عبد الزهرة عمارة - الرصيف

مالت الشمس قليلا ...
نسمة الصيف تهب هادئة ... تموز في بداية ايامه ..محطة قطار الكرخ في بغداد مزدحمة بالمسافرين ... في الركن الشمالي من ساحة الانتظار توجد مصطبة خشبية خضراء جلس عليها شاب ابيض الوجه ..جميل الطلعة تجاوز عمرة الرابعة والعشرون تقريبا .التف حوله أمه وأخواته الذين جاءوا لتوديعه . امتزجت الاصوات بالألم والفرحة .. الم الفراق مؤقتا وفرح استلام الوظيفة الجديدة ...
اطلق بوق التنبيه في المحطة معلنا بدء حركة القطار ...
نهض قيس ..طبع على يد أمه قبلة وعانق اخواته وسالت دمعة صغيرة على خده الايسر .. حمل الحقيبة السوداء التي تحمل عدة اوراق من ضمنها كتاب صادر من وزارة التخطيط الذي يقضي بأمر تعينه في هيئة الموانئ العراقية في البصرة .. وبالتحديد ميناء المعقل بصفته مهندس ميكانيك .
سار متقدما خطوات نحو عربة القطار ... التفت عدة مرات ... حيا امه واخواته .. وضع قدمه على سلم العربة صاعدا ...جلس في المكان المخصص له وطالع من النافذة .. راح يرسل لهم قبلاته في الهواء ....
انطلق القطار بهدوء .. لا زال يلوح بيده .. ابتعد القطار حتى تلاشى عن انظاره كل من أخواته وامه .
اطرق راسه قليلا الى الاسفل وصدرت منه ابتسامة خفيفة هي ابتسامة
الرضا .. ودار فكره .. سيستلم الوظيفة لأول مرة .. سيمارس العمل بعد طول غياب قضاها في الدراسة والجيش .. اي سيصبح موظفا لدى الحكومة .. سيتقاضى راتبا شهريا يشتري فيه ملابس وعطور لامه واخواته .
رفع راسه الى الاعلى ونظر من النافذة .. نظر الى بعيد .. رأى الارض الخضراء الممتدة على مساحات واسعة .. رأى بساتين النخيل الكثيفة وهي تحمل رطبا اصفرا ...ورأى ..ورأى .....حتى غلبه النعاس ونام
عندما استيقظ فجرا وجد نفسه على مشارف مدينة البصرة ...
البصرة ...
مدينة الشعر والتاريخ وخزانة العرب ..... ثغر العراق الباسم ... العاصمة الشتوية للعراق ..
البصراوي الاصيل ... طيب القلب... اسمر البشرة .... مجعد الشعر... حنطي الوجه يميل إلى الاصفرار بسبب الرطوبة العالية ..
وفي اقرب فندق أخذ قيس قسط من الراحة ....
في الساعة التاسعة وصل الى هيئة الموانئ العراقية وقدم أوراقه الى مدير الإدارة ...
وبعد إجراءات روتينية تم تنسيبه الى ميناء المعقل في قسم الصيانة ..
وبعد يومان منح دار خشبي للسكن ..
بدأ قيس يمارس عمله بمهنية وإخلاص حتى أثار أعجاب مدير الصيانة على ذكائه ... والغيرة من زملاءه المهندسين ألا مهندسة واحدة سمراء غامقة ... هي غيداء خليل التي كانت تظهر الدفاع
عنه في المناقشات الجانبية ...
وكان هذا الدفاع له مبرراته طالما أحست به غيداء بأن هناك قوة غيبية لا تعرفها تجذبها نحوه ...وبالمقابل لاحظ قيس ذلك التودد لكنه لم يعر اية أهمية لها في البداية وترك الامر للزمن ..
كانت غيداء سمراء سمرة غامقة أشبه بفتيات افريقيا لكنها جميلة بتقاطيع وجهها المستدبر الصافي وانفها الصغير الجذاب وعيونها الواسعتان الكحيلتان ...وقوامها الرشيق ..و .. و...
انها جميلة تستحق النظر اليها فلا تمل ....
ومرت الأيام ...
ازادت غيداء التصاقها بقيس وشعر الأخير بأنفاسها تتقطع ..
لاحظ نظراتها تلاحقه لكن على استحياء ... وعندما كانت تجلس معه في غرفة المهندسين يلحظ تعابير وجهها تنطق بسر عجيب وكان هو بدوره يخفي هذا السر كأن يقرأ في عينيها السوداويين كلمات من الحب الصادق ...
لكنها كانت شديدة الحساسية ... فلا تستطيع أن تبوح له بسرها خوفا من أن تسمع كلام غير لائق منه لذا كانت تتجنب ذلك ...
لازال الى هذه اللحظة لا يعرف مدى هذا الشعور تجاهه .. لكنها بالمقابل تريد منه أن يقول لها شيئا يعبر عما يختلج في صدرها من شعور يغلي ... يقض مضجعها ...
واقتصرت الكلمات والابتسامات عادية مبهمة ..
وسألته يوما وهي جالسة في مطعم الميناء قائلة
ــ هل أعجبتك البصرة ؟
تـنحنح قائلا
ـــ أعجبتني البصرة وبنات البصرة
وقع هذا الكلام على قلبها باردا منعشا وسألته
ـــ وهل يعجبك اللون الأسمر ؟
وقال مؤكدا
ــ جدا ...
راحت غيداء تحلل كلامه وتوصلت الى نتيجة مفادها انه يقصدها وهذا ما نطق به لسانه ... وعاشت في حلم جميل ..
وقطع صمتها قائلا
ـــ واتزوجها حالا اذا وافقت
شعرت بالخجل فأطرقت رأسها ثم رفعت عينيها قائلة
ـــ من هي ؟
ـــ السمراء
ضحكت وقامت مودعة وانصرفت
شعر قيس بالندم على كلامه ربما أغضبها أو سبب لها الاحراج فانصرفت
وبدأ قلبه ينبض بحبها ..... لقد أحبها حبا غير عادي وهو لا يعرف ما سر هذا التحول الغريب فبالأمس كان لا يهتم بها والان صار أكثر تعلقا به
ومضى وقت ...
التحم العاشقان في حب جنوني ...
وجاء يوم ليفاجئها قائلا
ـــ هل تتزوجيني يا غيداء ؟
دب السرور في قلبها وقالت بلهجة مؤكدة
ــ هذا ما كنت انتظره ... لكن هل تعتقد ان اهلك يبدون الموافقة ؟
ــ لماذا ؟
ــ أنت تعرف . نحن متضادان في البشرة
ــ لا أريد أن اسمع هذا الهراء ... أنت انسانة قبل كل شيء وانا أخترت وانتهى الامر
ــ كما تريد
ـــ اعطي خبر لوالدك بأنني سأتقدم لطلبك يوم الجمعة عصرا
ــ لا تستعجل ... فكر بالأمر مليا واستشر اهلك
ــ لقد فكرت وقررت ...وانا سأزوركم
ـــ على كل حال ... كما تريد
ـــ لا تنس عصر يوم الجمعة
ــ حاضر
وتمت الخطوبة وعقد القران مرة واحدة ....
أصطحب قيس خطيبته غيداء مسافرا الى بغداد .
وكانت المفاجئة كبيرة وهو يقدم غيداء السمراء الغامقة الى امه التي صعقت قائلة
ــــ هل جننت ؟ ماذا أصابك يا ولد ؟
شعرت غيداء بالإهانة ولم تتحمل اللقاء القاسي فطلبت من قيس التخلي عن الموضوع وارجاعها الى البصرة ..
لكنه رفض بشدة قائلا
ــ هذه حياتي ولن اسمح لأي فرد ان يتدخل في شؤوني
قالت الام برجاء
ــ لا تكن عنيدا يا ولد
ـــ هذا مستقبلي ومن حقي ان اختار شريكة حياتي
ــ ماذا اعجبك فيها ؟
ــ كل شيء اخلاقها ... جمالها ... طباعها
ضحكت امه قائلة
ـــ أي جمال تتحدث عنه ... سوى بياض اسنانها عندما تضحك في ليل معتم
انفعل قيس من هذا الكلام الجاف...وقال
ـــ تصبحي على خير
وانصرف الى غرفة الضيوف
بقي ليلة واحدة ثم غادر الى البصرة ...
وبعد شهر تزوج بعيدا عن اهله
وثارت الأم ..
انزعج اخواته من تصرف قيس غير المسئول ...
نقلت الأم الى المستشفى من اثر الصدمة وراحت تعاني من شلل في الجانب الأيمن من جسمها ...
هرع قيس الى امه عند سماعه الخبر... بكى بمرارة عند قدميها ...
وقف في حيرة .. راح يسأل نفسه هل اطلق غيداء ارضاء لأمي ؟ لكن ما ذنب غيداء هذه المسكينة التي ارتبطت بي مصيريا ..
لقد عشق هذا اللون الأسمر الغامق بجنون وصار قطعة من روحه .
وأخيرا اهتدى الى حل ...
رفع يديه الى الاعلى ودعا الى امه بالشفاء ....ولم يطلق غيداء كونها سمراء سمرة غامقة .


عبد الزهرة عمارة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى