عبد الستار ناصر - المغارة

abdulsattar-naser.jpg

كان غسان اول من دخل المغارة واول من مات فيها، وما كان من السهل ان يعرف احد من رفاقه كيف مات ومن كان السبب؟ لكن الدقائق التي سبقت اللعبة دلت على خيط باهت يربط بين موته وبقاء صديقه معروف على قيد الحياة.
لنقل ان الذي كان عليه ان يموت، هو معروف وليس غسان، لكن تشاء اللعبة التي لعبها معروف ان تجر غسانا الى موت حقيقي لا ذنب لمعروف فيه اذ ليس ثمة قانون يمنع اثنين من اللعب داخل مغارة معوجة ممراتها، على كثرة ما فيها من مزالق وانحرافات، تفي بالغرض الذي تحتاجه لعبة يمارسها اثنان .
بدأت لعبة معروف في جرّ غسان داخل خارطة المغارة ان يسبقه بثلاثة أمتار، وربما اقل، وان يسابقه غسان داخل جيوب المغارة حتى يخرجا من الممر نفسه الذي بدأت منه اللعبة، ذلك ان معروفا كان يدرك جيدا كل مزالق وحواشي ونتوءات المغارة، لذلك اعطى فرصة جد كافية لصديقه غسان في أن يسبقه ثلاثة امتار يعرف انه ــلا بدــ يتجاوزها وقت يشاء.
وما كان معروف ليظن ولا لثانية واحدة، ان صديقه سيكون ضحية مزلق من تلك المزالق الخفية التي جرت غسان الى قاع المغارة، وقد غرق في مخاطها الشيطاني زارعا نفسه في القعر، يصرخ في وجوه رفاقه ــعشر دقائق يطمس فيها داخل طات المخاط العنكبوتي القاتل علّ هناك من ينقذه من الموتــ حيث لا احد يدري كيف ومن اي يبدأ ولا حتى معروف الذي تصلّب كل شيء فيه وتخدر عقله كل الوقت الذي يموت فيه غسان، لكن البعض من اصدقائه غامر ــمجنوناًــ كي ينقذ غسان، وبعض هذا البعض مات ايضا في المخاط الشيطاني الذي نزل فيه، رويداً حتى قاع المغارة، ومن ثم لم يعد من احد بقادر على ان يجازف في موت مجاني ليس من أملــ مهما كان ضئيلاــ في النجاة من شراكه.
هكذا انتهت لعبة معروف، دون ان يحاسبه القانون على أي شيء، لكن القانون كان في داخل معروف، بينما كان معروف في الوقت ذاته داخل المغارة من جديد، بعد مرور وقت على موت غسان.
كان يبكي، وكان البكاء موتا لا يشبه موت غسان، انه نوع من الضغط على اوردة القلب وعلى غضاريف الجسد كلها، لكن هذا الموت لا يشبه موت غسان، اذ، ماذا يعني ان يكون هو السبب في موت انسان حقيقي، وقد كان هذا الانسان واحدا من احب الناس اليه؟
في نهار يشبه ذاك النهار، ربما في وقت جدّ قريب لذاك الوقت الذي مات فيه غسان، كان هناك عدد من الاصدقاء، أتوا الى المغارة نفسها، وبينهم كان معروف يسرع، كأنه ماض نحو عرس جميل، وكان ثمة اصدقاء يشبهون غسان الذي مات في نهار مثل هذا.
عند باب المغارة، التي يعرف معروف كل فروعها وخباياها ومزالقها وأسرارها، عند بابها، فكر ان يلعب اللعبة ذاتها، لكن هذه المرة، سيغيب هو أولا داخل منعطفات المغارة، يتبعه صديق ما، على بعد ثلاثة امتار وربما أكثر، سيكون أول من يدخل، وعلى صديقه البحث عنه على ضوء ما يتركه من اشارات.
كان معروف فرحا، ليس في داخله ايما اثر لخوف، وليس ثمة ما يدل على تردد، كان يسرع في تنفيذ لعبته كأنه يشارك في عرس جميل، حتى خيّل لبعض اصدقائه ان معروفا هذا اما اكثر الناس شجاعة او اكثرهم جنونا
ما كان من شيء يهمه تلك الساعة، الا ان يبدا اللعبة، وكان سعيدا مع نفسه منسجاً معها، اذ يفكر في غسان ــفي الدقائق العشر التي سبقت موتهــ في الموت الذي لم يعقبه سوى تأنيب الضمير وعتاب الروح.
هو الا يلعب اللعبة نفسها، ليس من شيء يقدمه قرباناً واعتذارا لموت صديقه سوى أن يلعب اللعبة نفسها ويمر في الطرقات الضيقة المعتمة نفسها، وفي نفس المزالق التي فات وانزلق عليها غسان، وليس ذنبه ان ينجو اذا نجا وليس من حق عليه بعدُ اذا ما مات.
يكاد يطير من غمرة السعادة، اذ بدأ اللعبة، وهو الآن في نفس الخط الذي سار عليه غسان.
ثم انتهت اللعبة.
وخرج معروف دون ان يسبقه الموت، لكنه، عندما خرج من فم المغارة، اراد ان يلعب اللعبة ثانية، بل راح بعد وقت قصير يجربها مرة بعد اخرى مع كل صديق جاء معه.. وفي كل مرة يخرج منها سالماً يكررها ثانية، دون ان يمسه اي شيء من مخاطها الشيطاني الذي لفّ غسان يوما.. وفي كل مرة تنتهي فيها اللعبة يزداد معروف حزنا كأنه لا يريد النجاة من الموت الذي طوى صديقه غسان.
لكنه في المرة العاشرة، عندما لعب اللعبة وخرج منها سالماً وسليماً قال بشيء من العناد والقهر
ــ سأبحث عن مغارة غير هذه، مغارة لا اعرف اسرارها وعيوبها، فقد كن غسان يجهل أسرار هذي المغارة دون شك.
و.. حقاً راح معروف يبحث عن مغارة أخرى، في جبل آخر.
والعجيب، أنه ما يزال حياً حتى الآن


ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* عن ألف ياء الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى