عادل المعموري - خنجر في الضلوع

جارتنا الجديدة ،شابة جميلة، طويلة ،رشيقة كعارضة أزياء ، وأنا بدينة كأمي الجالسة بقربي، أنا وأمي نشبه بعضنا في كل شيء، عمري إثنان وثلاثون وأمي سبعينية ، إذا أرادت أن تنهض عن الأرض ، تتوكأ بقبضتيها على البلاط ،ترفع عجيزتها الضخمة بصعوية بالغة وعلى لسانها كلمتها المأثورة دائما (يا جميل يُمّه )،جارتنا تلك في يومين فقط، استطاعت أن تقيم علاقة قوية معنا بلسانها اللبق وخفّة دمها ,
،يعيشان لوحدهما ،لم ينجبا طفلا، تقول: إن زوجها عقيم .. عسكري في أحدى مقرات بغداد ،شاهدْتهُ مرتين يؤوب الى بيته عند حلول الظلام ،شاب طويل أربعيني، نحيف الجسم معروق اليدين،أصلع الرأس ،لم أره يرتدي الملابس العسكرية، كان يرتدي بدلة من قطعتين(سفاري ) ، يخرج في الصباح الباكر ويعود عند المساء ،أما هي فتقضي جُل وقتها معنا في البيت ..بمرور الأيام أصبحت تنادي أمي ب(خالتي )

،كانت تساعدني في تنظيف البيت وتوظيبه، وأحيانا تقف على التنّور، لتخبز لنا أقراص الخبز الشهية ،حتى غدت تعرف عنّا الكبيرة والصغيرة ، لم يكن في البيت سوى أبي المريض ولي ثلاثة أخوة ، واحد منهم في الجبهة جندي مقاتل، وأخي الاوسط أستشهد في بداية الحرب ، أما الأصغر فقد هرب من الخدمة العسكرية منذ شهرين وهو مختبئ عند عمتي في أحد أطراف بغداد ..الواقع أنا كنتُ أتعبُ كثيرا في تنظيف البيت، وتوظيب الأغراض وبمجيئ (سالمة) جارتنا قد حملتْ عني الكثير من الجهد والتعب ،فقد أصبحت صديقة لي تزيل عني الوحشة والملل ،وكانت أمي فرحة بوجودها، لأنها خفيفة الظل ،تجعلنا في مرح وسرور بكلماتها اللطيفة، أغلب الأوقات، إذا شاهدتْ أمي تبكي على أخي في أوقات اشتداد المعارك على الجبهة..تجلس أمامها وتهمس لها بكلمات ..فتنفرج شفتا أمي عن ابتسامة .
،لم تكن تعرف أن أخي الصغير هارباً من الخدمة العسكرية، وفي يوم جاءت عمتي إلى والدي وأخبرته أنها لا تستطيع ايواء جميل أكثر من هذا، لأن الحزبيين بدأوا يشكّون بها ويراقبون بيتها ،في تلك الليلة ذاتها، هيأنا مكاناً لجميل في الطابق العلوي في غرفة صغيرة منعزلة متروكة ،و أوصيناه بعدم التحرّك من مكانه ،الطعام والشراب يأتيا نه إلى غرفته ،وحاجته يقضيها في الحمام العلوي ،
كعادتها كل يوم تمر علينا (سالمة) بعد العاشرة صباحا وتمكث عندنا لصلاة المغرب ثم تؤوب إلى بيتها عند قرب موعد قدوم زوجها من ثكنته العسكرية ،
كنا قد أخبرنا جميلاً بعدم إحداث أي صوت طالما المرأة في بيتنا ،عليه التزام الحيطة والحذر ..في اليومين الأولين قَبِل بهذا الشرط ولكن بعدها طلب منّا أن نطردها من البيت لأنه لا يستطيع الحركة ويشعر أنه مقيد كالمسجون .رفضتْ أمي مطلبهُ وأقنعَته بالصبر والسكوت عن ذلك ..ذات ظهيرة قبل أن تخرج جارتنا (سالمة) لقضاء بعض أشغالها ،سمعتْ صوت خشن ،توقفت هنيهة وهمست لي :
_أسمع صوتا غريبا في بيتكم ،
_لا.. هذا صوت أبي ،هزّت رأسها وخرجت ،قبل أن تعبر عتبة الباب أردفت :
_سأغيب لساعتين في السوق ،هل تريدون حاجة أجلبها لكم ؟
_لا شكرا ..أغلقت الباب خلفها وابتعدت ..بعد قليل خرج أخي جميل مطمئنا لخلو البيت منها ،جلس قرب أمي وقال وهو يتأفف :
_أشعرُ أني مقيّد في غرفتي لوحدي ..من أين جئتم بتلك المرأة وكأنها أحد فراد العائلة ؟ شيء لا يُطاق والله ، لابد من طردها .
التفتت إليه أمي وحدجته بنظرة حادة وقالت له :
_امرأة لطيفة ووحيدة..لم نرَ منها أي ازعاج أو أذى ..حتى لو هي علمت بوجودك فلاضير من ذلك يا بُني .قبل أن تكمل أمي كلامها ،دفعت (سالمة )علينا الباب،استغربنا من عودتها المفاجئة، أرادت أن تنطق ،سكتت قليلا ولملمت عباءتها على صدرها وقالت بارتباك :
_العفو ...لا أعلم أن عندكم ضيفا .. لقد نسيتُ حافظة نقودي في مكان جلوسي إذا سمحتِ يا (أمينة)..وجدتُ محفظتها الصغيرة تحت إليتي ..تناوَلتها مني على عجل وخرجتْ ..ذات صباح ليس كعادتها دخلت علينا (سالمة) ووجدتْ أخي (جميل) جالسا يتناول فطوره الصباحي مع أبي ،وقد علمتْ أنه هارب من الخدمة العسكرية بعد أن حدثتها أمي عن المعارك الشديدة التي تدور بيننا وبين جيش العدو ،وأكدت لها عن خطورة القاطع العسكري الذي هو فيه ،استطاع أخي( جميل ) بعدها أن يتأقلم بوجودها وبدا يشعرَ بالارتياح لها ،فقد كانت تتحدث معه عن الشعر والشعراء وتذكر له الدواوين التي قرأتها لفطاحل الشعر وأخبرته أنها تنظم الشعر مثله،وكانت تستعير من كتبه لتقرأها في أوقات خلوتها قبل مجيء زوجها كل مساء كعادته .. قبل أيام العيد الكبير، جلسنا أنا و أمي و(سالمة) جارتنا لنعمل (الكليجة ) أبي كان ممدّدا على فراشه كعادته في باحة الدار و(جميل) في غرفته يطالع كتابا ما ،كنّا نقطع العجينة ونضعها في قوالب بلاستيكية مزخرفة ،لتخرج قطعة (الكليجة )بشكل جميل شهي ،كعادتها جلست سالمة معنا وهي تفرد رجليها ،تقصُّ علينا لطائف من كلامها ونكتها الجميلة المضحكة ،كنا مبتهجين في إعداد القطع الصغيرة،أمي تعمل ببطء وتحدق بالتلفاز وهو يعرض برنامج حربي عن سير المعارك الجارية، كانت أمي تنظر نحو شاشة التلفاز بألم ينعكس على وجهها وثمة دموع تترقرق في عينيها، تجاهد عبثاً أن لا تسقط على خديها ،كنتُ أسمع شهقاتها المكتومة تغلي في صدرها كالمرجل .
ناداني (جميل)، أن أعمل له شاياً بالحليب ،ما أن نهضتُ من مكاني، حتى سمعنا طرقا قويا على الباب ،انفتح الباب على مصراعيه دفعة واحدة ،لا ندري ربما كان الباب موارباً ولم نتأكد من غلقه ،دخل علينا ثلاثة رجال يرتدون الزي الزيتوني يحملون مسدساتهم بأكفهم ، يتقدمهم رجل أشيب صائحا بنا بغلظة :
_أين هذا الهارب الذي في بيتكم ..ليخرج علينا بسرعة قبل أن ندخل عليه؟ ،ران علينا السكون وتلبستنا الدهشة ،أمي ظلت جالسة في مكانها ،بيدها قطعة العجين وهي تنظر إليهم ساهمة كأن فوق رأسها الطير ،لمّا لم يسمعوا منّا جوابا ،اقتحموا البيت عنوة وأخرجوا أخي (جميل) مقيّدا .. وهو يحاول أن يتنزع ذراعيه منهم ،يمسكون به بقوة ، لم يتركوا له مجالا للحركة،سحلوه خارج البيت ،سمعناهم يشتمونه ويضربوه بأيديهم ، بعد قليل اختفت الأصوات .
مكثتْ أمي جالسة لم تفه بكلمة،لم يبدر منها أي رد فعل ،بقيتْ جالسة، فيما كانت عيناها تنظران نحو الباب المُشرع ،سالمة جارتنا، تركت مكانها وهرولت مسرعة خارجا،وقفتُ هنيهة كي أستعيد أنفاسي،الألم المعفر بالدموع ينسج فوق خدي جمر الفجيعة،ها أني أرى الليل يسقط عند عتبة باب الفراق ،يا ارتعاشة قلبي المكسو بفرح مبحوح ،ألقيتُ نظرة على أمي، دنوتُ منها ، راعني صمتها،جامدة كتمثال ،حرّكتها من ذراعها ،هززتُ جسدها بقوة ،لم تستجب ،ناديتها ،لم تطرف جفن لمناداتي،انتظاري المزمن ومرارات يومي وترُملّي يزيد من نزيف نسغ روحي، وفقدان أخي يرسم فوق مواقد جمري اشتعالات لاتنطفئ، ،أمسكتها من كتفيها ووجهي في وجهها،عيناها ساكنتان وشفتاها مزرقتان ،.. أنفلتت من أعماقي صرخة قوية مزّقت أحشائي ،ترنّحَ جسد أمي إلى جانب الجدار ، وألوت رقبتها ، مفغورة الفم، ..سمعتُها شخرت قليلاً ثم هوى جسدها دفعة واحدة ليرتطم ببلاط الغرفة..حطمّتْ ظلي الموشوم حرقة عمياء، وشهقة يتيمة تشظت بوجه الموت ،تبعثرَ ظلي في فراغ الأمكنة الموحشة ،غامت الأشياء في عيني وتحول كل شيء حولي إلى ظلام ،
بعد إنتهاء مراسيم العزاء ..إفتقدتُ سالمة، فقد أقلقني غيابها ،سألتُ عنها زوجها .. قال : إنها تركت البيت.. ولن تعود ،
سألتْهُ عن السبب ،لم يجبني وأوصدَ الباب بوجهي !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى