محمد بقوح - المنجز القصصي للقاص حسن العيساوي من خلال مجموعته (دود الملح)

1- الإبداع و المدينة
نفض الغبار عن الإرث الثقافي الحي لمدينة الدشيرة الجهادية، التي تواصل مقاومة ريع الثقافة بكل أنواعه.
سيكون البدء، بالكتابة عن أحد أبناء المدينة الكاتب والقاص حسن العيساوي، من خلال النبش والحفر في تربة قيمة ودلالات مجموعته القصصية اليتيمة (دود الملح)، رغم أنه حدثني رحمه الله، قبل وفاته بوقت قصير أن هذا الإصدار القصصي سيكون بداية مشروعه الأدبي في مجال كتابة القصة.
هنيئا لنا بهذا القاص الدشيري الذي غادرنا مبكرا، لسوء حظ القدر، لكن، سنعمل على استحضاره من جديد في إطار قراءتنا لعمله الثقافي والأدبي الذي نحن بصدده..

2- القصة بين الهدم و التأسيس
تطرح قصة رحال المنسي في مجموعة (دود الملح) للقاص حسن العيساوي مفهوما نوعيا للكتابة النقدية بمعناها الجذري. أي تركب بين فعل الهدم و منجز الـتأسيس.
من هنا، يمكننا الحديث عن ابداعية هذه الكتابة القصصية، من حيث أنها تحفر عموديا في ذاكرة المشترك الجماعي للإنسان المغربي بطابعه المحلي في فضاءات مدينة الدشيرة، وذلك استنادا إلى نسيج أحداثها القصصية المتناغمة، وشخوصها التي تعيش على هامش المجتمع ( الأب )، تحفر منابع مياه الحياة ضدّ صناع ملحها ومرارتها، بل صناع الموت فيها.
هكذا، تبني قصة (رحال المنسي) هويتها القصصية باعتماد سلطة التخييل القصصي لتأسيس معنى وتيمة المقاومة .. مقاومة النسيان و التضييق و التحجيم و التهميش الذي تكرسه سلطة المؤسسة الطاغية بجميع أنواعها و أنماطها. يقول السارد ( زمنا، كان رحال المنسي ينظر إلى الناظر بمحيا طفولي إلا أن أعين العشيرة جعلته يولي ظهره لنا، وينظر إلى الأرض وهي تتلوى بين الشهقة والوميض في زمن الولادات القيصرية، والاجهاضات المباحة، والطلاسيم المحشوة بالرماد والزعفران، كل ما تبقى بين هذه الدروب لم يكن ليشفي غليله بقدر ما دفعه ليزيل على هامته وقع المألوف). ص 5.
إنه التحدي الصارخ ضد السلطة وضد النسيان. ومن تمّ، تؤسس قصة (رحال المنسي) إحدى دلالاتها الفكرية بنقد تجليات السائد، و الإنتصار الأدبي لمفهوم الكتابة المقاوِمة لكل أشكال وأنماط السلوك المجتمعي المتخلف و التافه، المكرس لفكر الانغلاق و التنميط و الثبات و الجمود و التكرار .. لهذا، تدعو القصة عبر رؤيتها الإبداعية لفكر الانفتاح و التأسيس و الإنتاج عبر وسائل وأدوات تحقق المكاشفة و التحرير والتنظيم و البناء، مثل ( الإبر - الزوارق - المعاول - الحارث - المناجل - العيون - المطارق .. الأوراق ) .. للحصول على نتائج واضحة المعاني التي تحرر الروح و الجسد معا .. يعني تحرر الإنسان (يرسمها بقع حناء وصمغ و زغاريد وزعتر، الأوراق التي كان يعانقها والتي بدأ الآن يمل ركودها المتعنت ) . ص 5 - 6

3- القصة و النبش في الذاكرة المشتركة
بتكثيف معنى الإبداع الحر، وإشعال لهيب المفارقات، و بأسلوبه الفكري المشاكس إستطاع الراحل القاص حسن العيساوي الحفر في دواليب الذاكرة التاريخية المشتركة للهامش الإجتماعي المحلي لمدينة الدشيرة، وذلك بتركيزه في قصته الثانية ( نزول بالمظلة) على صوت الإعاقة حين يتحدى الفشل والسقوط وحياة اللاجدوى.
إن الإعاقة هنا، في هذا النص القصصي، هي إعاقة بالمعنى الجسدي..، لأن معناها الذهني هو الذي يطرح المشاكل الإجتماعية والحضارية لدى الأشخاص وفي المجتمعات الهشة كمجتمعنا، الشيء الذي ينتج عن هذه الإعاقة بالضرورة الجهل المعرفي والثقافي، ومن تم يتراجع مفهوم الإنسان ببعده القيمي الكوني إلى أدنى المستويات.
هكذا، يكون صوت الإعاقة في المجموعة القصصية (دود الملح) للقاص والأديب المتألق حسن العيساوي، تحديا كبيرا، بل انتصارا لقوة الإنسان بمعناه العملي والأخلاقي، وأيضا، من جانب آخر، تعتبر المجموعة القصصية كنفس فكري وأدبي بكامله، ونص القصة التي نحن بصددها، تجليا واضحا لمدى إبداعية مفهوم الكتابة القصصية عند هذا الكاتب، باعتبار أن جميع الشخصيات التي تناولها ووظفها واستعان بها لمعالجة قضية العلاقة بين الإعاقة الجسدية و الإبداع الأدبي، كانت شخوصا تعاني من نوع معين من الإعاقة الجسدية التي لم تمنع أصحابها الذين يعيشون في هامش المجتمع من تحقيق النجاح الفني والإبداعي. وبالتالي، تمكن كل من الأشخاص الثلاثة الذين يعانون من إعاقات جسدية مختلفة، من تحدي تلك الإعاقة وفرض وجودها الذاتي في وسطها الإجتماعي.
فشخصية الأحدب أبدعت في مجال النحت، فكانت أداتها الرئيسية هي الإزميل.
وشخصية الأبكم أبدعت في مجال فن الغناء، فجاءت أداتها بمثابة الميكرو.
وشخصية الأعور أبدعت في مجال التشكيل، لهذا كانت الفرشاة بمثابة أداتها الفنية الأساسية.
من هنا تبدو كتابة القصة عند حسن العيساوي عملا فنيا تكويني الأسس و الوظائف، بحيث يستعين فيه القاص بخبرته المحكية السردية، وتجريته الفنية في مجالات أخرى للإبداع كالنحت والتشكيل والشعر والمسرح أيضا، باعتبار قصة (نزول بالمظلة) التي نحن بصددها، اختار لها الكاتب الشكل الحواري الذي يعتبر أساس العرض المسرحي.
وهي كلها السمات الجوهرية التي ظلت تلازم مسار الحياة الفنية والأدبية للصديق حسن العيساوب، تلك التي توج بها أعماله الفنية في النحت والتشكيل والشعر والمسرح من خلال كتابته لمجموعته القصصية اليتيمة(دود الملح).

4- أدب القصة و المدينة
حين يكون السرد القصصي في خدمة مدينة القاص. هذا هو العنوان الذي أقترحه للقصة الثالثة في المجموعة القصصية (دود الملح) للصديق الراحل حسن العيساوي : دائرة اللون الأزرق... أو الثلث في الخمس.
من خلال المواقف الفكرية و الرؤى الثقافية والاجتماعية المختلفة، بل المتناقضة أحيانا للشخصيات القصصية التي تم اعتمادها وتوظيفها في هذه القصة، ارتباطا بتفاعلها الجدلي مع الأحداث اليومية و البسيطة في فضاء المدينة، يبدو الكاتب حسن العيساوي، ابن فضاءات مدينة الدشيرة، متحكما في خيوط لعبة أدوار السرد القصصي، سواء في مستواه الأدبي الذي يرتقي بالذوق الفني و الجمالي للقارئ، باعتبار أن الكاتب من خلال صوت سارده يجعل القارئ مستمتعا بقراءة وتتبع تحولات مسارات القصة.
أما في مستواها الفكري، فيحرس الكاتب على أن يرافق سارده القارئ بنفس سخري أحيانا إلى الجزر الثقافية الموبوءة في المجتمع البورجوازي المغربي اللقيط، الذي لا يرى في العلاقات الإجتماعية إلا بمنطق الربح المادي والنفعي، وليس بمنطقها الإنساني الذي هو أساس صرح سلامة الحياة في هذا العالم.
من هنا يبدو البعد النقدي الجذري، الذي ظل وسيظل السمة الرئيسية لتجربة الكتابة القصصية عند حسن العيساوي. بحيث قال السارد في إطار هذا البعد النقدي للسلوك الإجتماعي والطبقي للمجتمع المغربي:
( قلت ناهضا وأنا أنفض ما علق بي من الخديعة و الإحباط والهزيمة، غادرت المتجر لائحا ببصري باتجاه السيارة الزرقاء، إلا أنني لم أجدها، لم يبق إلا سحابة من دخان، ابتلعها شارع المدينة الطويل، فمشيت أجر خطاي المتثاقلة). ص 23

5- أدب الحواس
بدءا، لا مناص أن نقر بأن التجربة القصصية عند الكاتب المبدع حسن العيساوي، ابن مدينة الدشيرة، رغم ارتباطها بمجموعة قصصية يتيمة هي (دود الملح) الصادرة سنة ٢٠٠٤ ، إلا أنها تبدو ناضجة وعميقة ومبدعة على الأقل في نظرنا، من حيث تناولها وطرحها لأسئلة الهوية المحلية في صلتها بتناقضات المجتمع المغربي. بل يمكننا أن نذهب بعيدا في هذا الإقرار، وندعي بكل وضوح، وفق قراءتنا المتواضعة لصوت أو صرخات نصوص هذا القاص الكبير، أن حسن العيساوي يكاد يكون قد أبدع في نظرنا منحى جديدا في الكتابة القصصية المغربية، أسميه بقصة الحواس، الذي يعتبر جزءا من أدب الحواس. وهو نوع من الأدب الذي يؤسس معناه بقيمة الحواس الإنسانية التي يعتمد عليها في حركاته الأدبية وتدفقاته الفكرية الخالصة في تقاطعها المباشر مع المخيلة السردية لكلية النص القصصي..
لهذا، تراهن الكتابة القصصية هنا، في القصة الرابعة من المجموعة(خمارة ميامي.. أو الطفل الذي لا يكبر) عند القاص حسن العيساوي على إحداث نوع من التوليف المكثف الجميل، والتركيب المنسجم بين حركية الحدث القصصي وبناء المكون الحكائي في علاقته الجدلية بالبعد الرمزي لاستعمال الحواس الخمس، في اتجاه تدعيم الدلالة القصصية للنص بطريقة تعبر عن أزمة هوية الشخص في بعده الجسدي (الأب، العطاوية، المعتوهين، السكارى، المشردين، ) و تناقضات المجتمع المهمش والمنسي، ومفارقات الواقع الموضوعي للإنسان الأكاديري في علاقته بالمكان (البحر والصخرة، السكر و المقدس).
هكذا يبدأ السارد حكيه القصصي بملامح الحواس الخمسة كأبعاد جسدية (..) بحاسة البصر (وميض البرق)، وحاسة السمع (صوت الرعد)، وحاسة اللمس (احتمينا بالجدار).. وحاسة الشم ( دفء ماض آفل)، مرورا ببناء حكيه ذي البعد النفسي الدال، في أفق تأسيس أسئلة وجودية تهم مأساوية وسقوط الإنسان المسكون بذاكرته الموبوءة (زمن الحرب)، مهما حاول ممارسة التصحيح تلو التصحيح في حياته اليومية والاجتماعية.
يقول السارد :
" - عمي هذا طفل لا يريد أن يكبر
- كل منا فيه طفل.. طفل مشاكس لا يكبر أبدا إلى أن يدفنوه معنا.
- خذ.. اشرب.
- ما زلنا نتكلم.
- كأس واحدة فقط.
- لا.
- ولماذا ؟
- لأنها تلحس المخ.

6- القصة كمنجز للهامش المنسي
في قصة (الوردة الحمراء.. أو العبور إلى الشمس) يحاول القاص حسن العيساوي، ضمن نصوص مجموعته القصصية (دود الملح) كتابة الرغبة في تأسيس المستقبل بمرارة الحاضر، خاصة بطابعه الإجتماعي الطبقي المنسي. يعني، نحن هنا بصدد كتابة القصة التي تنتصر لقضايا الهامش المغربي، وخاصة منه الهامش الجنوبي بسوس العالمة حيث يمثلها في النص صوت شخصية حمو الذي يحلم بالهجرة إلى ألمانيا رفقة صديقته بريجيت البيرلينية، كما سماها في حواره مع جاره احمد.
غير أن المفارقة التي صنعتها القصة، باختيار مصير الجنون في الشارع العام لشخصية حمو، منح لقيمة ومعنى النص دلالة السقوط و الانكسار واستمرارية السؤال.. في الوقت الذي تحقق حلم حمو باللقاء بصديقه الألمانية بريجيت "فارقه عقله"..! ص ٤٣
7 - تشكيل المحكي
ثمة إضافة نوعية جديدة، على الأقل في نطرنا، تطرحها قصة (نقطة.. نقطتان.. ثلاثة.. أربعة..)- ص 44، للكاتب حسن العيساوي، ابن مدينة الدشيرة، في مجموعته القصصية اليتيمة، على أفق اجتهاد النقد الأدبي المغربي، باعتبارها قصة تستعين في نسج قيمتها الأدبية ومتخيلها الفني، ومعناها الفكري البليغ، بأسلوب الكتابة الأدبية المتعددة الأبعاد المعرفية في مرجعياتها العلمية والثقافية والفنية. وبالتالي، يتمرد هنا الكاتب حسن العيساوي على المنظور المنهجي التقليدي المألوف و المتداول غالبا في حقل كتابة القصة القصيرة. أي يكسر ويهدم النظرة المعيارية والنمطية في الكتابة القصصية و السردية عامة، تمهيدا لتأسيس وبناء منظور جديد، أو لنقل منظور مبدع، يجتهد من خلاله القاص لتقديم ما هو جديد ومختلف في مجال كتابة القصة القصيرة، كما نجح في التشكيل والنحت و المسرح في حياته الأدبية.
إن القاص حسن العيساوي هنا يستعين بالمفاهيم الرياضية الهندسية ( نقطة، خط، منحنى - دائرة - الزاوية القائمة - الفضاء..)، وبالمجازات الشعرية ( تندلق نقطة - يولد "فجر" - فجر يبدأ يتعلم أبجدية الكلام)، وبمعطيات الفكر النقدي ذي النزعة الفلسفية ( بالنقطة تبدأ المشاكسة - يكسر الزجاح- يكسر الإطارات - يكبر فجر.. يقف.. يمشي الآن على اثنين.. وما زال يشاكس.. يستجمع نقطا.. يقذف بها في الفضاءات فتتشكل مرة أخرى حرقة السؤال وهلامية التعجب) ليس للكتابة القصصية فقط، بل لرسم وتشكيل المحكي القصصي، بصيغته المكثفة، انطلاقا من إحالات كل هذا المركب المعرفي، وبالتالي، تمرير رسالة معنى التحدي في علاقته الجدلية بقيمة الإنسان الذي يبحث عن ذاته بالخروج من ما هو محدود ومألوف ومكرور ومغلق، والتفكير الدائم والمستمر في البناء المتواصل الذي لابد أن يقوم على أساس الهدم الأولىي، بعدها خوض الصراع الإيجابي تحقيقا للإبداع في الكتابة والحياة عامة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى