محمد ربيع حماد - الشجرة الأخيرة.. قصة قصيرة

رأيتُ جدِّي صباح اليوم في كامل بهائه لدرجةٍ لم أعهده بها طيلة حياته، فآخر مرةٍ شاهدته؛ كان قلقًا بشأني حتى كاد أن يبكي لولا وقاره الموسوم به، زارني في مساء ممطر كأنما حلَّ من سفر، لابسًا ثوبه الطويل وطاقيته الأبيضان.
لكنه بدا نظيفًا، كأنه لم يخط خطوة على الأرض التي حوَّلها المطر إلى كُتلٍ من الطين، تنظر إلىّ زوجتي ثم تعود لتكمل تأملها في هذا الوجه النضر ذي الهيبة ورائحة الخير تشعّ من قسماته_بينما أنا منغمسٌ في نشوة لقائه فقد غاب كثيرًا لدرجة اني افتقدته، تُحوّل عينيها بيني وبينه، جدّي الذي ما زال واقفًا ويحمل بيده حقيبةً جلديةً بدت عليها الفخامة تجلب الطمع، ترىٰ من أيّ بلدٍ جاء بهذا الخير؟ هل قُطعَ النهر عنّا فقط، أم أن البلاد على طول النهر طالها الجفاف؟ أبصرت تساؤلات عيني زوجتي اللتين غلفتهما الدهشة، مَن هذا وكيف مشىٰ إلىٰ هنا في هذه المنطقة غير الآمنة بالمرة؟ نعم؛ فقد حلّ الجفاف في النهر الذي يمرّ بطول بلدتنا مبتسمًا ثم يلقي علينا تحية الحياة وعلىٰ أرضنا وحيواناتنا، ومابقي سوى خزاناتٍ إسمنتيةٍ داخل كل بيت، تجمع فيها مياه الأمطار، يمتصون المياه، يعاملونها معاملة الذهب، وانتشر اللصوص وقطاع الطرق، فقط يختبئون وقت خروج الجموع ساعة الأكل من الشجرة، تلك الشجرة التي بقيت في البلدة لم يمسسها الجدبُ، كأنما مسح على جذعها نبيٌ أو وليّ له على الله قسمٌ، يانعةً وخضراءَ أبدًا، لا ينقص ورقها، كلما قطع منها ورقةً نبت مكانها عشرٌ، الحكومةُ تصفُّ الناسَ بأولادهم لتناول الغذاء، لكل فردٍ أكلةٌ مشبعةٌ من الورق، ثم يعودون إلى بيوتهم لا يخرجون إلا حين الوجبة الأخرى.
قبّلَ ابني وابنتي وجلسَ ليفتح الحقيبة، انتفضت حاسة الشمِّ لتصقع ذاكرتنا، صرخنا بصوت واحد: ياااااه!!
انقضضنا على الحقيبة، خطفناها من يد الجدّ قبل أن يكمل فتحها، هو يتأملنا وابتسامته لم تبرح مكانها، إنه طعاااامٌ مطبوخٌ، أحفظ هذه الرائحة جيدًا، اممم أشتاق لهذا الطعم؛ إنه لحم خروفٍ، أحبّك ياجدي، التهمت أنا وزوجتي كل ما وجدناه داخل الحقيبة، ثم أخبرنا أنه جاء من مدينة عملاقة زاخرة بالطعام وكل أنواع الشراب، والمياه وفيرة لدرجة أنهم يملكون مسابح لاستحمام الحيوانات الضالة، لكن الخروج من هذه المدينة محظورٌ وعقوبته القتل، سألته: كيف جئت يا جدي؟،
أجابني: ستعلم حينما تستيقظ.!
أذكر اسم ابنتي الرضيعة وردة، لا أتذكر اسم ابني لكني حفظت صورهما، ثم طلب مني أن أخلع معطفي وأذهب لأحضر له شيئًا من الدار القديمة، ضلّلتُ الشرطة وسلكت طريق المدينة العملاقة، تركت معطفي والآن بلا غطاءٍ، أسبوعان مرّا على جسدي النحيل هنا، تهتز الجدران من طقطقة أسناني، أصبتُ بالحمّى، أشعر بوخز الحقن في وريدي، عامان مرّا، أفتح عيني فأرى قطع الظلام تتسابق إلى بصري، كل صباح، أصيحُ في الحرس مغمض العينين: لن أقصّ رؤيايَ على أحدٍ أبدًا.

محمد ربيع حماد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى