أمل الكردفاني/ حكاية رجل ثقيل/ قصة قصيرة

كان صوت الفنان يصدح عبر المذياع:
(حتى الطيف رحل وخلاني
ما طيب لي خاطر)..
الأغنية حزينة جدا ، وتضيف لها أوتار الطنبور بعدا آخر ؛ شعورا ما بالغربة داخل الوطن. ركاب الهايس كانوا يستمعون بصمت... وعندما حانت مني التفاتة عابرة شعرت بأنهم قد ينفجروا بالبكاء في أي لحظة... ربما لو عطس شخص سيحدث ذلك الانفجار... كان الصمت كصمت الظلال... طقطقت سيدة بأصابعها لتنزل فتهادت العربة قليلا واستقرت بهدوء على قارعة الطريق.. هبطت المرأة ومضت وهي شاردة فصاح السائق:
- يا حجة...
التفتت المرأة بجزع وقد تذكرت أنها لم تدفع الأجرة.. وبشكل عبثي أدخلت أصابعها داخل مطبقة سوداء صغيرة ومدت بالنقود فمد السائق بدوره يده وأخذها بصمت.. ثم حنى رأسه شاكرا وتحركت العربة.. لكن صيحة أوقفته.. التفت الركاب جميعا إلى الخلف.. ورأوا كهلين يهرولان... وعندما وصلا قال السائق:
- راكب واحد .. لا توجد مقاعد..
قال الكهلان:
- لا بأس سنجلس فوق بعضنا...
كانا في منتصف الخمسينات.. وبدا جلوسهما فوق بعضهما مريبا.
تحركت العربة ولا زال الطنبور يغدق المركبة بحزنه:
(يمه النوم أبى وجافاني
وأصبح داجي ساهر
وين حتى الطير رحل خلاني
ما طيب لي خاطر
هي .. قليل يا طيف اقيف وارجاني
وين فايتني عابر
وانا شن حارس وراك انا تاني
ياني معاك مسافر...)
قال أحد الكهلين وهو يحاول الإمساك بحقيبة من الجلد بيمينه وإصلاح طاقيته بيساره:
- إييه يا عباس... أغنية غريبة...
لم يبدو على عباس إهتمام بالرد.. كانت نظراته ثاقبة من وراء عدستي نظارته ذات الإطار البني من الطراز القديم...
مضى الكهل:
- البلد تغيرت تماما يا عباس... كنا أقل تعاسة من اليوم...
مد عباس يده إلى جيب جلبابه الأيمن وأخرج حقة التمباك فتحها ودقها بخبرة فتسربت كمية معلومة من التمباك على كفه الايسر فقذف بها إلى فمه وأخذ يمج شفتيه المغلقتين حتى استقرت السفة في المكان المرغوب فيه.
- لم نعد نشعر بطعم شيء يا عباس... الأشياء فقدت رائحتها الأصيلة قبل ثلاثين عاما..

استمر الطنبور ينحب ببؤس والمركبة تنزلق في طريق كان أسفلتيا من قبل ، ثم تهادت حركتها عندما عبرت قنطرة ترابية صغيرة.
(الليلة جا وفر من صبح فناني
لافح حروا كافر
عدمان الضليل لواني
مجنون قالوا شاعر
انا بحوم وارجع افوتا بكاني
مرفوع راسي حاير
وين احبابي وين خلاني
اه يا الله قادر...)..
كان مراهق يتحدث من هاتفه ورأسه منحن على النافذة الزجاجية ، كان يهمس بكلام غير مفهوم ، همهمات فقط بين فترة واخرى تحمل أنصاف مفردات:(إنتي.. احتم... صحي...)
شعره مفلفل ويمسك مكرفون سماعته الخارجية ويقربها من شفتيه متحدثا بحذر كحارس شخصي لرئيس دولة.
- تصدق يا عباس... زمان كنا نحصل على الخضروات من الحواشة مباشرة ونهرع إلى أمهاتنا مسرورين.. كان المزارعون ينادوننا لنملأ أكياسنا بالخضار...كانت رائحة الخضروات تعطر صحو سمائنا .. كان للطماطم رائحة نفاذة .. الملوخية... العجور..... كنت أعلم أن أمي تجهز سلطة خضراء بمجرد أن أشم رائحتها وأنا في الغرفة البعيدة.. حينها أعلم أن مواعيد الإفطار قد حانت... أما رائحة طبيخ الملوخية.. او الرجلة أو البامية فكانت تثير لعابي وأنا أمام باب المنزل أهم بالدخول حين أعود من المدرسة...

نظر الكهل لعباس بجزع وقال:
- ماذا حدث يا عباس... كل شيء اليوم بلا رائحة... إن الطماطم تحولت لمعجون أحمر ... الملوخية.. كل زراعتنا أصبحت بلا نكهة... إلى أين تمض هذه البلد يا عباس...
أخرج عباس رأسه من النافذة وبصق التمباك ثم غمغم:
- الصديق؟
قال الكهل والحزن يغمر وجهه:
- نعم يا عباس..
قال عباس:
- كم عمرك يا الصديق؟
قال الصديق:
- سبعة وخمسون...لماذا...؟
ابتلع عباس ريقه وقال وملامحه جامدة:
- عندما نكبر في السن تضعف حاسة شمنا يا الصديق... أما الطماطم والملوخية فلا زالت برائحتها القديمة...
تصلبت عينا الصديق في الأفق بغضب ووجه مكفهر وقال بصوت خفيض:
- حقا يا عباس؟
أومأ عباس برأسه وأجاب بصوت خفيض أيضا:
- حقا يا الصديق...
تهادت المركبة واقتربت من شارع مزدحم يفضي إلى سوق شعبي... واختفى صوت الطمبور داخل الضجيج....

...(تمت)..


أمل الكردفاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى