سامي عبد العال - لِمَنْ تُقْرَع أجْرَاسُ الفلسفةِ؟!

في يومِها العالمي مع كلِّ عامٍ، ربما يبزغُ السؤالُ التالي: هل تحتفل الفلسفة بنفسها؟! ومن ذا الذي بإمكانه حضور الاحتفال؟ وكيف سيتم الاحتفال؟!... الفلسفة بخلاف أي نشاط عقلي لا تحتفل بذاتها( أو هكذا يتم). لا تحتفل كعجُوزٍ بلهاء( أمُ العلوم قديماً ) تُطلق صيحات الظفر(الزغاريد) بعريس شاب( العلم-التكنولوجيا) تطَّلُعاً لأحفادٍ جُددٍ. ولاسيما مع الابداع الفلسفي(الراهن) كحالةٍ كونيةٍ تستحث إنسانية الإنسان وتفكك حتميات الفكر والمعرفة. الفلسفة كذلك تهدم نفسها بنفسها، غير أنَّها تتجدد وفقاً لألياتٍ ومعايير التفلسف الحُر.​

الفلسفة قدرةٌ خاصةٌ على كشف مناطق العتَّمة في حياتنا، ترمِّم الوجود الإنساني بوصفها دعوةً عقليةً مفتوحةً لما يُشبع فضولنا الأوسع. حين يتفلسف المرءُ، فهو يُفسح مجال نشاطه مُلبيَّاً نداء ما هو إنساني داخله. ولا يعود دون تجديد أُطره النسقية التي ترى الأطراف من أعلاها إلى أدناها. عليه أنْ يستحق مرتبة الإنسان كماهيةٍ لوجوده الحق، وألَّاَ يكون مجرد كائن فارغ المعنى والمصير. إنَّ امتلاء إرادتنا الحرة وعقلنا الخلاَّق- بافتراض ذلك- شرطان لا غنى عنهما لاستقبال الزمن.

المجتمعات (التي تعترف بمساحةٍ للفلاسفة) هي مجتمعات تتمرن يومياً على المصير، (أليست الفلسفةُ - أفلاطونياً - تمارين قاسية على الموت، الذي هو الحياة وجهاً لوجه؟!). إذن الفلسفة ترمق أخطار الوجود البشري كآثار تهجس بمشكلاته، لأنَّ تفكيراً فلسفياً ما هو مستوى الضرورة في أعماقنا. إنَّ الحياة الغُفْل نومٌ عميق وكوابيس بحجم التاريخ الزاحف كثعبان الأناكوندا المفترس( Eunectes ) أو أفعى الكبرى القاتلة( Naja ).

وقد لا يخطئُنا الصوابُ إذ نقول إنَّ الفيلسوف مُروِّض ثعابين بالدرجة الأولى(ثعابين المفاهيم والعقائد المتطرفة والأخيلة والانماط العنيفة والأفعال الكبرى). إنَّه يخرجها من أدغال الثقافة والسياسة والأحداث مترقباً شراستها وتحولها وكيف تعيش. ويعرفنا أيضاً- وسط هذه الظروف- كيف تلدغ وخطورة السموم التي تحملها. هناك سموم تدمر الأعصاب، وهناك سموم تحدث شللاً، وأخرى تسمم الدم، وغيرها تسبب عماءً لا مهرب منه، وهناك سموم تقتل على الفور.

ما أكثر ثعابين التخلَّف والفوضى والعنف والإرهاب والاستعباد والقهر والديكتاتورية التي تلدغ مجتمعاتنا في لحمها الحي. أشياءٌ تضرب بأذيالها أنسجة الحياة وتتمدد حيث لا نلتفت إلى جذورها وأبنيتها الغريبة. الفلسفة تدربنا حثيثاً: كيف نفكر بهذا الكل الذي يتكون، وبأية صورة نلتقط تعقيده وانفكاكه. التفكير هنا كالإحساس الغريزي( للأحياء) بحركة الحياة والموت في دورانهما الأقصى. أي العيش وفق الكل كما كان اللوغوس logos لدى هيراقليطس يطلق العنان لحياة الحكمة ومعرفة الفيزيس( الطاقة النامية physis) في جميع الكائنات.

إنَّ هناك قانوناً يربط الكائنات المختلفة ويربطنا بأخطار نصنعها بأنفسنا في المجتمعات المعاصرة. مثل زيف الوعي وانتشار الجهل واحتقار العقل وبلادة الدول وركود التعليم وتضخم الأوهام وأسواق التفاهة وشراهة الاستهلاك وافقار العقول وعري المشاعر. هي إفرازات وفضلات لا نستطيع تجنبها وكذلك لا نعيش دونها، تلك الأرجوحة المتناقضة التي تغطي جوانب العصر. فالثقافة ليست تراكما محايداً خارج إمكانية العودة من أبواب خلفيةٍ، لكنها كيانٌ حي نصنعه ليتحول كالثعبان الذي يلتهمنا مرة أخرى. الفيلسوف هو من يحمل مزماره صافراً ولاعباً على علاماته وتوجهاته أمام الجماهير.

ها أنا اتخيل هؤلاء الحُواة( لنلاحظ فيها دلالة الحياة والاحتواء) الذين سيقفون في ساحات عامة ويتحلق حولهم الناس مشدوهين ومضطربين، بينما هم منهمكون في اخراج الأفاعي انسياباً من الجراب والرقص معها، وكأنَّهم يؤدون طقوس عالية الدقة والمخاطرة. كل فيلسوف مبدع له القوة والاحتمال ذاتهما أمام الجماهير لإخراج بواطن التصورات والأفكار من مخبأها الغامض. كان الفلاسفة في أصالتهم اليونانية مشائين عظام، ولائهم للأقدام والأقدار والخطوات رغم كونهم يخاطبون العقول. ولا يختلط لديهم الحذاء بغطاء الرأس، حيث لا يليق بأي انسان أن يكون الغطاء جهلاً بالمفاهيم أو وعياً آسنا خارج عصره(كحال السلفيات الدينية والسياسية الراهنة).

لعلَّ لغتنا الحية التي نتوارى خلفها هي جراب الوجود الإنساني( كل شيء في جوف الفرا). فليس أعقد تركيباً وأكثر خصوبة لموطئ الوجود والتاريخ من اللغة. وليس يفعل بها ويصنع منها شيئاً ذا قيمة قدر ما يطلق فيلسوفٌ صيحات العقل كرَّحالٍّ( مشَّاءٍ) في دهاليز وشوارع المدن باحثاً عن المجهولات. تلك التي لا ندركها ولكنها تؤسس لعالمنا وتواصلنا وتقنياتنا وعلاقاتنا. وهي بعض المهمة التي يؤديها حالياً الفكر الإنساني على صفحات (الفيسبوك وتوتير وانستجرام وغيرها).

فهذه (الأدوات- الوجوه) هي كتاب الوجود الراهن( لوغوس الواقع الافتراضي). يمكن لكل انسان أنْ ينعكس فيها، بيد أنها تُؤسس لحرية الفهم والاختلاف. إنَّ وسائط التواصل الاجتماعي هي شوارعنا التي فتحناها في أقاليم الكون الخيالية، هي بمثابة الوجوه البديلة التي نقابل بها الآخرين صباحَ مساء. ورغم كمية التلون والتنكر المنطوية عليها إلاَّ أنها وسائط تجدد وظائف الفلسفة. وربما سيأتي اليوم الذي تشهد فيه وسائل التواصل الاجتماعي ( فلاسفة جوالِّين افتراضيين) يطلقون أفكاراً تحرر الإنسان من عوامل قصوره.

إنَّ السكوت عن المجهول حولنا هو صمت مريع حول: ماذا سيحدث غداَ؟! رغم أننا فلسفياً ربما ندرك أنَّ كل إمكانية تأتي من هنالك وأنَّ لها علامات يجب سبر غورها وتحيُّن قدومها بأي وقت!! فاستنطاق الصمت الذي يملأ ما يُوجد هو المهمة التي تنتظر المتكلم وفق قواعده. لأن أي صمت لا يحتاج ضجيجاً وإلاَّ لهرب إلى شقوق الواقع وأحداثه. الصمت له أبلغ الكلام شريطة حُسن التعامل معه وإطلاق معاني مبتكرةٍ لاصطياده.

الفلسفة تضيء كالنور دون أنْ تزاحم الآخرين على الظهور. المزاحمة هي اشتراك بين أطراف في شيء معروف وقابل للتكرار وممكن تعميمه. بينما ترفض الفلسفة على وجه الإجمال الاثنين( المزاحمة والتكرار)، فهي ضد أي ابتزاز فكري وكرنفالي باسم العقل. لو أنَّ فكراً زاحمَ فكراً آخر، فلا يجرى الأمر سوى بالاقتتال المنطقي، وسينقل الوضع إلى صراع وجودٍ. وسيكون الفكران نوعاً من العنف بينما واقع الحال يقول إنَّهما وجهان ثريان لاختلاف العقول. الفلسفة – من ثم- استثناءٌ غير قابل للمزاحمة من جهة الأصالة العقلية تبصُراً وكشفاً. هي تتجنب الشيء المعروف: لكونه ليس حقيقياً على الدوام وقد يصبح عبئاً أمام الانسان. وكذلك تنتقد القابل للتكرار، لأنَّه يواري سوءة الفكر باعتباره مركبة نقل عام!!

الفلسفة في كلِّ زمنها احتفاءٌ حُر من غير أن تفعل، احتفال دون طقوس شكلية، فالعتمة حين تُضاء (بطريقة مصباح ديوجين اللائرثي) إنما تعدُّ ضرباً من الإبهار الاستثنائي. حالياً الواقع الافتراضي virtual reality هو مصباح ديوجين، ففي أي وقتٍ يُضيئ العالم كلَّه، وفي أي مكان يتحرك مثيراً الدهشة والخيال والهواجس والأخطار. وفي هذا ستكون الفلسفة فعلَّ ابهار واحتماله الافتراضي الفذ. النشاط الفكري الحي يجعل وجودنا أكثر ثراء وزخماً. وكأننا نتعدد لحد التباين في حياتنا الفردية. الفلسفة بذلك ستضع مسيرتها ومسيرتنا العقلية تحت أنوار مختلفة كما لو كنا نراهما لتوِنا فقط.

إنَّ اجراس الفلسفة ستُقْرع على هيئة نواقيس هذه المرة، لأنَّها ستواجه في مجتمعاتنا العربية صدوداً غير مبرر. نقول للآخر المتكلم أو الفاعل: " بْطّل أيا هذا فلسفةً ". وترجمة العبارة هي (الفلسفة باطل)، أي كُّف عن التفكير ولا تناقش ولا تحاور ولا تطرح ما تريد. وإن انتقدت فعليك اللعنات الحاضرة والغائبة إلى قيام الساعة. والخلط واضح بين الدين والفكر، حتى أنك لا تستطيع التساؤل:(يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم). فلقد تمَّ تحريم وتجريم الأسئلة السياسية والفكرية والاجتماعية رغم أنَّ القرآن لا يقصد النهي عنها تحديداً!!

فالسياق تبدل ثقافياً حتى شمل هذه المجالات بفعل الأنظمة المستبدة والداهسة لوعي الإنسان. وبالتالي ليكُّن وضعك أيها الإنسان كما أنت: سامعاً مطيعاً خانعاً بلا رفض ولا تذمر. وكأننا نتحدث لأموات وليس لأحياء. خطباء الدين يتحدثون لأموات يشهدون كلامهم، رجال السياسة يُسمِعُون من في القبور، رجال الإعلام يلقون دروساً في الوطنية والهوية كشيوخ يلقنون الأموات إجابات لملائكة العذاب. ثم يأتي المسؤولون الرسميون كالسائلين: "ناكر ونكير" أثناء عذاب القبر ... من ربُك السياسي؟ من تؤيد؟ ما دولتك؟ وما هو نظامك السياسي؟ لماذا لعنت الظروف مرة؟ وهل عصيت الحاكم يوماً؟ هل خرجت على النظام ولو في خاطرك؟! والإجابات معروفة بحسب التلقين الثقافي للأدمغة الفارغة.

كيف تحتفل الفلسفةُ إذن؟! نحن العرب حاضرون بلا فرح ولا انجاز ولا موضوع(لا عريس ولا عروس) إلاَّ بحكم الزمن فقط. الفلسفة بهذا الحال يحب أن تكون تمارين لإحياء الموتى وإزالة كآبة الواقع. فلئن كان اليونانيون القدماء يتدربون فلسفياً على الموت، فالمجتمعات العربية يجب أن تتدرب فلسفياً على الحياة، على أنْ تعيش عصرها، أن تُفعِّل حاضرها وتدخُل نطاق الثقافات العالمية. على الفلسفة لدينا أن تكون فن إحياء الأرض الموات بلغة الفقهاء(أرض العقل وأرض الثقافة وجدب الحياة)، أي بعث الوعي من الأجداث التي تكبل حركته تاريخياً وكأنَّها قدرٌ مشؤوم!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى