مقتطف صلاح عبد العزيز - المشاهد كلها.. تابع نص روائي (4)

-4-

( أول السفر .. آخر الوداع
وما حلَّ بى من محنةٍ فهى مِنـحةٌ
وقد سلمتْ ، من حلِّ عقدٍ ، عزيمتى
فكل أذىً فى الحب منـكِ إذا بـدَا
جعلتُ له شُـكرى مكان شـَكِـيَتى
سيدى ابن الفارض

فرحتى يا أحمد بين يدى ميتة
أحمد .. ضوئى الأول وعيناى التى أبصر بها العالم .. ما كان سهلا أن تموت فرحتى وهى لم تبدأ .. فرحت حتى غرتنى الحياة وقلت دام الفرح .. وسألتُنى : هل كان إيمانى بتفاهة الحياة بسبب موته الفجائى ؟ .. أم بسبب ما ترسب من أموات بداخلى .. ؟ أموات يخرجون فى الليل يعمرون دارى حتى أصبحت كعبة الأرواح .. كل يوم يزوروننى ويتحدثون إلى .. أعيش معهم أكثر وأحيا بينهم .. لكثرة ما عانيت من البشر أصبحوا زادى الذى أتزود به فى حياتى الدنيا.. فالجحيم فى فقد الأبناء وخيانة الأصحاب وبعد الأحبة يجعلك تعيش مع الأرواح أكثر وتنعم بلقائهم كلما سنحت الفرصة ..
كان يتشكل لى فى أى وجه كان حتى ظننت أنه ما مات .. فإذا تحرك غصن قلت هو .. كنت أسمع خفق طائر بجانبى نظرت إليه فإذا هو طائر أبيض أخذته بين كفى فنام فقلت : أنت هو ويقينى أنك الآن كائن خرافى لا يمت للأرضيين بصلة ، وذلك أنك تجاوزت حد السمو .. طائر أبيض على جناحيه المبسوطين نقش الراحة الأبدية يعلو ويسمو دو‎ن حد من الطيران فلا ينظر لأسفل للمدائن أو القرى أو كل ما هو وضيع متجها لأعلى ومرتفعا دائما ومن الآن سيكون انشغالك فى ذلك العلو والارتفاع بالعلو دائما وأبدا .. ولكن كيف نتذكر يا طائرى ما حدث قديما من تفاصيل الغرفة أو تفاصيل الحديقة.. وأنت مهيأ يا صغيرى يا أحمد أيها الملاك أن تلفنى بغامر عطائك وصداقتك .. فلنتذكر يا أحمد كيف بدأت الرحلة من هنا من هذا الموضع لهذا الهواء النظيف .. تلك هى النقطة الأساسية أن نذكر بالتحديد ما قبل التراب وما قبل القبر الذى دفنتك فيه فخرجت منى مرة أخرى على هيئة طائر أبيض أو هكذا خيل إلىّ تستجلى غوامض ما حدث .. كيف عدت يا صغيرى دون أن أفقد إحساسى المادى بك .. ربما كانت زيارتك لى وارتقائى لك سبب من أسباب النجاة فى هذا العالم الموحش .. وكنت أناجى الله فى عز الظلام أن يهبنى القدرة على الصبر .. الصبر على الافتراق المادى بما يحده من ألم .. فإذا الحزن بك لذة وافتقادك لذة وزيارات الأثير لذة .. من هنا يمكن أن نعيد ترتيب الأمور والأحداث يا أول الفرحة التى ما رأيتها حتى خمدت فكرهت الدنيا وأحببت الموت ولقاء الأحبة حتى لو كانت محبة القبور والتراب كمحبة لقاء الله وأعوذ به وأستغفره أن أنكر الحقيقة .. لكن تلك هى الحقيقة التى أنكرها برغم محبتى للحقيقة .. الموت أيها الصغير أول السفر وآخر الوداع .. فهل نموت حقا ؟ ! كيف وأنت فىّ كل لحظة تشعرنى بالتمام .. وكلما تولى الحزن واستبد بحواسى الخمس تولدت لذته فى المعنى القديم وفى إيمانى دون شعور بالنقص بل بالتمام والاكتمال المفعم بالإيمان دون رياء .. وإذ ذاك نبت لى جناحان فردتهما باتساع المشرق وأنا أحدث طائرى الأبيض : نم يا صغيرى تحت جناحى ودعنى لأهوال السفر .. سأحمل رسائلك إلى وسأفهم كيف تكون ولا تكون فى ذات الوقت وما الفرق بين الآن والآن ..
الأولى هى ما كنت أعده لك والثانية ما كنت تعده لى .. وفى الآنين اختلاف شديد وتضاد أشد كان سيتضح لولا الموت وما تخيلت يوما أن تكون معى والعالم ينظر إلى أنا الواحد المنقسم والمتصل بين الصعود والهبوط .. لكأن العالم لم يرك معى فاتخذ الجنون شكلاً مرئياً وأنا العاقل الوحيد ..
نم يا صغيرى .. فأنا ساهر منذ قرون ما عرفت طعم النوم وما عرفت طعم الراحة أنتظر الأجل .. فلما دنا استرحت وقلت علًّنى ألقى ما لم أراه فى استواء مادى الملمس إلا لحظات قصار أبهجت العالم فانتعشت لغة الوجد على جداره الرطب ثم انزلقت بغيابك فى التراب فشع مثل الذهب فى التنور وفاض كطوفان نوح فلم أر غيرك تحت جناحى المبسوطين فى الهواء الطلق وتحتى ألوان العصور وحضارات بائدة ومعابد لابد يوماً كانت مقامة فى تلك البقعة شعارها المحبة والفرح .. كنت أطير إلى غاية توشك أن تتحقق ولما دنوت رأيت أطراف أصابعك فى الأثير كمصباح يوشك أن يشع بشمس لا يقاومها الضباب فخف حتى صار غلالة رقيقة تلف العالم كحلم .. أصابع تشبه رعشة الضوء الإلهى خلف زجاج أبيض شفاف .. كادت أن تهيج قلبى لمرآة ولادة نورانية ليوم أحق به أن يكون أول يوم على وجه البسيطة العزلاء من مخلوقات لم توجد بعد .. لكأنما صارت الدنيا قبضة بين أصابعى ..
فى البدء صارت الأشجار تعلو على قبة الكون تزينها عصافير من زمرد أخضر تسيل مع أشعة الشمس وتنتقل من غصن إلى غصن والدنيا إلى خضار تتحول
خضرة خفيفة فى الضباب الخفيف شفيفة يرسب منها لون أخضر لزج وناعم يتماوج فى نهر من الفضة انقبض فجأة وانساب فى جدول متعرج ..
تحولت أطراف الأشجار إلى طيور مختلفة الأشكال والأنواع وطارت لأطراف الكون فى هدوء ضوء سابح نحو مغرب يقترب ويلون الأفق بسمت كنا لا نعرفه فى ذلك الحين وحط على الغصن القريب طائر صغير كنت أظنه أنت .. التقطنا وطار فى عنان السماء وفى جوفه المظلم شع نور أخضر .. النور الإلهى واكتسى جوف الطائر بخضرة محببة .. يا الله كل هذا الاتساع بجوف طائر صغير .. نحس بالسمو والعلو .. وبحركات أجنحة خفيفة كان يدخل الهواء بارداً إلى الداخل..
نمنا ألف قرن لا ندرى على وجه الحقيقة إلا حين أفقنا فوجدنا دنيا خضراء وطائر صغير أخضر يقف على صخرة عالية ناعمة الملمس منزلقة الحواف ..
قلنا فى صوت واحد : كيف جئنا إلى هنا وما هذه الدنيا التى لا نعرفها؟
قال الطائر الأخضر : هنا تكون المحبة صافية فاغرفوا ما ترون ..
انهلت مياه من جوانب الصخرة .. مياه باردة بطعم الورد تنز منها رائحة مرئية بلون الطيف تتأرجح فى الفضاء الرحب تملأ الصدر بما لا نستطيع أن نصفه فى كلمات .. كنا فى ذلك الوقت نحبو لنتعرف العالم .. هنا فى هذا المكان وطائر متكلم أخضر ومياه تنساب فى قنوات ..
فى أقل من لحظة تحول الطائر الأخضر إلى أنثى صغيرة تشبه التى دفنتها فى التراب كما دفنتك .. يا ألله كيف بعد كل هذه السنوات أتذكر هذا الشكل .. كيف تمر علينا الأعوام وننسى صنع أيدينا ..
قلت لها : ما اسمك ؟!
قالت بزفرة حارة : أنت ما سميتنى حتى يكون لى اسم ..
قلت : كيف .. وما لى أنا ..
قالت : اسأل أحمد .. سرعان ما نسيت يا إنسان .. وكررت : اسأل أحمد .. أنا التى ليس لى اسم ؟! ثم اختفت فجأة وصوتها يتردد إسأل أحمد ..
كاد الصوت أن يفتتنى لشدته بعدما ثقبنى بالرصاص وختمنى فى أكثر من موضع .. وأنا باهت منذهل ..
قلتُ : يا أحمد من هى ؟!
قلتَ لى : هى التى ليس لها اسم ..
قلتُ : أنت تعرف ..!!؟؟
قلتَ لى : وأنت تعرف ..
تحيرتُ وأخذت تتضاءل حولى الأشياء .. وأعود للزمن القديم .. أعود إلى بنى عامر فى ليلة حالكة السواد ليلة ما استطعت أن أنساها أعود وقلبى مفعم بالحزن لم أبك فى تلك الليلة .. كان حولى إخوانى فى الله الحاج أحمد ومحمد وممدوح ومراد وعطية .. إخوان لم تنجبهم أمى ما كان ينقصنا إلا راوية .. جلسنا ننظر لبعضنا كلنا قانع بما حدث وكان بيننا كائن نراه لكن لا نتكلم ولا يتكلم .. التى بلا إسم بين يدى ملفوفة .. تدور اللفافة بين أيدينا كلهم نظروا إلا أنا .. نفذت بعين الخيال فرأيت ما لم يروه سكن قلبى وصليت كافة الصلوات ، ساعة من الزمان وأنا أصلى فى هدوء غريب يلفنا .. نتدارس طقوس الدفن ونقرأ أمهات الكتب نتبادر الإجابة حسب ما نعرف كلنا يقترح .. كنت ساهما أسمع الأحاديث المختلفة لم يقل أحد أى إسم ولم يقترح أحد أن نسميها كيف نسمى جثة حديثة الولادة ..
استقر رأينا على الصباح نفعل فيه الواجب .. قام كل واحد إلى مضجعه وتركوا التى بلا اسم معى فى اللفافة ..
وضعتها على كرسى صالون عتيق طراز مذهب لم يعد يصنع .. غيرت ملابسى جلست على سرير معد ومستو .. الملاءات تشع ببرودة الثلج واللون الأبيض يملأ الجوانب ..
قمت من مكانى وفتحت اللفافة أول مرة أنظر وجهها فى النور الأبيض وجه جميل أحمر بازرقاق شاحب تكاد الحياة تقفز منه إلى العالم بعينين صغيرتين مغمضتين ..
أنظر وأحدق إلى جسمها الصغير عله ينبئنى بدقة قلب أو فتحة عين .. كنت إلى هذه اللحظة لا أعرف هل هى ذكر أو أنثى .. وضعت يدى أتحسسها كطفل أتعرف ملمس جلدها وأتشمم رائحتها .. يا ألله لماذا تعذبنى كل هذا العذاب .. لماذا .. فرحتى يا أحمد بين يدى ميتة .. رأسها مدمى من أثر كدمة عنيفة وعظام الرأس مفتتة .
***
آذان الفجر بصوت رخيم تتمايل عليه الجدران أسمع طقطقات الحصى تردد الآذان .. أطياف بيضاء تأتى وتروح .. تتجول فى المكان .. المكان يتسع ويتسع .. يتسع لأشجار خضراء تعلو وتتطاول.. تتطاول المسافات بينها ثم تتقارب فجأة أنحشر ما بين شجرتين أدخل إحداها وأرتقى سلما يصعد بى للفضاء أظل أصعد وأصعد .. اصعد لأعلى قمة فى الشجرة .. هناك كانت تنتظرنى تنظر لى نظرات أفهمها تتكلم دون أن أسمع صوت دون أن تتحرك شفة .. تشير لى دون أصابع دون أن تتحرك يد .. كنت أسمع كنت أرى كنت لا أتكلم .. كان الكلام يأتى من داخلها إلى داخلى دون احتياج للسان..
قالت : اصعد .
صعدت ..
قالت : اغسلنى وصلى وسمنى .. اختر لى اسما وأقرئنى السلام كلما غدوت إلى بنى عامر
قلت : أنا فى جهاد وجهد جهيد ..
قالت : لفنى فى العباءة البيضاء واجعلنى بين جدارين لا ثالث ولا رابع ولا سقف ..
أعطتنى عباءة بيضاء لففتها تحت إبطى .. كنت مغمض العينين أنظر وأرى .. أسفل قدمى العالم هوة سحيقة فى القدم بيضاء بياض الثلج وثمة قنديل يتأرجح من بعيد .. سكتت تراتيل الجدران بنداء التوحيد وأعتقد أنه لم ينم أحد ..
خصلات من الشعر دافئة تتدلى على وجنتى ويد تعبث بوجهى .. ضحكات صافية تتأرجح حول أنفاسى .. نظرة من بؤبؤ صغير وإنسان عين يتحرك فى إنسان عينى أنفذ للامرئى من الأحداث .. تزداد الأطياف وتتكثف فى الحضور .. لون الأرجوان يطغى على بقية الألوان بدرجات مختلفة .. تراتيل وأصوات .. أوراد عابد متبتل تنساب من مجرى القنديل .. أنفاسها فى أنفاسى تقرئنى السلام .. محمد يصلى الفجر ومعه إخوتى .. السكينة والخشوع تطغى على التراتيل .. يدها مازالت تخمش وجهى بمودة .. صوت الله أكبر ما بين السجدة الأولى والثانية يسرى إلى الأرض السابعة ثم يصعد بنا إلى السماء السابعة صافيا ورائقا .. لها حضور مادى طاغ يا أحمد .. الآن عرفت تذكرت التى بلا اسم ..
الله أكبر
الله أكبر
لا إله إلا الله
هل أكون قد نسيت يا أحمد ..
أنا ما نسيت يا أحمد ..
تناسيت وفى التناسى نسيان ..
التى بلا اسم سميتها قبل أن تكون وهى
مضغة مخلقة
إنما جريان الأحداث والحزن الشديد
أنسانى أن أذكر لها الإسم ..
هى تظن ذلك .
كنت يا أحمد مع الأطياف أصلى كأنى ألف قرن ما صليت وعندما ثقب ضوء الصباح قشرة الكون كانوا قد انتهوا من الصلاة وأتوا إلى كنت بكامل ملابسى تذكرت يا أحمد .. كيف خلعوا ملابسى وكيف أدخلونى فى ملابسهم أنا ما دخلت الحجرة وما صليت كنت جثة متحركة تنسل روحى طليقة معها .. روحها تملأ جوانحى .. منجذبا إليها ومنجذبة لى أنظر فى وجهها ملء عين الكون نور .. جلبة فى الخارج لكنها لا تطغى علينا .. جثتى مع اخوانى فى الخارج تمارس طقوس صلاتهم وروحى مع طيفها تسبح فى الملكوت .. جثتى تصلى فى الخارج وروحى تصلى صلاة لا يعرفونها لكننى منذ اكتشفت الحقائق رفضت الكلام كيف أبوح بالأسرار إن بحت لن أرقى لهم كم هو قاس البعد عنهم .
يا ألله كيف ننقسم دون أن نعرف فإذا عرفنا لا نعرف متى أوان البوح وإذا بحنا نختار شكلا مبهما للتعبير .. هل أكون يا أحمد خنت الأمانة إذا قلت هذا السر .. فى اعتقادى يا أحمد أنك تعرف وهى تعرف وهم يعرفون هل أكتفى بذلك التصريح ومن يقرأ ماذا يقول هل أتهم باتهامات باطلة .
: دعهم واستمع :
وما كان يدرى ما أُجنُّ ، وما الذى
حشاىَ من السرِّ المصون أَكنَّتِ
فكشْفُ حجاب الجسم أبرز سرَّ ما
به كان مستوراً له من سريرتى
وكنتُ بسرى عنه فى خُـفيةٍ وقد
خَـفتْه لوهنٍ ، من نُحولىَ أَنَّتى
يا ألله هذا الصوت لم ينسنى لحظة .. صوت جميل رائق وما كنت أدرى ما أجن وما الذى حشاى من السر المصون أكنت .. نعم والله ما كنت أدرى يا أحمد .. التى بلا اسم كانت معى وهذا الصوت الرائق كان معى واختفت بتمام الأبيات ..
بحثت فى الحجرة .. الملاءات كما هى ملابسى خلعتها وما أدرى إنما طرت فى الكون الواسع خاليا من أوزار الدنيا اسمع الصوت القديم :
ـ يا إنسان اقترب منى فأنت من مقام القرب أقرب أخذت لك ساترا عن الخلق ، طر معى ولا تقاوم .
كنت أسمع الصوت أبحث عن ماهيته أريد أن أقترب لهيئة لكنما بلا جدوى ..
قلت : ما الجدوى هل تعود ؟..
: غيابها عن الدنيا ليس محض اختيار والعودة ليست واجبة .
قلت : ليس بى جلد .
: هل لك فى الأمر شئ .
قلت : لا .
: إذن علام الحيرة .
قلت : كانت هنا معى واختفت .
: مقدر لك العذاب .. ترى العالم ينحل فتتهم حواسك الخمس أنها لم تتح لك رؤية الأشياء الجميلة فى اكتمالها ..
لم تبسم لك مرة هذه الأشياء لم تبسم
حتى إذا تبسمت تحولت لغيرك .. تريه ما تضن به عليك
أنت لم تعش دنياك .. خلقت للوهم الجميل
رمتك من حالق
حنى توهمت فأدمنت فعشت فى توهمك تنسج عالمك وحدك .
انظـر إنها هناك فى حلتها البيضاء والعالم علـى وجه الحقيـقة غارق فى الظلمات ، ظلمات ليس لها نهاية تمتد فى أفـق من الدهشة ومسـاحات من الظل الكئيب تسبح فى الفضاء ، سنخرج عرايـا من أسمائنا فلا يعـرف أحد ونسير نحو الصراط يغمرنا العرق من هول الموقف ، كل واحد يقـول اللهم نفسى ... نفسى يارب ، وهى تنادى باسمها من بين الخلائق بالصوت المنذر القديم تهب واقفـة على رؤوسنا ... والأشهاد مغمورون بالرعب تتقدم الجمع الكثيف تخطو بهـم على عتبات الصراط حولها تسعة عشر طيفا أبيض ينضمون لأطياف عديدة ولاحصر .
قلت : لله الأمر من قبل ومن بعد .
: هو كذلك ..
قلت : هو كذلك ..
حامت فوق رأسى الأطياف فردت أجنحتها البيضاء وحملننى إليها .. قبلتنى على جبينى وصعدت بى إلى الصراط .. كان الصراط يتسع كلما توغلنا فيه خف عرق جسدى والنار تحتى بردا وسلاما ..
***
[ هل غفوتَ قليلا .. كان لابد من الدفن بطريقتهم .. لا يهم .. فالتراب هو التراب وسواء دفنت هنا أم هناك أو فى أى مكان كل ذلك سواء عندك .. المهم أن تذهب الجثة بعيدا عن عينك .. إن تواجدها أمام عينك دون روح لشئ سخيف يلخص تفاهة الحياة .. كلكم متفقون على ذلك بدون سابق اتفاق .. ]
كيف أتحمل هذا الصوت البغيض الذى ينتابنى فى تلك اللحظة .. فى تلك اللحظة لم يكن مهما إلا راوية كيف هى وكيف تتحمل ..الحاج أحمد يهمس فى أذن عطية ..
هكذا حضر اللحاد .. وفى إناء صغير مملوء بمياه دافئة دخل محمد الحجرة وأخذ التى بلا اسم وضعها بين يدى اللحاد .. فك اللفافة وغمرها فى الماء الدافئ وتمت طقوس الغسل من الرأس إلى أظافر القدمين مع تغطية ما بين الفخذين كأنثى مكتملة .. وتمت الصلاة ..
سرنا فى شروق الشمس .. اللحاد يحمل التى بلا اسم فى العباءة البيضاء .. الحاج أحمد يتمتم بكلمات .. عطية متأثرا يسير وراءنا .. محمد أحضر الحمارة وأركب ابنيه عبد الله وعمر ومعهما معدات الحفر .. لم تكن المدافن القديمة تتسع لأحد آخر أو بمعنى أصح اختاروا المدافن البعيدة حتى لا نخترق بيوت بنى عامر فى لحظة إفاقة الجميع من النوم الطويل ولأن مدافن العائلة بها ميت منذ أسبوع .. الطريق طويل إلى المدافن الجديدة بين الزراعات عمال مزرعة محمد خضر ينظرون من بعيد إلينا .. اللحاد يحمل التى بلا اسم فى حجره .. والعمال يعرفون بالتأكيد ما يحمله .. ومن البعيد صوت راوية يأتى تترنم بأبيات الإمام :
أسافرُ عن عـلم اليقـين لعينهِ
إلى حقِّهِ ، حيث الحقيقـةُ رحلتى
وأنشُدُنِى عنى لأُرشِدَنى ، على
لسانى إلى مسْتَرْشدى عند نشْدتى
وأسأَلُنِى رفعى الحجاب بكشْفى
النقاب ، وبى كانت إلىَّ وسيلتى
قولى يا راوية وأنشدينى .. وارفعى النقاب عن عينى لأبصرنى من جديد ..
وأنـتَ على ما أنـتَ عنى نازحٌ
وليـس الـثريَّـا للثرى بقريـبة
فطوْرك قد بُلّغتهُ ، وبلغْت فوق
طــوْرك ، حيثُ النفسُ لـم تـك ظنت
وحَدَّك هـذا عنده قـفْ ، فعنه لو
تقدمتَ شيـئاً لاحـترقْتَ بجَذوَة
كان شعر الإمام منسابا على لسانها .. كانت تشدو بأصعب الأبيات فى عشق شديد ينم عن ذوق رفيع تخرج الحروف متلألئة فى الفضاء تنصب فى قلبى كشلال هادر ..
***
ضوء النهار يجلب الصحو بعد السكر.. وقلة النوم تجلب الصداع لكن شعر الإمام أزال أثرهما .. تلاشت آخر قطرات الندى بفعل صباح حار والقرافة ما كانت بعيدة حتى نتداول الجثة فيما بيننا ..
بضع حارات جانبية نتجاوزها إلى المقابر ..
ـ السلام عليكم دار قوم آمنين أنتم السابقون ونحن بكم إن شاء الله لاحقون .. تحشرج صوت الحاج أحمد وهو يكلم الموتى بصوته الخفيض .. كلنا ننسل بين حين وآخر بالسلام فيفوتنا أطراف حديث اللحاد فنصل أطراف الحديث بحديث آخر .. وصوت الشيخ ياسين ينساب بين ذرات الهواء فيخترق الأذن ..
وصلنا إلى الجبانات أمام المزرعة تماما أنزلت الفؤوس العالقة على الحمارة التى يركبها عبد الله .. عبد الله يدرك مدى الحزن والصمت أثناء مسيرتنا لذا تجنب ثرثرته الدائمة وطوال المسافة لم ينطق بكلام كعادته .. ألقينا السلام على عمال المزرعة .. عمر ينزل من على الحمارة وعبد الله يهبط بلا حذر .. الحاج أحمد يعاين المكان .. طلمبة مياه تحتها حوض وحولها ثلاث شجرات توت مورقة لم تتجاوز العامين .. تفرقوا غير بعيدين وجمعوا ما يقارب العشرين حجرا من الطوب اللبن من أثر هدم قديم لمقبرة قديمة وصفائح صدئة .. عطية يحضر صفيحة من الصفائح ويملأها من كوم رمل أصفر على طرف المقابر الواسعة لزوم البناء الحديث والدفن ووسادة لراحة الميت ..
سافرت يا راوية عن علم اليقين وتغربت فى البلاد الواسعة على سواى والضيقة فى وجهى .. وأنا غريب فى بلادى يا راوية وكيف لغريب فى بلاده أن يكون مكرما فى بلاد الآخرين .. عملت بكل الأعمال كى أنجز ما أريد فى العمر القصير .. واحترقت يا راوية فى بلاد الله تحت شمس الله دون أن أحقق شيئا ذا قيمة .. وكيف يا راوية يعيش منزوع الروح ويعمل وهو مكسور النفس والجناح ..
سافرت يا راوية إلى بلاد أعلمهم فدم وأحزمهم وغد ..
كلبهم يا راوية مكرم وغريبهم مشرد ..
***
وليـس بكاف فى هواك محبـة
إلا إذا من تحت عرشـى مـرت
أنا المبتدَى فى الحب!ِ والمنتهَى أنا
الإمامُ ولى فى الحب سـرُّ الشهادةِ
ولى فى اجتِهادى ما أرانى مُجانباً
شريعـةَ من يهوِى لغيرِ شـريعتى
الصوت يشبه الصوت والشعر يشبه شعر الإمام .
قلت : من أين لك هذا النظام وهذا الصوت الجميل .
قالت : من الحلم الجميل ورثته ولى فيه فنون ..
تناولت كأسها وقالت : ومن أنت ..
قلت : ليس لى اسم ..
قالت : أنا أسميك .. اسميك أحمد .. هل تدرى يا أحمد ما الحلم ؟!
قلت ولم أبد أى اعتراض فأنا أحب هذا الاسم :
الحلم هو الحقيقة وغير ذلك هراء .
قالت وهى تصب كأسا آخر وتناوله لى : اشرب يا أحمد .. أنت تقترب من الحقيقة .
قلت : وما الحقيقة ؟!
قالت : الحقيقة أن تعلم وأنت لا تعلم وتظل لا تعلم وأنت تعلم .. فلا تستطيع أن تبوح وتتكلم وأنت تعلم .. ولا تستطيع أن تبوح وتتكلم وأنت لا تعلم .
قلت : ضرنى الكتمان وضرنى العلم .
قالت بعدما أفرغت كأسى إلا القليل : هات كأسك .
أعطيتها كأسى فشربت ما تبقى فى قعره وقالت : أنشدنى شعر الإمام حتى أتعلم ..
قلت : هل تعرفين شعر الإمام .
قالت : نعم وأعرفك .
قلت : من الحلم أيضا ؟!
قالت : نعم رأيتك فى الحلم .. كما لو كنا الآن .. كان لى من العمر عشر سنوات ربيت فى بيوت القرائين .. ومن قرية إلى قرية ومدينة إثر مدينة حتى وصلت إلى هنا .. كنت أعلم أنك ستجئ فانتظرتك .. كنت فى هذه السن الصغيرة أسمع شعر الإمام فأتعلم .
قلت : الأبيات التى سمعتها .. ؟
قالت : هى لك .. سمعتها منك فى الحلم ..
قلت : الحلم شريعتى .. فاحفظى عنى .. واجعلينى فى وضوئك ..
وفى العالمِ المنظورِ صرتُ أنا الصدَى
أنا الحُـلُمُ استعـصى بأىِّ بصـيرةِ
سيَشْهَـدُ من بالأرض نـارَ تـأوهٍ
بها ورقُ الأشجارِ يتـلو قصيـدتى
ولكنهُم فى أسر غـيرى لطالــمَا
شدوتُ وكان الشدو يحكى حقيقتِى
جاء صاحب الحان وقال بعدما تفرس فى وجهى : أنت أحمد ؟؟
قلت بغير تردد : نعم .. نعم أنا أحمد ومحمود ومحمد وطه .. أنا ما شئت أنا .. أنا صاحب الأسماء أنا الغريب المهان ..
قال : سنتدبر أمرك .
قلت : اغسلونى ..
قالت : منك الكلام ومنا السمع والطاعة ..
أدخلتنى فى حجرة زرقاء كنت أسمع الصوت القديم ويد تربت على كتفى ولا أراها :
يا إنسان ولجت الغامض المتاح تشبه بى ولن تندم فترى بأذنك وتسمع بعينيك ..
تضاءل الحان وانكسرت الكؤوس وتلاشت غيمة على عينى فوجدتنى بينهم ..
***
دمى النافر يا سيدى الإمام وحزنى الشديد جعلانى بوطء قدميك على قلبى مغيبا عن العالم الظاهر ومفنيا ذاتى فى عالمك حاضرا كل الحضور وشاهدا كل المشاهد ..
آه يا شيخ ياسين عندما أسمعك تشدوا بأبيات الإمام لكأن عالمه كأس وأنا مذاب فيه .. زدنى ياشيخ ياسين .. زدنى بفرط الحب فأنا أحب .. زدنى بفرط الحب فأنا المحب الذى تحير من الموت ومن الحياة .. زدنى علنى أخرج من مقام الرهبة ..
دمى نافر يا سيدى الإمام .. دمى نازف فى بلادى .. لم تعطنى بلادى إلا الخوف والوجع ..
من أين أبدأ وإلى أين أنتهى .. هل يمكن لى أن ألتقط أنفاسى فى وسط المتاهة .. من أين وإلى أين .. قلبى حزين يا سيدى من شدة الحب .. هنا قطعة منى وهناك قطعة أخرى ..
آه يا شيخ ياسين لماذا فى هذه اللحظة بالذات تشدو بتلك الأبيات القاسية ..
كنت أهذى وهى بين يدى وشعرها المنسدل اللامرئى ملء فمى ورائحتها تلك الرائحة المميزة تملؤنى بقوة التحمل .. لا أدرى متى تناولتها وضعتها فى أحضانى .. يا لقسوة تلك الرائحة تجعلك طائرا خفيفا يعلو فى فضاء واسع المجال ..
أنا صابر على الابتلاء بقدر ما أنا مؤمن أن هناك غد أفضل من الأمس واليوم وإلا فما جدوى الورق الأبيض ..
ـ الآن تنتصب الأعمال من الصغر إلى الكبر ..
أرى من خلال نوافذ بيضاء السحب الداكنة والشوارع أصبحت خالية فجأة ، بضع سيارات تمضى مسرعة تحتمى من عاصفة ، دوامة من غبار كثيف آتية من بعيد تترنح ، تتلون الأشجار باللون الداكن والغبار يأتى مسرعا تمتصنى دوامة الغبار بسرعة فأجدنى طفلا صغيرا يلهو مع الطين .. وكلاب بملامح شوهها وحش خرافى فرضها المشهد بقوة .. أثر الزمن الذى لا يبقى على الأشياء كما هى ..
من آخر الشارع الباهت اللون من أثر النهار الذى لم يغب بعد يأتى كلبى الصغير الأبيض ..
أضفى الغروب عليه مسحة من الرهبة والتصق بى .. هجموا عليه ما استطعت الدفاع عنه مزقوه وهو يصرخ .. تأخذنى دائرة الكابوس بعيدا عنه وهو يصرخ .. كل كلب تحول إلى وحش .. تفتت الطين بين يدى .. اتحدوا فى وحش واحد وتضيق دائرة الكابوس على .. يد تخنقنى يا راوية انغرست عظامها فى عنقى بقسوة .
***
[ هل يمكن أن تهبَ تلك الأرض بعض دمك ودمك مفرق فى البلاد .. هذه الأرض التى عيشتك القهر وغربتك فى دنيا الجبابرة .. هذه الأرض ما جعلتك تعش كريما عليها هى فعلت بك ما لم تفعله أنثى .. فما جدوى أرض لا تعطينا .. أرض تأخذ منا أبناءنا .. لو شئت ما دفنتها أبدا ولحملتها معكَ أينما سرت بعباءتها البيضاء .. وابتعدت عن تلك الأرض وهذى المقابر .. ذلك المكان المجهول من الدنيا إذ كيف نصير من تراب وكيف نسير إلى التراب بأرض غريبة أو غير غريبة .. ]
هل كنت يا أحمد أكره هذه الأرض لتلك الدرجة القاسية فأضن عليها بدمى .. لا والله ..
***
عالم آخر ..
هنا لا نتجاوز الفاصل بينهما إلا شذرات منبثة هنا وهناك فى كتب التراث والتفسير .. أين هذا الجدار الفاصل ما بين الدنيا والآخرة كى ألجه إلى الداخل .. كى أعرف كيف نحاسب على أعمالنا .. وما مصير الجبابرة .. كيف تسير الأمور فى هذا العالم المظلم بين الجدران .. هل هو عالم مظلم ؟ لا أحد يجيب فى هذا الخلاء الواسع .. مئات المقابر المتلاصقة وأزقات وحوار وآلاف الموتى ولا أحد يجيب إلا مشاعرى المضطربة ورعدة تسرى فى جسدى ..
مئات الشواهد وقباب المقابر القديمة فى الوسط تعكس نسقا مرئيا متوازيا فى تصميم يتكرر كقطعة من نسيج رصعت بحيوانات متقابلة .. إلا أن المقابر حديثة البناء على حافة الجبانات تخترق هذا النسق اختراقا شاذا مما يحيل المشهد إلى تشويه متعمد فى التوازن الشائع لتلك القباب .. وعلى كل قبر آيات قرآنية بخطوط تتحرك حركات سريعة تخترق الفراغ وتخلق نغما حادا قاطعا وملخصا مغزى الوجود فى سماء تنحنى بحنان على الأرض وحقول بهيجة المنظر كيف تنساب الحياة فى هذا المكان وكيف لا تستوعب هذه المظاهر مشاعرنا .. تجمعت قوالب الطوب اللبن بهمة عبد الله وعمر .. الحاج أحمد يدير طلمبة المياه فتتجمع فى المسقى .. محمد يحضر التراب ومراد يحضر المياه .. انشغل عطية وممدوح بحفر قبر صغير على الحافة اليمنى بجوار جدار المقبرة حسب إرشاد اللحاد فى أول حارة مؤدية إلى داخل المقابر من الناحية الشرقية .. كنت أظن أنهم سيفتحون قبرا حيث كل المقابر حديثة البناء إلا القليل فلا احتياج لفتح مقبرة .. كان اللحاد يلقى بأوامره وكانوا يسارعون فى التنفيذ بدقة ومن آن لآخر يتناول الفأس منهما ويعمق فى الحفرة .. الولدان لا يدركان لكنهما انهمكا فى المساعدة .. [ احترام تام للموتى أشد من احترامنا للأحياء ] .. كانت المقبرة مغلقة تابعة للعائلة على ما يبدو..
كل ذلك يا راوية يتم دون أن تعلمى وهمى فيك يا راوية يمنعنى من الصياح بأعلى صوتى لا .. ومن التفكير فى الموتى وفى قطعة منا تنسلخ إلى التراب ..
***
أقسى ما يسمعه المرء صراخ امرأة طوال الليل ، فما بالك يا أحمد صراخ نساء كثيرات طوال الليل والنهار .. لا جدوى من أن تسد أذنيك فالأصوات تعلو أكثر بانسداد الأذنين .. إنها كالرصاصات كاتمة الصوت تقتلك أن اخترقت جسمك فلا يحس بالألم إلا أنت ..
صراخ النسوة شئ مهين .. ألهذا تحب النسوة أبناءهن .. فيكن أكثر حنانا وعطفا منا على أبنائنا .. أيمكن أن يكون الألم القاسى سبب من أسباب الرقة فى المرأة ..
كان الصراخ يعلو ويعلو ..
أكثر من عشرين امرأة يلدن فى حجرة واحدة .. زحام من الأقرباء والأزواج فى الخارج وكائنات لامرئية تتدافع إلى الداخل وأطباء وطبيبات فى الحجرة .. دموع وابتهالات وأدعية وأوراد .. حزن وفرح ولغط .. الأكثر من هذا أنك تميز كل صوت على حدة وكل انفعال .. والأكثر من هذا احتشاد العالم على هذا النحو أمر فوق طاقة البشر ..
رجل ما فى غرفة ما بالدور الرابع يتهاوى على كرسيه المتحرك .. غرفة العمليات مشغولة برجل سقط من الدور السابع .. عجوز تحت الممر فى المدينة تصعد روحها لأعلى ..
وبوسع المرء أن يتساءل فى وسط الصرخات كيف تتحمل الروح كل ذلك الألم كيف لصراخ عشرين امرأة فى حجرة واحدة لا يهد العالم .. كشك الولادة أو غرفة الولادة .. المستشفى الجامعى .. لايهم المهم عندما تدافعت الكائنات اندفعت ودخلت الحجرة فرأيت عشرين امرأة يلدن دفعة واحدة ..
الراوية فى الركن الأيمن تستغيث بقراءة القرآن .. صوتها يعلو على الصرخات وتخلط ما بين شعر الإمام والقراءة بانسجام تام بينهما ..
تاهت الصرخات فى التلاوة واختلطت .. تلاوات متعددة ترددها الكائنات .. لا فائدة رغم محاولات الأطباء .. التى بلا اسم فى حوض ضيق .. يجب على الأطباء سرعة التصرف ..
هدأت الصرخات .. أفراح لكل طفل وليد مرتسمة على وجه كل أم رغم آلامهن .. تسعة عشر امرأة ولدن فتلقفت المولودات الكائنات .. المرأة العجوز تحت الممر فى المدينة تهبط روحها من أعلى .. كل مولود كتبوا على جبهته بالضوء الأبيض اسمه كل كائن تكفل بمولود وأذن فى أذنه الآذان وكان آذان العشاء فى الخارج .. كل امرأة غادرت الغرفة .. التسعة عشر امرأة غادرن الغرفة .. الكائنات تنظر إلى الراوية تتجمع حولها .. كل كائن يتلو آيات القرآن .. الآن غرفة العمليات بالدور الرابع خالية ..
لماذا كل تلك المحاولات فى الحوض الضيق .. أخرجتنى إحدى الطبيبات بغضب .. خرجت ساهما .. أنظر التسعة عشر امرأة بأطفالهن يودعننى بالدعاء .. المواليد كلهن إناث .. ملائكة صغار .. كل مولود فى لفافة من ثياب أمه .. ودعتنى الكائنات إلا كائن واحد ..
الممرضات يتحركن بسرعة .. عربة جر المرضى إلى الداخل .. وضعوا الراوية على العربة إلى المصعد فى الدور الرابع إلى غرفة العمليات .. صعد الكائن الواحد مع راوية ..
خرجت للهواء الطلق .. إخوتى فى الخارج ينتظرون تبينت الحاج أحمد نسيت ولم أشعر أنه معى ..
الهواء فى الخارج أكثر كثافة .. عرقى يزداد تحت ملابسى الخفيفة القلق واضح على الوجوه .. الأخت الكبرى مع راوية وبقية الأخوات معى فى الخارج وتمتماتهم لا تكف .. حراس الأمن لا يسمحون بتواجد الرجال فى المبنى بعد هذه الساعة وبغطرسة مقبولة يتوافدون على الحجرات مخرجين الرجال .. عائلات بأكملها افترشت الأرض فى الخارج ..
صرخات صرخات .. صرخات تدوى فى أذنى .. صوتها وحيدا يرج الكون .. كانت آلة الأحشاء تعمل فى أحشائى أنا .. كنت أصرخ ولا يسمعنى أحد .. تكسرت عظام رأسى وفقرات عنقى .. يعاودنى الكابوس القديم .. أشهق شهقات الموت لكنه لا يأتى .. عشرون وليدة متن فى تلك اللحظة فى أحضان أمهاتهن .. عشرون كائنا تفرقن فى الجهات الست .. العالم فى رأسى ينهار ..
صوت ما أسمعه يردد :
[ لو استطعت أن تغلق الباب افعل .. ولو استطعت ان تبنى حائطا بينك وبين هذا العالم افعل .. ما جدوى أن تعيش بلا روح وبلا جسد متوائمان ومؤتلفان .. أنت تحلم بكيفية الصعود والرجوع من حيث أتيت .. هل يمكن أن تعود إلى رحم أمك .. هذا المستحيل الذى ينتابك فى فترات الصحو وفى الهذيان .. وبالرغم من العمر الذى وصلت إليه ما تعلمت شيئا .. تأمل هؤلاء الناس لماذا يفترشون الأرض ولماذا كتب عليهم الفناء .. هم ينتظرون مواليد جديدة وأعباء جديدة ويتناسلون حبا مع كراهية .. ويتجمعون ويتفرقون إلى لا شئ بعد حياة مديدة أو قصيرة .. رحل من رحل وعاش من عاش وتساوت الأمور.. مؤكد أن كل فهمك لتلك الأمور كنثار الدقيق فى يوم عاصف .. جمعت ما تبقى من الذكريات وكومتها أمام عينيك فلم تجد ما تكتبه أين ذهبت هذه الذكريات ؟؟
كوم من الذكريات أمام عينيك ولا تراه !! ذاكرة خائنة لا تسعف الظمآن .. ]
كل ما يهم الآن أن حياة راوية فى خطر .. ما الذى يلجئ الأطباء إلى اتخاذ هذا القرار والإصرار عليه .. صعب اتخاذ هذا القرار حرمان روح حية من الحياة للإبقاء على روح حية .. ما شاورنى الأطباء واتخذوا القرار .. ليس أنا من اتخذه إنما الموقف والمصير هى أو هى كلا القرارين صعب .. فسامحى يا راوية وسامحى يالتى بلا اسم .. أنت تعرفين أن الصمت يقتلنى ألف مرة فلماذا أتكلم الآن .
***
وبجوار المزرعة فى المقابر نبتت زهرة صغيرة .. فى استطالة العنقاء ترتفع بجوار المقبرة وتتفرع فى ثبات تتابعها أصوات وتراتيل..
وجاء طائر وقف فى وسط الزهرة فارتفعنا فى الهواء إلى أن حازيناه .. وقفنا بجانبه فتلاشى ضوء النهار وانبلج قمر وسط سحب نورانية تشع بأرجوان مطفى ثم تبدل النور الباهت بنور الفضة الهادئ .. وقفنا فى ظله وكل منا كان له ظل كأننا فى الظهيرة والمشهد من أعلى فى غاية الجلال .. تنمو التراتيل وتسبح كائنات مرئية بأجنحة من ريش ودم فى الضوء الساطع ببقايا الخضرة الزرقاء .. زهرة تستوى هى وكنوز الدنيا تتفتح فى الخفاء لبرعم ينمو على حافة قدر مكتوب فى اللوح أن الدنيا نرثها نحن المتقون نحن الذين لا نريد علوا فى الأرض ولا فسادا .. كنا فى تلك اللحظة لا نزال فى الصباح .
... وبجوار المقبرة تناول الكائن الفأس .. حفر وكانت أول ضربة للأرض ثم تتالت الضربات وأخذ كل منا دوره حتى عبد الله وعمر فرحت الأرض فرحا شديدا كنت أسمعه مع كل ضربة فأس ..
سوى اللحاد الحفرة المستطيلة على مقاسها تماما وأقام جدرانها من الطوب اللبن وبطن أرضيتها بالرمال .. وتكومت فى الحارة بين المقابر كومة من التراب والطين عجنت بغلظة حتى صارت رقيقة ولينة .. سوى اللحاد جوانب الحفرة بالطين ودهكها من الداخل والخارج وصب عليه الحاج أحمد الماء ليغسل يديه ..
استقبلت القبلة وقرأت الفاتحة .. روائح البخور تغمر المكان وتتصاعد .. التى بلا اسم بين يدى أخذها منى الكائن وناولها للحاد وبيدين مدربتين لف الثوب الأبيض ووضعها فى الحفرة .. وسوى بين جوانبها الرمال ثم وضع عليها قوالب الطوب كسقف .. وسوى القبر بالأرض ثم وضع قالب من الطوب اللبن نائما فقام القالب وحده فتركه اللحاد على حاله .
***
فى صحوة الطائر الأبيض كل شئ يتغير ويتحول كان بين كفى وعندما أفاق أفقت فرأيتنى بجوار المقابر زائرا فأقل ما يجب على المرء أن يحفظ حق موتاه فيزورهم من آن لآخر .. إنهم سيفرحون بمجيئه وسيحدثونه عن أحوالهم ..
لكأن الأموات هبوا واقفين كل بجوار مقبرته .. وكائنات فرحة تطلعت من كل الجهات تنظرنى على شوق وها أنا عدت وفاءا وذكرى .. تهدمت بعض المقابر وبنيت أخريات والشجيرات الثلاثة تفرعن واشتبكن وظللن مقبرتين ونصف .
قلت : السلام عليكم .
رفرف الطائر الأبيض ورد صوت فى لهجة الواثق :
ـ بعد عام ؟! .. نحن بانتظارك .. عدت إلى المكان ..
قلت : عدت ..
قالوا : أهلا ...
***
" لولاى ما كنت يا ابن التراب فتأمل كل من سبقوك إنهم من الجدث سينسلون .. وأنت يا ابن التراب تتفرج فخذ لك موعظة وعبرة .. فالحياة الطويلة قصيرة .. فلم تكن لغيرك أبد الآبدين أبدا ولن تكون لو عمرت عمر نوح .. فكل ما ستراه سيحدث فتأمل ترى الوجود عدما فارغا ماذا جنى الإنسان فى حياته الطويلة القصيرة .. هذا التراب الذى أنت منه سيعود إلىّ وتبقى مجردا إلا من أعمالك .. إن شئت من الآن ستَرتْكَ فاعمل جاهدا كى لا تُفضح فى اليوم العصيب "
.. هكذا قال طائر على شجرة وأنا مستند إلى القبر بعد غيبة عام كنت فيها تائها فى الدنيا لا أعرف مستقرا من فرط الصدمة .. تلك محنة يا أحمد لا يعرفها إلا من مر بها واكتوى بنارها وربما مرت سحب لا تعد على الدنيا وجرت مياه كثيرة فى النهر لكننى ما شربت منه وكيف أشرب أو أرتوى وكلنا إلى عدم ..
فى ذلك العام يا أحمد جلست صامتا أمام نهر تتقافز أسماكه أمام عينى فى بهجة يلازمنى البكاء فكأن عشرات السنين مضت ..
ما كان بالدمع ولا بالدم فقط بل كان عصارة ألم لا يجدى معها خروج صوت كى يكفكف دمعة لم يرها أحد وما زلت أبكى .. وحيد حتى فى الوحدة أهرب إلى بحرى وأشتكى وحدتى يجاوبنى صمته فأهرب بعيدا ثم أحن إلى المكان ..؟ أجلس إليه وأستعذب الصمت وأبكى .. تخدد ما بين عينى بخيطين أسودين .. شقين غائرين ما رأى أحد .. وما عرف سر حزنى وبكائى أحد .. أخفيت سرى وراء سبعة حجب حتى عمى على .. أنا أب للبكاء من دمعى فر البكاؤون إلى حيث تراهم بعيدين عن كل ترف نادمين على لاشئ فعلوه ، تائبين من ذنوب غيرهم وما ارتكبوا أى ذنب .. لكنه هو البكاء إذا تمكن منك لا يبرحك أبد الدهر .. أقول لك هنا الألم بكل تفاصيله .. فرخ ينقر فى طين قلبك رخ أسود فى ليل غاب قمره ، نجم سرمدى مطفأ الأشعة جناحاه سيفان فى نن عينيك ..
استوى البكاء هيئة ..
قال لى : ما مات مات فلما لا تحمل عصاك معى وترحل من هذا البحر لأرض واسعة أكثر بياضا من شمس النهار فى الحلم .. افتح يدك تأملها وقال متعجبا الآن عرفت :
ـ كيف تهرب وهذى خطوط يدك كلها تتجه إلى هذا المكان تتجمع فى هذا النهر .
ـ هل تقرأ خطوط الكف .
ـ نعم تلك مفاتيح لغة شفرتها ليست واضحة لى الآن افتح يديك لأرى..
فتحت يدى رفعها فى اتجاه الشمال فى مستوى النظر .. وقال : ليس سواه فى كفيك .. نهر بازخ فروعه تتجه شمالا قال وأمعن النظر : سأفرض أن هذا خط العمر الغائر فى الكف اليمنى من هنا يبدأ وإلى هنا ينتهى ذاك هو البدء وذاك هو المنتهى ..
قلت مشيرا بيدى اليسرى : هذا !؟
ما إن أشرت حتى انتفض وضرب يسراى وآلمها وقال : احذر .. ها هو الخط من هنا البدء من هذه العقدة ملتقى الخطوط من الخط الغائر إلى خطوط أخف تتجه شمالا قليلا .. هاهى نقطة أخرى ومنها إلى خط آخر بتفرعاته إلى الوسطى هل تفهم ؟! ومثلها فى اليد اليسرى..
كان بصرى قد أغشى من تدقيق النظر وتابع إشارته بسبابته ثم انحنى فوق التراب وقبض قبضة .. فقلت كالمخدر السكران : أصابنى الارتباك ..
قال : استفت قلبك .. افتح يدك ..
هل تعلم ما بيدك قالها بعدما قبض قبضة من التراب المندى ووضعها بيدى ورفعها فى الهواء ..
ـ بيدى حفنة من طين الأرض أخذتُها .. هكذا قلت ..
قال : لا .. بيدك بلاد لا حصر لها وممالك بملوك كل ملك يحكم على ألف ألف من هنا إلى هناك ومفاتيح تثقل عن حملها الجان وأجناد وأعوان ، وطيور مختلفات وحيوانات ووحوش وأشجار خضراء كل شجرة تظلل الألف وبساتين من كل ما حوت الأرض وعناقيد دانية يكفى أن تفتح فمك فيتسرب العنقود إليه ، وبيدك بحار لا شواطئ لها وأنهار تمتد إلى آخر حدود الدنيا وأسماك ملونات ، وغير ملونات ، ووديان بها الجنات الخالدات .. بيدك شمس كشمسنا ، وقمر كقمرنا ونجوم كنجومنا ، وأرض كأرضنا ، وسماء كسمائنا وخلق لا يعلم عددهم إلا الله مثلنا سبحان من صور من هنا إلى هناك . نظرت حيث أشار .. فامتد بصرى حول الأرض ومر فوق البحار ، وارتفع فوق الجبال ، ونزل فى الوديان ، وقطع مدنا وقرى على عجل والتقى بى وأنا غير مصدق .. أطلق يدى للهواء .. انفرجت أصابعى الخمس فإذا كل ما قاله صحيح .
قال : من فرغ لأجله فلأجله ومن سعى إلى رزقه رزق من غير مشقة ، ومن عاش سيموت عاجلا أو آجلا ، فلا تبك بعد الآن .. وتركنى البكاء ومضى

صلاح عبد العزيز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى