عبدالستار ناصر - حفلة السيد الوزير

في تلك الساعة فقط, أيقنت أنني قصير, مع أنني أعرف ذلك منذ أربعين سنة, لكنني أعاند نفسي وسواي, وأقول بأنني على جانب من الطول ولست قصيرًا كما يظن أقراني.

هذه المرة وأنا في حفلة السيد الوزير, تأكد لي أنني قصير بالرغم من الحذاء العالي الذي يخفيه ذيل بنطالي, نظرت إلى ضيوف الوزير بشيء من الريبة, لاسيما هاشم الزعفران المدير العام المشرف على شئون المسرح, وسكرتير الوزير في الوقت نفسه, فهو يتحرك في الصالة كما البهلوان, يصافح العشرات من النساء والرجال في أقل من دقيقتين كأنه في سباق مع غيره لإثبات ولائه للسيد الوزير!

رأيت ثلاث حمامات بيض على شرفة القصر, أخذت اهتمامي ونسيت نفسي وأنا أقترب نحوها, لم أفطن إلى معالي وزير الثقافة الذي دفعته دون وعي مني, إذا بهاشم الزعفران يمسك الوزير خوف أن يسقط أرضًا أمام كبار الضيوف, ثم جاء نحوي وكاد يصفعني لولا حرصه على حفلة السيد الوزير.

لم أفهم حقيقة ما جرى, ولماذا شتمني هاشم الزعفران بصوت خافت, حتى أخبرني أحدهم بما فعلته مع الوزير الذي كاد يسقط أرضًا أمام الضيوف, وعندها نظرت إلى الحمامات البيض الثلاث, وقد طارت إلى مكان بعيد عن شرفة القصر الباذخ.

لا أظنني دفعت معالي الوزير, بل مسّه قميصي وأنا أخطو بسرعة نحو الحمامات البيض, لكن الوزير نفسه تحرك خائفًا من وقع الريح الخاطف الذي أثاره قميصي حين ارتطم بجزء من بذلته السوداء, والوزراء عادة, وكما أظن, يتوجسون من أي شيء طارئ غير محسوب بحساب, حتى لو كان محض ريشة تدور فجأة في الهواء.

تمنيت لو أنني خرجت من هذا المكان, هاجس غامض يركبني ويقول لي: أنت غير مرغوب فيك, وأرى هاشم الزعفران يتلصص بنظراته صوب مكاني, أخافني فعلاً وهو يقضم شفته السفلى كأنه يحذّرني من أيّ فعل طائش آخر, أنا مسئول مكتبة الوزارة منذ عشرين عامًا, وأفضل من يختار ويشتري ويؤرشف المعاجم والمناهل والموسوعات وأمهات الكتب, التي يحتاج إليها قرّاء الوزارة أو المشاركون فيها من أدباء وتلاميذ الدكتوراه, صار حالي في هذا المكان أشبه بالفأر المرعوب من عشرات القطط السمان وهي تستعد للانقضاض عليه.

وقفت في مكاني, مجرد تمثال من لحم ودم, لم أتحرك طوال ساعة, أراقب ابتسامات النسوة وضحكات الرجال تتشابك في لجة من دخان كثيف, وتمنيت ثانية لو أنني لم أكن بينهم, تذكرت أصدقائي هناك في مقهى علي بابا, لابد أنهم يتمازحون الآن بشأني, وكيف تورطت في حضور حفلة لا تناسبني مع نوعية من البشر لا أنتمي أبدًا إليها!

بعد ساعة من زفير لا شهيق له, اقتربت من هاشم الزعفران, وقبل أن أرجوه السماح لي بترك المكان والذهاب إلى (علي بابا) سمعته يكرر:

- إياك أن تقترب من السيد الوزير, يالك من أحمق, قف هنا ولا تتحرك.

أحمق? ليس من حقي فعل أي شيء سوى احتساء هذا الشراب الذي يحمله الساقي ذهابًا وايابًا, وأنا في ذهابه أشرب وفي إيابه أحتسي, وإياك أن تقترب من السيد الوزير, فما أنت غير عبد ذليل و..أحمق, والعجيب أن هاشم الزعفران عاد بسرعة إلى ضيوفه الكبار يبتسم مع هذا, ويحني جذعه في حضرة ذاك, بل يأتي بالشراب والسجائر الفاخرة لكل واحد منهم, يتسلّى بأعصابي وهو يكرر: إياك أن تقترب من السيّد الوزير, ثم يمضي كما الطاووس إلى النساء اللائي يحكي لهن القصص والقفشات, يضحكن لها حدّ الهستيريا.

هاشم الزعفران, المشرف على شئون المسرح, لا يعرف بريخت ولا شكسبير ولا بيراندللو ولا نعمان عاشور, ولم يشهد مسرحية في حياته إلاّ ما يراه على شاشة التلفزيون, والمرة الوحيدة التي أخذته فيها (أنا) إلى مسرحية (بانتظار جودو) قال كلمته التي لا أنساها:

- هو هذا مسرح ولا كلمات متقاطعة!

***

لماذا جئت هذا المكان? هو نفسه هاشم الزعفران أراد ذلك, قال كمن يتوسل: عليك أن تساعدني, فهذه ليلة من ألف ليلة, وعلينا أن نؤكد لمعالي الوزير أننا بمستوى المسئولية, وهذا يعني بمستوى رغباته في تحقيق حفلة مهيبة كهذه, لكنه عافني من أول لحظة دون ذنب سوى أنني اقتربت من شرفة القصر حتى أرى الحمام الزاجل!

اقتربت إحداهن تسألني:

- هل تعمل في خدمة السيد الوزير?

قلت لها وأنا أغرق في نار تستعر عميقًا تحت جلدي:

- أنا لا أخدم أحدًا, أنا أعمل في مكتبة الوزارة.

تركتني بسرعة, إذا بهاشم الزعفران يمضي إليها ويحكي معها, ثم جاء يمشي نحوي مثل ماكينة معطوبة, وقد تغيرت ملامحه تمامًا:

- اسمع أيها الكلب, جميعنا في خدمة سيدنا الوزير, وأنت أول خادم بيننا, وغدًا ستعرف نتيجة أقوالك الجوفاء.

حاولت أن أقول شيئًا, لكنه رجع إلى حفلته الكبرى, والغريب أنه عاد يضحك مع الضيوف كما لو أنه لم يغضب ولم يهتز كرشه ولم يشتمني.

أسمع ما يشبه الصدى يتموّج تحت عظامي: أنا لست كلبًا, قد أكون قصيرًا, لكنني لست كلبًا.

وهاشم الزعفران يضحك مع الكائنات كلها إلا حين يراني, يضحك مع السيدة الحنطاوية فارعة الطول التي تعلك الحروف حتى تبدو مثل بقية الشقراوات اللواتي يحتسين البيرة, يضحك مع زوجة السيد الوزير, ويحني رأسه في كل مرة تسأله فيها عن شيء ما, يضحك مع قطة مدام سنية, التي صار اسمها (ساني), بل يضحك حتى مع الصور المعلقة على جدران القصر, فهذا الباشا هو جد السيد الوزير, وذاك عمّه, وبينهما صورة خالته المصون حتمًا, هاشم الزعفران لا يكف عن ابتساماته إلا حين يراني, كما لو أنني شيطانه الأبدي الوحيد!

وأنا بين مروج ابتساماته, أشرب الخمر ذهابًا وإيابًا, حتى أدركتني النشوة في أعظم ساعاتها.

***

في لحظة جاءت عفوًا من زمن آخر, رأيت نفسي أصرخ:

- اسمع يا هاشم الزعفران...

وقبل أن أقول أي شيء, أصاب الصالة وقر رهيب, حتى أنني رأيت الوزير نفسه يحدق بي من وراء غشاء شفيف بعد أن أطال النظر إلى سكرتيره ومديره العام المشرف على شئون المسرح, هاشم الزعفران, يستفسر بعينيه عما يحدث, لكنني لم أعبأ بما يدور بين هذا وذاك, وجدت نفسي أقول بصوت قوي حزين:

- إذا أحببت أن تكون خادمًا ذليلاً يا هاشم الزعفران, فلا أحد يمنعك من ذلك, الإنسان هو من يختار مصيره بيديه, وإن كنت كلبًا يا هاشم الزعفران, فهذا لا يعني أن من يعمل معكم هو كلب مثلكم, والمهم أن تعرف من يكون شكسبير قبل أن تكون مسئولاً عن شئون المسرح.

مرت سنوات وقرون, وسافرت أقمار ومجرات وشموس والقاعة في حال من الصمت, بحيث إنك سوف تسمع النسمة إذا خطر ببالها أن تمر عليك, ولم يقطع حال الرعب والتوجّس غير صوت الوزير وهو يقول:

- ماذا جرى? ماذا يحدث هنا يا هاشم?

في لحظة ثانية من زمن آخر, سقط هاشم الزعفران على الأرض, سقط مثل ثور مطعون يلهث, ولكن دون حراك, كنا نشمّ عطر النعناع وزهر الخزامى ورائحة البنفسج والمسك والعنبر تنهمر من خدود النساء وهن يسكبن خوفهن في حضرتي, وقد شعرن أخيرًا بوجودي.

اقترب معالي الوزير من سكرتيره الذي صار أشبه ما يكون بجثة, ثم جاء نحوي كما لو أنه يترنح, يسألني بهدوء كاذب:

- هل لك أن تخبرنا بما حدث?

ربما أصابني الجنون, أو هي لوثة في رأسي, صارت تحكي عن أشياء غريبة, لا شأن لها بما جرى في حفلة السيد الوزير, رأيت نفسي أهتز مثل سعفة وأنا أقول بصوت متكسّر:

- أنا لست قصيرًا إلى هذا الحد, أنا أطول مما تظنّون.رحت أكرر ذلك وأنا أنظر في وجه الوزير, أنظر صوب السيدة الحنطاوية التي تعلك الحروف, إلى مدام سنية, التي صار اسمها ساني, إلى الباشا والخالة المصون حتمًا, أنا لست قصيرًا, أنا أطول مما تظنّون.

***

جاءت حماية السيد الوزير, أخذتني إلى مكان بعيد, مرت أكثر من ثلاث ساعات, لا أدري ماذا جرى خلف ظهري في ذاك القصر المنيف, تمنيت حينها أن أكون بين أصدقائي في مقهى علي بابا, وفي ثلاث ساعات بين العتمة والرطوبة والزئير علّموني أشياء كثيرة جدًا.

منذ حفلة السيّد الوزير, وما بعدها بثلاث ساعات, لم أعد أعرف ما إذا كنت قصيرًا فعلاً أم أنني قصير جدًا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى