مقتطف صلاح عبد العزيز - قالت لى الأشجار.. فصل من رواية - تابع (3)

-3-

يا عبد ميعاد ما بينك وبين أهل الدنيا أن تزول الدنيا فترى أين أنت وأين .. أهل الدنيا .
مخاطبة (20 ) النفرى

( حقيقى أن يقوم الموتى عندما نهمس بسر الحياة، وحقيقى أيضاً أن أنظر وأحدق فإذا بى بينكم كأروع ما يكون الإنسان)


لم يكن الضوء بعيداً لكنما يخيل لى أنه آت من الفضاء البعيد وأننى أخاطب روح الكواكب فتجئ كلماتها صافية كالماء العذب للصادى وفى هدوء ينسجم مع الزمان والمكان فأمتزج مع الأحجار والطواطم وأطفو مع التعاويذ القديمة فأفلت من إسار البدن وتحلق روحى مع الطائر الأخضر الذى يرنو بين المشاهد كلها كلما رحت واتجهت إلى الذى أودعت فيه سرى وما فهمنى أحد ، والذى يعذبنى فى دورات العصور التى لا تكتمل وارتدادى للأمكنة التى تلفظنى من مشهد إلى مشهد ، وأحلق مع الطائر الأخضر فى أماكن لا أعى فيها غير منظر يتكرر ولا أستطيع إمساكه فأعود للكابوس لا أعيش غيره فى النوم أو فى الصحو وهمى وحقيقتى ، فعندما أكتب تصبح روحى مقيدة به وهو يتشكل فى أصوات لم تهيأ كى تتجسد حقيقة .
ربما أصوات القرون الهجرية الأولى فى الكتب القديمة الصفراء وهذا الكتاب الوحيد الذى أتممته فى فصل سابق منفصل عن المشاهد ومتصل فى الجوهر والروح .. أو قل هو متمم لزاوية صغيرة لم تتصل ولم تنفصل عن تتمة المشاهد .
وها أنا وحيد الغرفة كما كنت متصل بروح الكواكب وفى جوف طائر أخضر ينتقل من مكان إلى مكان ومن زمن إلى زمن فى اندهاش لما هو كائن ، واحتفاء غامض بما سيكون ، وهذا الضوء الثابت المحور بين ما أسمع وهذه الوجوه المتحركة وكيف أع ما يقوله الصوت القديم جيداً .. ومهما أعى .. هناك أشياء كثيرة بالداخل ما إن تخرج حتى يخرج الجحيم ممثلاً فى جسد وروح ينفصلان ويتصلان حتى ليخيل للقارئ أن ما يكتب لا يستطاع فهمه ولا مجاراته أو تخيله.
وعندما يتأرجح المصباح يحدث هذا الاهتزاز الداخلى للمشهد الداخلى لكنما لا يطغى على شكل الكتابة أو مضمونها فسرعان ما أستعيد هذه الفجوات التى تحدث كلما توغلت فى الاستكشاف فأعود من جديد للقراءة والإضافة والفحص والاتصال بين المقاطع على أنها في يقينى لن ترتب أبداً ولن تهندس لأن ما كتب ، كتب بطبيعته دون تدخل .
مرت مائة عام ولا تزال الأرض كما هى كم حملت أشيائى ورحلت من أرض إلى أرض ومن زمن إلى زمن وكم حلمت أن يتغير وضع الأشياء حتى أنفذ من خلالها إلى جوهرها ..
لم تسلمنى الأشياء نفسها إلا بعد عسرة وسوء ظن ورجعت كأنى توهمت وأفقت كأن لم يكن ما كان ..
هذا وضعى على الحال الأول .. مسافر فرد ، واحد واحد ، وما بين الآن وما كان حدثت أشياء وسقطت تفاصيل .
لسوف أحكى وأنفذ من خلال الحجب .. أسدل حجابا تلو حجاب إلا أن أنسى بعض التفاصيل لا يتممها إلا قارئ فاحص وما أنا بالكاتب الماهر الذى يهندس تلك التفاصيل حتى لتبدو كالحديد دون ثقوب .. فإذا وضح لى كل شئ فماذا أكتب بعد ذلك .. إن هذه الثقوب هى التي أنفذ من خلالها فأكتب من جديد .. وضرورى أن أغمض عينى قليلاً حتى أتبين الأمر .. أهو اليقين أم أنها شهوة الكتابة والبحث عما هو دائم ومستمر0
على ورقة بيضاء رحت أخطط ممرات أشجارا .. أرسم شيئاً بسيطاً في تخطيطه يحيل منظر الورقة إلى حديقة خضراء ومياه ومطر .. ربما كان تمسكى بهذه الورقة هو الذى سيخرجنى من هذا البرزخ ..
وربما فى ظل أزمتى أريد أن أركن إلى مكان ما وزمن ما حتى ولو فى الخيال والإبداع .
ظل المصباح الكهربائى يتأرجح في سقف الغرفة كلما اهتزت الكلمات داخلى ويرتعش الضوء لهاتف يمر فى خاطرى كلمح البصر.
إنه الصوت الذى هتف بى من قديم وتعذر عصيانه .. لكأنه القدر الذى يرسم الطريق ويزرع الحوادث فلا فكاك .
ـ من أين وإلى أين يا سليل نفسك ؟!
وكان الصوت ..
فقلت :
من أين .. وإلى أين ؟!
وأسألنى ساعة التحديق أهذا هو الضوء الذى أرتجيه والصوت الذى أسمعه أم أنه السراب يلمع من سغب على طول انتظار .
ربما الموت ذلك الهاجس الكائن فى الزوايا ومفترق الطرق وبين المقاعد وعلى الأرصفة ذلك الروح المبهمة .. وتهرب إلى أين بشعور المطارد وتتجنب الشوارع المستقيمة وتلف فى الحارات لا يبين لك سمت يتملكك الخوف الدائم من شرطى أو مخبر حتى البشر العاديين تهرب من أين وإلي أين ، وفي أى اتجاه وأى جحيم فمن قرية إلى قرية ومدينة إثر مدينة بعيد أنت من الأمان لم تقتل نفساً من شيعتك ولا من شيعتهم إنما جهرت بحقيقتك لم تستمع لنصح ..
: أنت أغويتنى بالنداء فقلت وبحت بما بحت ..
روحان حللنا .. إذا أبصرتنى ..
: ما كان عليك الجهر .. اشتبهت عليهم اللغة فخلطوا ما خلطوا وهذا مناف لهم .. كنت عنيفاً عليهم قلت لك كن رفيقاً بهم .. أى ظلم تبدى لك حين هجرك الأصحاب والأحباب ..
أنت ظالم لنفسك فما حاجتك .
: حاجتى أن ألم أعضائى بأعضائى .. أن أتجمع من جديد فى ظل هذه المحنة .
: تتربص بك الدوائر ومهما فعلوا أنت بمنجاة بما أعددناه لك ..
: أعطني الدليل كى أرى .. بقلبى كثير من الظلم .. بصرتهم .. حللنا بدنا .. وشرحت .. أبصرته .. أبصرتنى .. بسطت لهم لغتى .. صرخت دمائى بين أيديهم .. ما سمعوا .
: ترفق بنفسك .. حذرتك .. تيممت شطر اللغة القاتلة ، ما قتلت أحد وما طاردت أحد .
: لو كانت اللغة القديمة أسعفتنى لافتتحت بداية الاكتمال وما صلبت بقول بيتين من الشعر .
: شهدوا وما شهدوا ، وفهموا عكس ما قلت .. ما شهدوا ولم يشهدوا .. وستتكسر آلاف المرات وتذبح آلاف المرات وتصلب آلاف المرات فى آلاف العصور من قبل أن توجد وقبل أن تذهب على الرغم من وجودك فى كل الأزمان وستظل ما بقيت الأرض وما بقيت الكتب.. انظر .. وحدِّق ..
وجدت نفسى فى حديقة وحول الحديقة سياج من نبات الفيكس مهندس حتى ليبدو كجدار مدهون بالأخضر أوراقه الصغيرة الشمعية تلمع فى الندى وتحت الشجيرات برك صغيرة وطين من آثار الندي المتساقط .. ظل الضباب يلف أشجار الحديقة وشجيراتها ويمنع رؤية ما سواها ..
ربما كنت جالساً طوال الليل على المقعد الوحيد منتظراً لهذا الصوت القديم أعد نفسي لاستقباله لكنه لا يجيء إلا همساً لا يتم .. ربما م ن فرط ما لامست من قدرته الفذة على الحضور دون جسم يختلج قلبي بشدة .. فله رهبة وله كل الجبروت ، يستلب روحى وربما حضر عدة مرات وزار روحى فاكتست بخبرات جديدة ، وكنت أتسائل لم لم يأخذ روحى ولم لا يجئ ؟!
كنت أحدث نفسى وسط الغرفة وتحت المصباح المشع : كثيرون ذهبوا ولم يعودوا لكنه سيعود هو الممتد دائماً وأبداً ..
رحت فى غفوة قصيرة حلمت به وبفروع الأشجار وهى تحن علىّ .. ما أيقظنى سوى لسعة برد خفيفة فقمت أتريض وأنفض ما بداخلى من آثار النوم ومن رجع صوت بعيد ..
تأرجح المصباح وسط الغرفة وأنا أنظر وأحدق فإذا بظل الضوء يتقاطع مع خطوط النافذة ولا يزال المقعد شاغراً بى ولا أدرى وإذا كنت فى غرفتى أم فى الحديقة .
كنت على يقين أنه سيأتى لذا لم أشغل نفسى بالتفكير فى الطارئ الذي منعه من الحضور ..
مثل هذا الحلم فى بعض الأحيان يجعلنى منقسماً على ذاتى وكنت أحدث نفسى .. أيها العالم البعيد أقبل حتى تتمكن روحى من محبتك فأنا سأخرج به منك كما دخلت به عليك ، وما سألت عن كينونة الأشياء وكيفية الحوادث والأسباب حتى وإن سألت لن يدلنى أحد إلا هو والتجربة .. وخضت إليك مسالكاً وعرة وما وصلت .
سرت فى الطرق المهندسة متجنباً الأعشاب الندية والبرك .. لزمت الطيور أعشاشها ، ساعدها على ذلك الجو الملبد بالغيوم .
أمطرت السماء مطراً خفيفاً .. قلت أحتمى بالأشجار ما انتبهت للأرض الرخوة فحملت من طين الأرض ما أثقل حذائى ومنع قدمى من المشى .. وبصعوبة وصلت إلى شجرة من أشجار الجميز هى الشجرة الوحيدة من نوعها في الحديقة استندت على جذعها حتى وجدت لنفسى متكأً جافاً .. جلست متأملاً فعل المطر على الأرض الرخوة .
تأملت البرك المنتشرة فى ممرات الحديقة .. كانت البرك تزداد وتنضم إلى بعضها مكونة بحيرات صغيرة ..
تعذر المشى فى الممرات فكنت مضطراً إلى الانتظار والصبر اللذان وطنت نفسي عليهما .. وفي البعيد رأيت كلبى الصغير الأبيض يجرى بين الممرات فرحاً بالطين والماء والضوء الخفيف محدثاً حركة خفيفة وسط السكون تعكس الضوء على موجات الماء في مشهد يتكرر وأنا أتأمله وهو يلف حول الشجيرات والأعشاب .. لم يحس بوجودى ولم يعبأ به .
توقفت عن تنظيف الحذاء ورحت أتأمله ربما أقل حركة تجعله يترك الحديقة شممت رائحته مسيطرة على المكان فقلت لعلنى فى بداية الفرح .. لم أكن مستاء من عدم حضوره فالآن وهذه الرائحة تغمرنى .. الآن أنا هادئ النفس مطمئناً أن الأحداث ستسير على ما يرام ولن أتدخل فى التفاصيل بوصفى الكاتب ذلك أن الأشياء يجب أن تتحدث عن نفسها وتقدم طبيعتها التي هى جزء من طبيعتنا .. وكل كاتب مكون من ذوات عدة تتفرق فى الشخصيات التى تكتب نفسها إن صح التعبير وبحكم تكوينى أحاول لمس جوهر الأشياء لأننى لست ماهراً فى تتبع الناس وتحليل آراءهم وتصرفاتهم مثل كتاب التراجم ولست مهتماً برسم شخصيات بقدر اهتمامى باستبطان جوانب ذاتى ، أنا قادر على تتبع ذاتى فى أطوارها المختلفة والولوج إلى عوالمها المخبوءة مولج فى الظلام المعتم المضئ .. وما أكتبه هو فائض كتابة ، ذلك أن الشاعر بحكم تكوينه معلق بأشياء كثيرة لا تخضع كلها للكتابة الشعرية .. وهب أننى نقرت بأصابعى على حائط هل سيهتز ؟..
في اعتقادى أنه سيهتز وسيهتز بشدة ..
هذا ما يفسر عدم بلوغى السطح فجأة ..
تذكرت الحائط ، الصور ، وصاحب البوق ، وتداخل العوالم وعودتها مرة أخرى من عالم الغيب وحضورها فى عالم الشهادة ..
كأنى نقطة على لوحة من الظلمة المغبشة ، نقطة مضيئة تحدث فيها الأشياء جملة وتفصيلاً بما لا يتيحه ضوء النهار ولا يسمح برؤيته جيداً ولست بمستطيع إثباتها إلا وأنا مضئ بذاتى مستعيناً بما وراء الحواس لحظة الكتابة .. اللحظة التى أكون منفصلا عن العالم متحداً ومتوحداً .. ولا يسمح القدر الضئيل من النوم باستبيان ما جنته الحواس في اليقظة المعتمة .
فالحياة ليست كما نهوى .. أذكر الآن كيف رتبت حياتى منذ الصغر وكيف كان لى مشاريعاً كنت أعدها عظيمة فى ذلك الوقت على الرغم من ضيق النظر للأمور ..
كأن أسيح فى بلاد الله فلا يعرف الساهر طريقي أبداً إمعاناً في تعذيبه.. كان الساهر رجلاً طيباً .. كنت أراه بحجم إله يملأ الكون
هو الآن بحجم إله فعلاً .. دائماً لا نعرف مقدار الناس إلا بعد موتهم.. أراه أعظم من كل عظيم فى الرحمة والشفقة وسعة الصدر .. غيرت كثيراً من آرائى وتغيرت زاوية رؤيتى ، الموقع له تأثير على آرائنا والسن وقد اتسعت الرؤية ..
اتسعت .. حتى لكأن الغرفة هى الدنيا حديقة الحدائق .. وكشاكيل من الذاكرة المؤرخة أتصفحها وأثبت ما كتبت من قديم .. بضع كلمات من هذا الحزن الذى يزورنى وقبل أن يغمرنى الأسى تماماً .. أتذكره .
رفوف من الذاكرة جمعتها .. لماذا .. لماذا نحب الأشياء وهى تموت، وإذا ما ذهبت عاشت معنا تتلبسنا روحها حسب ما تريد فنكون حسب ما كنا نرفضه سابقاً .
رفوف من الذكريات تتجمع فى لحظة الحزن العميق وتتسرب إلى النفس .. صفحات بعضها مضئ ومعظمها مظلم تماماً .. وسطور سطرتها ذات يوم تظهر فى الأفق وتسد على الجهات .. جثث من الذكريات الحية .. حلقت فى البراح البعيد يمامة وحيدة ثم تسربت فى الأفق .. وهبت عاصفة من الهواء نفضت الأشجار فراح الكلب الأبيض بجوار شجرة من أشجار البتولا الخضراء وأقعى .. وتسللت أشباح ..
أى روح ترف حول برك المياه عندما خرج الأموات من داخلى .. كنت أنظر وأحدق فى العيون الشاخصة الميتة ، رحت أتجول بين الجثث التى كانت تسير في يوم من الأيام .. ما إن خرجت من داخلى حتى تمددت في الطين ..
سرت بينهم كل عين أغمضها تنفتح بنظرة أكثر من متحدية بعزم وتصميم .. استقرت عيناى على جثة طفل رضيع لم تقص أظافره بعد ولم يمس شعرة أحد .. كأنه ولد في التو واللحظة ومات في التو واللحظة .. تحسسته فإذا حرارة الحياة مازالت به لكن لا حياة فعلاً تتقلب بين جوانبه .. ظلت عيناه المحدقة ترسل بطيف من الذكريات .
كنت أنا الطفل الذى يطل علىّ من خلال هذه العيون ، ورأيتنى ذات يوم ممسكاً بأطراف الأرجوان من خلال التراب والطين وأعمل بكل جهد لتحريك جثتى الصغيرة ، أعرضها للشمس فتشع بالأرجوان .
وانتصبت أمامى وأنا أنظر وأحدق بعينى الطفل الصغير .. عندها قامت قيامة الموتى .. تحلقوا حولى وقفوا وانتصبوا فرحين وتداخلت الألوان والصور .
حقيقى أن يقوم الموتى عندما نهمس بسر الحياة ، وحقيقى أيضاً أن أنظر وأحدق فإذا بى بينكم كأروع مايكون الإنسان .. تحدثت مخاطباً بهذه الكلمات فأشار أحد الموتى إلى بيت لم يكن له وجود من قبل ..
تقدمتنا جثتى الصغيرة وسرنا فى صفوف متراصة نخوض فى الوحل الذى لا ينتهى فما ابتلت أقدامنا ولا أحسسنا بالمياه التى تتواثب .. ربما تكون الألفة بيننا من قديم ..
سرت معهم فإذا مصابيح فى الهواء معلقة بخيوط غير مرئية يحسبها الناظر نجوماً تدلت فأنارت الكون .. ظللنا فى خطوط مستقيمة نمشى فى اتجاه البيت ، وظل البيت يبتعد حتى غربت شمس المصابيح فتوقفنا فى أماكننا لا نألوا على شئ حتى الصباح كأنما أطرافنا تجمعت طوال الليل .
سطع نور قوى فقلت : يا نور الله لماذا نسير بالنهار ولا نسير بالليل.
قال لى صوت : النهار مبصر والليل أعمى فاحذر الليل والنور الكاذب حتى لو تدلت مصابيح لك فربما تكون مصابيح الشياطين فإذا تتبعتها هلكت وهلك من معك .
قلت : ربما تكون مصابيح الداخل .
قال : احذر الداخل .. الشياطين بالداخل أقوى .. أقمع الداخل يدن لك الخارج .
قلت : ما بى قول .. أبصرت أشياء كذبتها وكذبتنى .. أنكرتها وأنكرتنى .. ما كنت عارفاً كيف تستقيم الجمل والفواصل ولا أعرف التعليل ما أكسبتني يداى قوة التعليل والإبصار .. كيف ننفق العمر الطويل دون أن نعرف ، دون أن يدنو هدف الحياة أو هدف الموت ، والبعث والنشور .
قال الصوت : كلنا نسير لما نريد حتى وإن بدت إرادة الحياة أو قوة الفعل والاختيار قدر مقدر فسر ستعرفهم ويعرفونك .
شعرت بألفة شديدة معهم بعد توقف دام طوال الليل ، والبيت من بعيد.
قالوا بغير كلام : نسير .
قلت : أسير على النور وإلى النور .
تذكرت ذلك الصوت القديم :
ليس سراً أن ترى الوجوه على حقيقتها وأن ترى ما ليس يرى.. وأن تكون واعياً بما تريد دون وعى بما تريد في سمو ورفعة واتساق .. ليس سراً أن يكون الهواء فاسد فلا تجد غير تلوث الرئة.. وأنت من الهواء الفاسد بعيد نقى .. هبة الضمير الأول والعقل الأول وإن شعرت بظلم كبير كبر الكون الذى لا يحده وصف ولا تقدير ، وعميق عمق نفسك وروحك التي لا تعرف حدودها على وجه اليقين.. أن تنقسم وتنقسم وتتكاثر وتتمدد فى أركان العالم ثم تتجمع فى لحظة ، فإذا نفسك أنت لم تتبدل ولم تتغير بتغيير المشاهد حتى لو بحثت فى الفصول الأربعة عن لامك القمرية التى لا تجدها إلا فى الخريف .
كان المشهد قوياً حتى أننى لم ألاحظ جثة الصغير وهى ترف حولى ..
تنبهت الآن لا أدرى إن كنت تركت الموكب أم أن موكب الجثث تركنى إلى حيث وجدتنى فى طريق مخالف لهم ..
جذبنى من يدى جذبة قوية لا تليق بطفل فتأخرت عن مشهدى لأدخل فى مشهد آخر غير مهيأ له ولا مستعد ..
قال لى : هل رأيتنى .. هل عرفتنى ؟
قلت : أنت أحمد ومحمود وليس لك إلا البراءة الواضحة ، لم تحمل من إرث الدنيا شيئاً .. جئت كما تريد وستذهب كما تريد ، ولما تريد.. أنت لى وأنا لك .. كلانا واحد وإن كثر .
كان المشهد على بحيرة راقدة مياهها البيضاء بعيدة الغور ، عظيمة الاتساع يرى قاعها ورمالها كحبات الندى تحت بللور مشف
قلت : أين أنا يا أنا ؟ ..
قال لى : الآن رأيتنى وعرفتنى .. أنت حيث حدود الدنيا وراء ظهرك، أنت مقبل على ستدخلنى وأدخلك وتتوحد بداخلنا أنوار المصابيح ، المصابيح الحقة ، فلن ترى إلا الحقائق مجردة من ثيابها .
وكرفرفة الجناح تلاشى فىّ وتلاشيت فيه ، ففارت مياه البحيرة البيضاء ، وتألقت من غير صوت إلا ما يهيأ لى أنه صوت ناى أتٍ من أعماق مليون عام خلت أو صوت بوق التأمت فيه الدنيا والآخرة.. وتجمعت المشاهد ..
هذا أنا أقوم من بين الموتى بين يدى طفل صغير ، قلت هو شفيعى ، حيث لا شفيع إلا أنت يا إلهى ، وقد انفصلنا .. وعلى وفاق تام وجدتنى فى موكب الجثث حيث يرى من بعيد البيت البهى بجدرانه الأربعة المطلية بالجير الأبيض .
وما إن اقتربنا حتى دخلوا جميعاً راقدين في هدوء وسلام .. قرأت المعوذتين والشهادة ووصلت إلى آخر التلقين ثم قرأت الفاتحة ووضعته فى التراب ..
تلك آخر معرفتي بالدنيا لكن من المؤكد أننى سوف أتذكر ذلك الصغير آلاف المرات بتفاصيل سوف تتناثر هنا وهناك بين ثنايا المشاهد ..
أمسكت فرع الشجرة .. كان ليناً كالخيزران الأخضر .. تقوس فى يدى انفردت أوراقه الخضراء بلون خضرة خفيفة كأنها بياض مشرب بخضرة .. ظلت الأوراق تتأرجح ما بين الخضرة والبياض أمام عينى..
تأملت الأوراق المتفتحة وبلا مقدمات تقريباً هبت نسمة خفيفة من نسمات الشتاء الدافئ فتحركت أوراق الشجرة جميعها ..
لكأن هسهساتها أوراد عابد متبتل .. وتمايلت الغصون كعرائس حلم لذيذ .. كل ورقة أشبه ما تكون بفراشة تتلون فى الخضرة المضيئة حتى ليحسبها الرائى عذراء تنحنى على نفسها تخفى أعشابها بين فخذيها ..
انفلت الغصن من يدى فتناثرت الفراشات وإذا السيارات فى مداراتها تصطف أحد عشر كوكباً تسجد وتدنو وتقترب ما سجدت لأحد قبلى فى صحو ولا منام ، إنها هى فى التجلى والخضوع .. إنه هو الذى يعرفنى وأعرفه لم يتركنى لحظة ، ولن يتركنى هو الخضم وأنا نقطة فيه ..
: اسجد واقترب ،
قبلت جذع الشجرة .. يا عظمة الخالق ويا عظمة المخلوق .. هكذا سمعت
قالت لى الأشجار :
كل شئ منه لك ، فانظر وحدق .. لم تغب شمسك حين ظننت ، وما استدار قمرك حين أجنك الليل .
كان الصوت مسموعاً كآذان من بلاد بعيدة يسرى مع الهواء ، ظننته بالخارج فإذا هو بالداخل وكان الصدى يملأ الأفق :
أ س س ج ج د د
و أ ق ق ت ت ر ر ب ب
نظرت فإذا الأشياء حولى بهجة تمشى على قدمين ، الأوراق وغصون الأشجار ، وأعشاب الحديقة وربما اليرقات فى أنفاقها وشرانقها ..
دامت ساعات الفرح ..
قالت لى الأشجار : أنت مهيأ للصحو ومهيأ للحياة والأبد .. ما كنت وحيداً حتى تتوهم أنك وحيد ، وما كنت من الكثرة حتى تتوهم أن الخلق منشغلون .. ما تيبس بين يديك الخير إنه يتفرع إذ تتفرع .. ويتشكل إذ تتشكل فى المعالم من طقس ونبات وحيوان .. حتى الرمال في الصحارى وصخور الجبال .. ها أنت فى منابع الأنهار ومصباتها فى حبيبات الملح .. فى ماء البحار والمحيطات .. تذكرك حبات الندى العالقة كل صباح .. أشعة الشمس فى مرقدها وحين بعثها قوية على العالم الذى أنت فيه ..
قالت لى الأشجار : يا وحيد ذاتك وذات وحدتك ؛ لست لنفسك فقط بل لكل أم وبسمة طفل وأب .. مصباح كل بشر وتوهج كل خير ، فيك البقاء لا ينفذ ولا يفنى فيك الفناء .. فيك البعث بعد كل موت والنشور بعد كل صمت وارتخاء .. كل ما تحب من زمن الشعراء الصعاليك إلى زمن الفقهاء الأربعة وكل زمن آت ..
بك نجتهد فاجتهد .
قالت لى الأشجار : نحن أغصانك المورقة ، وأوراقك المكتوبة فى تجدد دائم ما دامت الفصول فى دوران ، وما دام موج البحر يلطم الشواطئ ، وما دامت الأشجار فى تجدد واخضرار ، وما دامت الرياح تحمل الأرواح .. أنت من الدوام لأنك من الدائم الأبد .. روح منه وقبس .. حيرة الذاهل وسر العابد الذى لم يبح به لأحد وفقه السؤال البكر وروعة الإجابة ..
تعلو على السؤال إذ تتوالى الأسئلة بعدها والمشاهد .
قلت : يا عظمة الخالق ما رأيت وما استعدت ، وما قالت لى الأشجار..
وما سمعت من كلام الهواء وما غنت لى الأطيار ..
أنا بكامل صحوى أنظر وأحدق .



صلاح عبد العزيز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى