زهور كرام - عندما ينتصر السردُ للمرأة ـ الذات

تُرافق الأدب، خاصة في مجال تدريسه، وتلقيه علميا، ونقديا، مجموعة من الأسئلة منها: ما الجدوى من قراءة الإبداع، وتحليل الكتابة الأدبية، وتدريس الأدب، والاهتمام علميا ومنهجيا ونقديا بخطاب الأدب؟ وما الهدف المعرفي من جعل الأدب، بكل أشكاله وأجناسه مادة مُقررة في الدرس التعليمي والبحث العلمي؟ وهل يستطيع تحليل رواية، أو قصة قصيرة، أو قصيدة شعرية أن يُحقق هدفا ملموسا للمشتغل به؟ قد ترد مثل هذه الأسئلة وفق هذه الصياغة، أو تأتي بشكل ضمني، من خلال عدم الاهتمام بوظيفية الأدب في حياتنا، ودوره في جعلنا، نُعيد تفكيك ذاكرتنا الجماعية، وإعادة تنظيمها وترتيبها، مما يسمح بتجاوز تصورات أثقلت الذاكرة، وأربكت الخطو نحو المستقبل. ويدخل ضمن هذه الأسئلة التي تبحث في جدوى قراءة/تحليل الأدب، سؤال « الكتابة النسائية»، والفائدة من وراء هذا التخصيص، ومدى شرعيته. إن التذكير بدور الأدب في حياة الشعوب والأفراد، ووظيفته التاريخية في إنتاج الوعي براهنية الذاكرة وحمولتها، ثم بمدى قدرته على تجديد الحمولة، من أجل توازن بنيوي بين ماض فاعل إيجايبا، في حاضر حركي، متجه نحو مستقبل أكثر انفتاحا على الماضي والحاضر، يجعل الأدب تدريسا ونقدا وتحليلا وانشغالا جوهر التحولات الذهنية.
لا يمكن تأمين السير المتوازن نحو المستقبل، إذا تم التخلي عن الأدب باعتباره شريكا في هذا السير. وعندما نعتمد قراءة الكتابة النسائية ضمن التصور النقدي الذي يجعل منها خطابا مُنتجا لتصورات جديدة، ومفاهيم غير مألوفة، نلتقي بأعمال نسائية، وضعت القارئ أمام تجل جديد لمفهومي المرأة والرجل، ودعت التفكير إلى إعادة النظر في المفهومين. وهي بذلك، تقترب من الذاكرة الجماعية من خلال الإبداع. لا تعتمد مثل هذه النصوص على طرح موضوع التجديد في دلالات «المرأة والرجل»، بانتصار الحكاية المألوفة، إنما بطريقة الخطاب، ففي الوقت الذي تحافظ فيه الحكاية على السائد في تصريف المفهومين/الرجل – المرأة، يخترق الخطاب هذا السائد، ويقترح مُعادلة مختلفة تُربك الوضع العام للنص، أسلوبا ولغة وكتابة.
عندما نتحدث عن خصوصية الكتابة النسائية في صياغة أبعاد جديدة للمفاهيم المُتداولة، فإن هذا الشكل في الكتابة يؤسس أسلوبا جديدا، وهذا ما نلتقي به في عيَنة من الروايات النسائية، التي لا تستهلك رتابة الذاكرة الجماعية، ولا تُدعَم نظام الحمولة، بقدر ما تضعنا أمام خيارات جديدة للتعامل مع مفهومي المرأة والرجل. يتشكل مفهوم المرأة في رواية «كوابيس بيروت» (1987/ط 6 )، للكاتبة غادة السمان، باعتبارها منتجة للمعنى، ومانحة الحياة من خلال السياق العام للنص، إذ تسخر المرأة في هذا النص من الحرب، تقول الساردة «وانفجرت أضحك وأضحك وأشهق بدموع يا بيروت، يا مسرح اللامعقول» (ص 16). لا تحكي الساردة عن الحرب مباشرة، ولا تُحول الحرب إلى موضوع لحكيه، كما نجد في روايات كثيرة، تصف الحرب، وأسبابها ومظاهرها، وإنما تسرد الكتابة في «كوابيس بيروت» ما تخلفه الحرب على الإنسان، باعتبارها نتائج وانعكاسات، وليس موضوعا. تشهد المرأة تعاليم الحرب وهي مُشخَصة ماديا ونفسيا، ولذلك يتم الحديث عنها باختراقها لنفسية الساردة، ولهذا يُهيمن عنصر التدقيق والتفاصيل والجزئيات «كان البرد ينسكب من كل قطع الأثاث غير الأليفة المُحيطة بي» (ص 83). أما المرأة في رواية « بيروت 75» ( 1987/ط 5) لغادة السمان أيضا، فإن شكل حضورها يُخلخل تاريخا بكامله، يُكسر إيقاعا مألوفا اعتاده الرجل، حين مكنته الثقافة السائدة من التحكم في مختلف القرارات. فالمرأة في «بيروت 75»، تنتقل من مكان دمشق، إلى مكان بيروت، بحثا عن انطلاق الجسد صوب حرية غير محددة سلفا، وهو الوضع/الموقع الذي منحها حرية التصرف في الأعراف والتقاليد، وفي نظام القيم المعتادة بشكل أربك الرجل/» نمر» الذي ما عهد أن تكشف/تعبر المرأة عن رغبتها الجنسية. إنها تُخيفه بخطابها/سلوكها التعبيري، ولهذا يخشى التصريح من قبلها، لأنها تزعزع بذلك سلطته/فحولته، «وها أنا أستسلم لنهر النار الذي يجرفني، نهر الآهات الكاوية»، «وها أنا أخيفه بشهيتي إليه، فهو لن يفهم أنني لست مومسا، ولكن جوعي لجسده عمره أكثر من ألف عام» (ص 40). ولكي، تسخر الساردة من الوعي الذي يحمله الرجل/ نمر، فإنها تلجأ إلى عرض كلامه، بشكل مباشر، ولا تعتمد تسريده، من أجل إشراك القارئ في تحليل وقراءة ازدواجية الرجل/نمر بين سلوك يمارسه باسم التحرر، وانشداده- المستمر- للإرث التقليدي. ولعلَ ذلك، يتضح من المقطع الحواري بين نمر وياسمينة: «- (…)هل تصدقين أنني أستطيع أن أتزوج من امرأة أسلمتني نفسها قبل الزواج؟ – لماذا لا؟ ألم تقل لي مباهيا أنك نصحت والدك بإدراج قضية مساواة المرأة بالرجل وتحررها في بيانه الانتخابي حين يُرشح نفسه للنيابة؟ لم يرد، وإنما صار يردد بذهول: «أنا أتزوج امرأة ضاجعتها قبل ليلة العرس؟ أسلمتني نفسها قبل الزواج؟» (ص 25).
إذا كانت الكتابة الروائية عند غادة السمان تعرض كلام الرجل، لتفضح ازدواجيته، فإن الكاتبة الكويتية ليلى العثمان توظف تقنية سردية لكي تصعد مشهد الازدواجية، وتكشف تمظهراتها، حين تجعل الأب والابن (الرجل) في روايتها «المرأة والقطة» (1985 )، يدخلان في عراك وصراع حول الخيانة المتوهمة للزوجة (زوجة الابن) إذ، تبدو زوجة الابن/»حصة» واثقة بنفسها، على الرغم من صغر سنها، وقلة تجربتها، وتستمر في الحياة بشكل طبيعي، مُتحدية نظرات زوجها/ الابن، المملوءة بالشك، التي تتهمها بالخيانة الزوجية: «لم أكن أبدا ذلك المزارع وأرضي فيها بذرة غيري.. وضعفي يطول كلما لفحتني من صدرها رائحة البلل الأنثوي، يحذرني… ويجذبني إليها أنسى حتى أن أسأل عن عزيمتي، ذلك الهر الذي استطاع أن يحقق لها ما لم استطعه. وأعاتب نفسي في قسوة» (98). تمنح الكتابة السردية في رواية «المرأة والقطة» للزوج/الابن – سالم دور السارد المتحكم في بناء المنظومة السردية، وتقديم الشخصيات، ولكنها تجعل سلطته في التسيير السردي، تتلاشى تدريجيا مع حالة الضعف التي ستلحقه، في مقابل قوة الزوجة/ حصة الصامتة. يظهر ذلك، من عدم جرأة «سالم» على مواجهة «حصة» في البطن المنتفخة، معتقدا أنه غير مسؤول عن الثمرة التي تكبر، ومعها يكبر شكه وهمه واتهامه للشريك/ والده. وفي عدم القدرة على مصارحة «حصة» يتضح خوفه من مواجهة ضعفه.
إنه يخشى اكتشاف عجز فحولته، وتدمير موقعه وسلطته. توظف الكتابة عند ليلى العثمان الزمن النفسي، من أجل تفجير وضعية الرجل، وجعل سلطته تهتز، وتُربك المفهوم التاريخي المألوف حول الرجل باعتباره ذاتا مكتملة. ولعل الزمن النفسي الذي عاشه البطل/سالم على امتداد الحكاية، يعد تقنية سردية وظيفية، مقابل صمت الزوجة الذي يتحول وفق الحضور القوي لشخصيتها الهادئة، المنسجمة مع الجو العام للبيت، إلى كلام صاخب، يدفع بالحالة النفسية للزوج إلى التأزم. كما تنتج الكتابة بهذه التقنية، مفهوم السخرية من الرجل/ سالم، الذي لا يفقه جغرافية جسده، ولا يُدرك معنى فحولته، لذلك تسخر منه أمه، حين تطلعه على حقيقة البطن، وأنه زارع الثمرة. ويشكل مقتل «حصة» المُعادل الموضوعي للجهل الذي يتجلى بشكل واضح في سلوك «سالم»، باعتباره زارع الثمرة من جهة، وجاهلا بهذا الفعل من جهة ثانية. إذا كانت حكاية الروايات تستهلك التصورات نفسها (المرأة/ الموضوع (الصامتة)، الرجل/الذات (المتكلم والمقرر)، فإن السرد يخترق منطق الحكاية، وينتصر عليها، حين يقترح رؤية مختلفة لوضعي المرأة والرجل في مجال تدبير الحياة، وإنتاج المعنى. لا يقصد خطاب هذه الروايات إحداث نوع من رد الفعل، وإنما جعل الذاكرة تنفتح على دلالات مختلفة، وترتوي بالحياة الجديدة للمفاهيم.

كاتبة مغربية

زهور كرام


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى