عبده جبير - الجر ح : مع فاصل قصير

اسمي ولاء ، لا أعرف بالضبط ما الذي سينتهي عليه يومي ، فكالعادة لا بدمن أن استيقظ ككل صباح مزفت، وأن أرشف كوب الشاي باللبن الحامض ، وأدخل في المريلة كمن يدخل السجن ،وأتدحرج علي السلالم الملطخة بالتفافة والمخاط ، وأخرج من باب البيت الذي شخبط عليه الأولاد شتائم لا يتخيلها أي لسان قذر ،لتتعثر قدمي علي العتبة المتآكلة اللعينة، ثم أخرج إلي حارة أم الملاية ،ثم منها إلي نهاية شارع المدبح الموصل إلي شارع السد المكتظ بالزبالة، حتي أصل إلي ميدان السيدة زينب حيث الضجيج لا تحتمله أذنا فيل من أفيال حديقة الحيوان ، وأنعطف إلي أول المبتديان حيث هذه التي يقولون عنها مدرسة وما هي في الحقيقة إلا وكر من أوكار البنات المحترفات لأفعال الشر بكل ألوانه المعروفة وغير المعروفة مما لا يخطر علي عقل بشر .
لكنني مشيت علي كل حال علي الرغم من الألم الذي يشوي إصبعي الكبير الوارم في قدمي الشمال ، الطريق المترب المشبع بالحفر والمطبات لا يزال طويلا أمامي ، فأنا أكره الميكروباص اللعين من شدة الزحام حيث تتلامس الأجساد العرقانة علي غير توقع ، لذا ، أفضل السير الطويل في شارع السد القذر مرورا بميدان السيدة الذي يصم ضجيجه الآذان، وعلي الرغم من الألم الذي يكاد يخنقني ، لكنني أواصل المسير .
أكره ما يكون علي نفسي أن أحضر الحصة الأولي ، لا زلت نائمة وكل ما في الأمر أن قلبي مستيقظ ، كيف لا يكون كذلك وهو الشيء الوحيد الذي لم يتوقف منذ وعيت علي الحياة ؟ لا ، لقد توقف مرة لدقائق في غيبوبتي الأولي ، عملوا لي تنفسا صناعيا عدت بعده للحياة علي غير إرادتي ، حقيقة كنت أتمني الموت ، أو الاختفاء النهائي الذي لا أعرف له اسما آخر ، مريلتي تضايقني لكن ليس في اليد حيلة ، لا أعرف لم يجبروننا علي ارتداء هذا الينوفورم السخيف كأننا في سخرة ، عمال في مصنع حديد حلوان حيث كان يعمل والدي، ما الفرق ، كل شيء يبدو مغطي بالغبار الأسود الذي يخنقني ، كل صباح أراه معلقا في المسافة بين السماء والأرض ، حتي أننا ، في هذه الناحية القذرة من العالم ، نراه كالقدر المتربص بأعناقنا المغلولة علي غير موعد .
فكرت أن أواصل السير وأهرب إلي حديقة الأورمان ، هناك علي الجانب الآخر من النيل، لأمشي علي كوبري الجامعة وأتنفس قليلا من النسائم الباردة ، لكنني لم أفعل، وواصلت السير بين أكوام الزبالة.
كم من الوقت مضي دون أن أدخل حديقة الأورمان؟ ربما منذ خناقتي الساخنة اللعينة مع ابن العاهرة ، وليد ، صاحبي السابق؟
ربما ، فأنا علي أي حال أنسي كثيرا هذه الأيام . أنسي كل شيء . كل شيء . حتي أنني مرة نسيت اسمي ، نادت علّي مدرسة الحساب فخلت أنها تنادي علي شخص آخر ، قالت : ماذا؟ هل نسيت اسمك ؟ فضج الفصل بالضحك .
كانت الحديقة ملاذي من الهم المحدق بي من كل جانب ، وأعتقد ، لكي أنقذ نفسي من هذه الأفكار الشريرة التي تراودني هذه الأيام، أن أذهب إلي هناك ، ربما بعد الحصة الثالثة ، حيث يمكنني أن أرشو عم علي البواب بربع جنيه، ليتركني أزوغ مبكرا ، وأذهب إلي هناك لأستعيد نفسي، علي الرغم من أنني أصبحت بلا صاحب ، وحيدة كخيال المآتة الذي يتمايل مع الريح في حقل أعشاب، بعد أن جفت الزروع التي أهملتها السنوات اللعينة.
إنني أمشي وأمشي كالكلبة الجربانة وكأنه لا نهاية للطريق ، هاهي الحرباية سلوي تتأبط ذراع المسلولة صفاء وكأنهما عاشقين ، لا أعرف السر في كل هذا التلاصق الذي تمنيت أن يحدث لي لأكتفي به عن هذا العالم الوغد، لكنني لم أجد في أي من زميلات الفصل الملعونات ، من تروقني إلي الحد الذي يجعلني ألتصق بها علي هذا النحو المدلوق ، كلهن ، وأنا أعرف كم تمومسن ، لهن رائحة حيض عفنة تدفعني للقيء ، تلك الرائحة تقتلني ، وأنا أبدا لم أتلاءم مع هذه الرائحة الوسخة حتي أنني ، أثناءها ، أكره نفسي ، وأكاد أفر من هدومي ، لكن ما باليد حيلة .
العصفورة الأكثر قصرا كريمة تضغط علي ذراع العصفورة السمينة عيشة وهما تتناجيان ، وقد أصدق الآن ما تتقوّل به البنات عليهما، من أنهما تفعلان الشيء مع بعضهما ، وأنا لا أعرف ، حقيقة ، ماذا تجد فتاة في فتاة أخري من أمور الإثارة سوي ما تحس به في العادة السرية اللعينة ، لا أعرف ، أنا لا يعجبني ذلك ، ولا أجد فيه سوي لعب فتيات صغيرات ، هذا لا يعني أنني لا أميل إلا للرجال ذوي العضلات وغير ذلك ، لكن يعجني الرجل الكبير الناضج ، علي الأقل هو سيتشحتف عليّ ، ولن يفعل مثل ما فعل وليد ابن الكلبة الذي كان في مثل سني ، يكبرني بأسبوعين ، لا لن أكررها مرة أخري ، لن أمشي مع الأولاد الأوغاد ممن هم في مثل سني ، فلا طائل من وراء أولاد الحرام هؤلاء ، ثم أنني اكتشفت أن السيد وليد هذا ، تحدث بقصتنا مع كل ابن عاهرة يعرفه ، في كل مقاهي السيدة ، وحتي مقاهي وسط البلد التي يرتادها لأن له أخا لديه كشك سجائر علي ناصية من نواصي شارع طلعت حرب العديدة ، وهو يذهب لمساعدته في الأماسي ، الأحري أن ابن الحرام يسرقه، يخبي نصف الإيراد من السجاير واللب والشيكلتس الذي يبيعه ابن العاهرة الثاني بأغلي مما يشتريه بخمسة أضعاف ، وهو ، وليد ، لأنه يعرف أن أخاه حرامي كبير ، فإنه لم يشعر أبدا بأنه يسرقه ، وكان يلح علي أن سرقة الحرامي حلال ، ولا أعرف ما دخل الحلال والحرام في هذا ، وأن الموضوع كله أنه يخون الأمانة ، وأن .. ، لكن لم عليّ الآن أن أمضي في تذكر هذا اللص الصغير الذي لم يكن يريد سوي الضم والتقفيش ، حتي دون أن يعرف كيف يثير الواحدة ، حين تكون معه ، وأنه كان يريد الوصول لنفسه فقط ، وما أن ينز من بنطلونه ، آه ، رأيته عدة مرات ، حتي يبتعد عن الواحدة ولا يعود يطيق أن تقترب منه حتي ولو بسنتي ، آه ، ومع ذلك فإن ابن العاهرة قال لطوب الأرض أنني خلعت لباسي له ، وهذا كذب لأنني لا يمكن أن أفعل هذا أبدا ، لا أخلع لباسي لأي واحد من هذا النوع اللعين من الفتيان ، آه ، اقتربت العصفورتان مني ، عليّ أن أقبلهما تلك القبلة السخيفة المطرقعة التي تسمعها كل صباح ، ليس فقط في فصلنا العزيز ، بل في طول المدرسة وعرضها ، كل صباح ، كل صباح ، آلاف القبلات تطرقع في أنحاء المدرسة ، في الحوش ، وعلي السلم ، وخصوصا ، في دورات المياه ذات الرائحة النتنة ، يا الله ، أنقذني قبل أن تنفجر أوداجي وتطرقع هي الأخري ، وجرت القبلات بسلام ، لكن ، علي غير العادة ، لم تكن هناك أي ابتسامة ، ولا حتي تلك المزيفة ، المعتادة ، وكان كلام صفاء علي أن سلوي حزينة لأن أخاها ذهب إلي العراق قبل الحرب بأيام ، وأن أخباره انقطعت منذ قامت القيامة، وأنا مالي وهذا ، يكفيني ما أنا فيه ، فقد أصبح والدي عاطلا عن العمل منذ ذلك اليوم الفظيع ، وأصبحنا نسمع بكاءه وهو مسجي تحت الغطاء ، لأول مرة ربما ، فأبي لم يكن يبكي حتي ولو ماتت واحدة منا ، نسيت أن أقول ، فنحن خمس أخوات ، وكان لنا أخ واحد كان اسمه عمرو لكنه مات بالسرطان وهو في الرابعة من عمره . إلتوت رقبته عدة أشهر ثم مات ، كان كالبدر ، أبيض وجميل ، لكنني لم أعد أذكر وجهه الآن، وهو ما جعلنا، أنا وأخواتي ، مكسورين دون خلق الله ، علي الأقل ليس لنا من يدخل خناقات من أجلنا ، كما يفعل أخو صفاء الذي لا يخلو جيبه من مطواة قرن الغزال ، ومن أجل ذلك هي تحس بأن وراءها من يحميها ، وهذا ما أنا فعلا محتاجة إليه ، أظن أنني إذا لم أجد ذلك الرجل الناضج الذي يوفر لي هذا الأمان فإنني لن أكررها مرة أخري ، حتي ولو تشحتف حولي كل شبان السيدة ، ياه . إنني أقف في طابور المدرسة ، أردد كالببغاء نشيدنا الوطني ، لقد رفعت يدي بتحية العلم ،دون أن أحس ، فسقطت حقيبتي بين قدمي ، مرورا بساقي المهتزتين ، إنه يوم جديد في هذا المعتقل الذي مهما جري فيه ، علي أي حال ، فإنه أخف وطأة من المعتقل الآخر في البيت ، حيث لا يمكنك أن تسمع سوي ولولة أمي سنية الدائمة ودعواتها التي تهز الجبال علي اليوم الأغبر الذي ولدتنا فيه ، والأنكي أن هذا لا يمكنه أن يوقف مشاحنات أخواتي الدائمة التي لا تحدث أبدا في صمت ، بل هي ولولة أشد من تلك التي تولول بها ماما ، لأنها ، خصوصا ، تضج بأصوات مسرسعة لمراهقات ، هن للأسف أخواتي ، تنهش الرغبات المكبوتة أحشاءهن المنتفخة.

عبده جبير
أعلى