَّ ملمس أذيال ثيابهم التي غطت وجهه كان حُلماً؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى