ألف ليلة و ليلة كمال القاضي - «ليلتان بعد الألف»… حكايات أخرى لشهرزاد في رواية معاصرة

التنويع على حكايات ألف ليلة وليلة أو الإحالة إليها قليل في الكتابات الأدبية الجديدة، لأنه يستلزم بالأساس قراءة العمل الأصلي «ألف ليلة وليلة» ذاتها، وهي القصص التراثية التي أوحت لجيل كامل من الروائيين بإبداع معاصر يتشابه في بعض ملامحه مع ما هو تراثي وقديم، أو أنه يسمح على الأقل بالربط بين الماضي المتخيل والواقع العصري، أو الواقع الروائي الافتراضي، وتتحدد لغة التشابه من قاموس المفردات ورصانة الأسلوب، وفي أحيان قليلة يشي بها العنوان الذي هو فاتحة المضمون الإبداعي.
«ليلتان بعد الألف» رواية للكاتب عوني عبد الصادق، تفرض القراءة النقدية على خلفية الرؤية التراثية، فهو المهموم بمنابع الأدب العربي المشغول بأواصر العلاقة بينه وبين الحديث والمعاصر، في كتابات نوعية تتباين في أشكالها وماهيتها ودلالاتها، إذ يرى عوني أن الجذر العربي في الأدب يجدر أن يكون سببا لاتصال إبداعي لا ينقطع، ومن ثم فإن الظاهر والبادى في رؤيته ولغته ليس بعيدا عن الأجواء التراثية، ولا منفصلا عنها، وإن توافرت له وفيه أدوات استقلاله وتميزه، باعتباره الأدب الناطق بلسان زمانه ومرحلته الراهنة، اختياره لعنوان «ليلتان بعد الألف» يحتم أن يكون لإسقاط الدلالي المقصود على ما تلا الحقب التي عشنا فيها مناخات وطقوس الألف ليلة الأولى من إبداعات شهرزاد وحكاياتها المغرية بالسهر حتى طلوع الفجر وبداية أذان الديك وخلود شهريار للنوم، حينئذ يكون مسموحا في الإطار الخيالي أن يسرد عوني عبد الصادق حكايات وقصصا جديدة تتوافق وقائعها مع مقتضيات زمان آخر سريع الإيقاع مختلف النكهة والروح والطبيعة والتفاصيل، حيث لابد للمسافة التاريخية الفاصلة من إفرازات مغايرة على كافة المستويات السياسية والاجتماعية ومنعطفات أضيق من مجرد النظرة الأفقية العامة للحياة، بما فيها من اختلافات واختلاجات.
نلحظ من سمات التناص في النص الروائي عند الكاتب عوني عبد الصادق لجوءه إلى استدعاء عنوان رواية ماركيز «مئة عام من العزلة» بقليل من التحريف، فيكتب «عشرون عاما من العزلة» مع التأكيد على عدم الاقتباس وإنما بقصد الإشارة والاستفادة فقط من السياق الماركيزي لإصابة معنى ما، ولعل ابتعاد الخط الروائي عن مرامي الكاتب العالمي الكبير ينفي تماما الشبهة، وإن كان يستحضر الحالة من غير الاقتراب منها، حيث تظل الرواية داخل مدارها العربي التراثي، ويكتمل ذلك باسم احدى البطلات خضر بن ماء السماء ابنة الشيخ ماء السماء، الذي يشابه في حياته وخصاله الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، الذي عاش وحيدا ومات وحيدا وسيبعث وحيدا.
إنه الدخول المباشر في حيز التاريخ واقتراب على مهل من الرموز الإسلامية استهلالا لبدء نسج جديد في الأحداث، بعيدا عن عوالم ألف ليلة وليلة، وهو تسلل ذكي لرصد ما يموج به التاريخ في كل العصور من أحداث وتفاصيل تتوافق صورها مع الواقع للربط غير القسري بين الأزمنة المتعاقبة وجينات الصراع والتكيف، باعتبار ان التاريخ لا تفصله حدود ويشكل في مجملة حلقات منفصلة متصلة يصح أن نجمع بينها في قالب روائي واحد، فتبدو الأحداث على عكس تناقضاتها متسقة في حزمة واحدة.
الدخول في أغوار رواية «ليلتان بعد الألف» يكشف ثنايا وطيات العمل عن قصدية الكاتب في الدمج التاريخي ومحاولة التعامل معه كحدث واحد طويل بفصول متعددة أو بالأحرى محاكمته وفق قراءة حيادية تبتعد عن الانتماءات الفكرية والعرقية وسيكولوجية التعصب والانحياز، وفي تلافيف الكتابة الموضوعية للحوادث والأحداث يرمي صادقي إلى اختراق ما هو محظور من مناقشات حول الحروب وأبطالها، من دون مباشرة عبر شخصيات متعددة الجنسيات يطرح من خلالها رؤى تراجيدية عن مأساة العراق، كمثال كان هو الأقوى في بداية التسعينيات وما بعدها، ويلمح إلى أوطان بات لها المصير نفسه بعد المؤامرة الأمريكية التي دبرت بليل، وجاءت نتائجها تباعا لتعاد صياغة المنطقة بالكامل بأبجدية متفق عليها .
بهذا تتبلور حلقات التاريخ المنظور في الرواية التي بدأها صاحبها من «ألف ليلة وليلة» واضعا نقاطا متجاورة على السطر الأخير في الصفحة الأخيرة ليوحي بأن ما ورد ليس هو النهاية وإنما للحكاية فصول لم تكتب بعد.


كمال القاضي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى