عبد الزهرة عمارة - العروسة

يوم الخميس .....
الأول من شهر نيسان ...
شارع الجامعة في حي الكرادة يعيش كرنفال مهيب..... خمسة عشرة عربة تجرها الخيول البيضاء في زفاف مهيب وبتنسيق مسبق .... الواحدة تلو الأخرى ....
عربة العروسة في المقدمة تلك ستة عشرة عربة بالتمام والكمال .....
تميزت عربة العروسة في كل شيء ....
تناثرت عليها الألوان بفوضى مقصودة ... كتب عليها وبالخط الكوفي العريض الأخضر ...
*زواج مبروك ...
البسوا الحصان لباسا يليق بالحدث وأمطروه بالألوان الزاهية البراقة ..
كما لبس الحوذي زينة الملابس الملونة وطربوشه يقف علما على رأسه ويديه تلعبان بحبل من الجلد وسوط ينزل على الحصان كالصاعقة ولسانه يطلق كلمات غير مفهومة ربما يفهمها خليله ورفيق دربه الحصان .
وجوه المشاركين في الاحتفال تطالعك في العربات ضاحكة فرحة منبسطة الى أخر الانبساط ...
الكل هنا فرحين ....
أحدهم يقول على سبيل المداعبة
ــ فكرة جيدة ... طريقة مبتكرة ... عربات خيول بدلا من السيارات
أخر يعقب
ــ موضة جديدة ربما تصبح هي السائدة مستقبلا
يعلق أخر مازحا
ــ زواج عتريس من فؤاده باطل ...
تدافعت العربات والخيول تصهل ... صفقات الأيدي تزداد عنفا وقوة ...
العرق يتفصد من الأجساد الممتلئة التي سخنتها مدفأة الكرنفال ....
أحمرت وجوه النسوة وازدادت لمعانا .... تراكض الصبية فرحين مطبلين وراء الخيول ...
العرس ...
زغاريد النسوة القريبات والغريبات يصدح عاليا ...أصوات الأطفال تعلو وتهبط تارة ....
بنات في عمر الشباب وأغنية عراقية للمطربة مائدة نزهت تنساب من بين الأفواه ....
* الليلة حنتهم وبالبصرة زفتهم *
وتردد البنات الأخريات مقطعها الثاني
* البصرة غدت جنة *
الكل في واد والعروسان في واد أخر ... الابتسامة تطوف على شفتي العروس .. النظرات الحالمة الباسمة تكاد لا تخلو من معنى ...
قال العريس مؤكدا
ـ جاء اليوم الذي كنت أتمناه تحقيق حلمي وأنا بجنبك يا عزيزتي
أطرقت رأسها خجلا وبابتسامة خفيفة قالت
ـ وأنا أيضا
تابع قائلا
ـ لا تعرفين مدى حبي لك واشتياقي لهذا اليوم الذي جمعنا فيه سوية ..صدقيني لم أكن مغاليا ان قلت انه أجمل يوم في حياتي كلها
لم تجبه ربما خجلا ...
توقف قليلا ثم تابع
ـ سأوفر لك ان شاء الله كل ما يسعدك يا حياتي
وبخبث استمر قائلا
ـ وهل عندي شيء غيرك بعد الآن أغلى منك أنت الحديقة وأنا الفلاح
انفرجت شفتيها عن ابتسامة عريضة وعلامة الرضا والطمأنينة بادية على عينيها العسليتين ووجها الملائكي الطفو لي وبادرته قائلة
ـ سأجعل لك البيت وردا والجو عطرا ...سأخدمك برموش عيني وأكون مخلصة لك طول ما حييت
ارتاح لكلماتها التي نزلت على قلبه كقطع من الثلج في يوم قائظ
تجلد واندفع قائلا
ـ شكرا على هذه المشاعر الجياشة ... عهدي بك هكذا ثقي يا عزيزتي سأشتري لك بيتا كبيرا على ضفاف دجلة وفيه خدم سأجعل كل غرفة فيه تختلف عن الأخرى في التصميم و في الأثاث حبيبتي أحب ان أراك وأنت ملكة على هذا القصر.. أميرة في هذا البيت ....
سمع الحوذي بعض هذه الكلمات فرفع السوط الى الأعلى وضرب به الحصان بقوة كمن يقول له كفى كذبا وخداعا على هذه المسكينة ...
استمر رتل الزفاف هادئا في المسير وانعطف يسارا في شار ع أبي نؤاس حيث الحانات والبارات والملاهي... لوح رجال الخمر بزجاجات البيرة احتفاء بموكب العرس صائحين بأصوات شتى وكلمات مؤدبة وغير مؤدبة ....
تعالت الزغاريد وصدحت الحناجر بأنغام لمطربات من الزمن الجميل ....
خرجت كلمات من هنا ومن هناك تدل على إن يوم الزفاف كل شيء فيه مباح ...
انتهى الموكب من شارع أبي نؤاس وعرج الى شارع السعدون...
تشجع الزوج ليقول لها مؤكدا
ــ سأحقق كل ما تحلمين به ...لا تستغربي قلبي مولع بك حتى العبادة ...سأصلي الى الله صلاة كثيرة لتحقيق الهدف ...
أبدت العروسة ارتياحها من كلمات الإطراء التي تفوح منها معاني الحب والإخلاص وتتصاعد في أكمامها نفحات الود والحنان ..
اطمأنت إليه أكثر فأكثر ...أطمأنت الى هذا الزوج الذي بث لها حياتها وعاد لها كيانها ..
أيقنت ان كلماته عسل نابعة من وجدان حقيقي وزوج مخلص وشريف كما يبدو .
سرحت في أحلام كلماته الوردية وعاشت في عالم أخر سيطل بربيعه عليها عما قريب كما تتصور ولا تعرف ماذا يخبئ لها الزمن من عثرات .
استمر العريس على هذا المنوال وبهذه الكلمات المعسولة التي يرسلها الى العروسة التي غرقت فــــــــي بحر من السعادة والربيع الدائم ....
لا زال العريسان هكذا ولا زال الأقرباء والمدعوون هكذا في صراخ وصياح وغناء ولا زال الحوذي يضرب بأخماس وأسداس بسوطه الأحمر على ظهر الحصان ...
ولا زال شارع السعدون يكتظ بالناس ...ولا زال الموكب في مسير وطرب ...
وفجأة التوت قدم الحصان وتهاوى على الأرض وسرعان ما انقلبت العربة وأي عربة ..عربة العروسين....
وفي المستشفى كانت العروس وقد فقدت احدي عيناها على اثر ضربة قوية جاءت في دماغها .
اما العريس فلم يصب بأذى...
نظر العريس الى عروسته مليا ولم يقل شيء .. أدار ظهره وغادر المستشفى .
وفي اليوم الثاني أرسل الى عروسه في المستشفى ورقة كتب فيها
* لا يصح ان ارتبــــــط بامرأة عوراء ... أنت طالق *
هزت العروسة رأسها وقالت
ــ الحمد لله ... لقد سقط من أول اختبار.


عبد الزهرة عمارة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى