هدية حسين - خطانا الغريبة

وحيداً ومتوحداً يجلس، في ركن قصي من حانة صغيرة تدعى "روز" ، هو نفسه الركن الذي يختاره كل مساء، أحياناً يدخن ويتابع خيوط الدخان كمن يبحث فيها عن شيء مُضاع، أو يقرأ في كتاب صغير يشبه كتب تعليم اللغة الانكليزية، وكثيراً ما ألمحه يتفرس في وجهي، وما إن تتلاقى نظراتنا حتى يشيح بوجهه الى الشارع.
رجل لا تشي ملامحه عن عمر محدد، ولكنه بالتأكيد تجاوز الخمسين، وكلما رأيته ازددت يقيناً بأنني التقيته في زمن ما، حتى اقتنعت أنني أعرفه، ولكن كيف ومتى وأين؟
حانة روز لا تبعد كثيراً عن قلعة أدنبرة الشهيرة، إنها على الامتداد نفسه للشارع المواجه للقلعة التاريخية المعلقة على سلسلة جبال شاهقة.. لا تلفت الانتباه إلا الى بابها الخشبي العتيق، وفوانيسها المزروعة في أعلى واجهة الباب، لكن ما إن تدلف الى الداخل حتى تحتويك قاعتها الفسيحة، وأضواؤها الخافتة المتسللة من ثريات صغيرة على شكل كرات ملونة، وفوانيس جانبية تلتصق بالجدران المكسوة بخشب البلوط.. تقطع القاعة أربعة أعمدة بمرايا معتمة تسبح فيها أشعة الأضواء.
الوجوه في المرايا تبدو غامضة، وحينما ترى الوجوه الغامضة، يراودك إحساس بأنك في عالم آخر، تحكمه النظرات المريبة أو الغريبة فيتخلخل إحساسك بالوجود، لذلك أفضّل أن لا ألتفت الى المرايا، ولا أمكث الى ساعة متأخرة، وقتي المفضل هو ما بعد الظهر، أو في أول المساء.. الهدوء يخيم على المكان، مما يتيح لي الانشغال بكتابة خواطر تأتي من زمن خلفته ورائي وصار ضبابياً، أو التأمل في نصفي الأوروبي الذي يحاول أن يعصف بنصفي العربي بكل قسوة، دون أن يستطيع ولو مرة واحدة قهره أو جعله يتقهقر.
لم أتراجع عن قراري حين عزمت على الاقتراب من الرجل، كنت دائماً أختار الجلوس على بعد مترين أو ثلاثة، في المقعد المقابل له، جوار الزجاج الصقيل الذي ينفتح على تفاصيل الشارع، أنتظر أن تلتقي نظراتنا، ربما يدعوني الى طاولته.
هذا الصباح كان الجو غائماً، وعند الظهيرة بدأت الغيوم تتكاثف وتصبح داكنة، وفي أول المساء هطل المطر بغزارة، وحين دخلت حانة روز راكضة من الشارع وهاربة من المطر، كان كعادته يسبقني الى هناك، إلا أن مقعدي لم يكن شاغراً هذه المرة، فجلست في مقعد آخر لا يتيح لي السفر في تقاطيع وجهه.. لم يكن يقرأ في كتاب ولا يدخن، كان يحتسي الخمرة ويشرد بعيداً، ليس الى تفاصيل الشارع، وإنما الى شوارع وأزقة وبيوت ووجوه تركها في مكان ما من العالم.. هكذا أخبرتني مخيلتي.
حين ثمل ذات مساء في الحانة، غنى بصوت مهموس "غريبة الروح" وبدا أنه لا يتذكر بقية الأغنية فتوقف عن الغناء، وشعرت وقتها بالحاجة الى الضحك، مع أن الموقف لا يتطلب الضحك، فكلمات الأغنية جارحة.. وعندما عدت الى البيت أحسست برغبة للبكاء.. كانت روحي تنزف غربة.
في ذلك المساء كان المطر ما يزال غزيراً والفرصة مواتية للاقتراب منه، وكان الدافع قوياً لأفعل ذلك، غير أنه في اللحظة التي هممت فيها للنهوض، نهض هو الآخر وغادر المكان مسرعاً كما لو أنه على موعد.
وفي مساء اليوم التالي كان يدخن بشراهة، حتى أن ملامحه غابت وراء كثافة الدخان.. كنت أتمنى لو يدرك وجعي وأنا أتذكر موت أبي بسبب التدخين، وكنت عازمة في الوقت نفسه على كسر عزلته، غير مكترثة بما سيؤول إليه الأمر، لذلك حملت كأس العصير واقتربت من طاولته، نظر إليّ نظرة سريعة، ثم جالت عيناه في المقاعد الفارغة، وعاد ثانية للنظر إليّ كمن يقول كيف تتجرأ هذه البنت وتجلس الى طاولتي من دون أن تستأذن، على الرغم من أن هناك الكثير من المقاعد الفارغة؟ لكنني ابتسمت وسلّمت عليه بكلمات عربية، ثم ما لبثت أن سألته: هل تريد أن أكمِل الأغنية؟ لم أنتظر الرد، بل رحت أردد بصوت مسموع: لا طيفك يمر بيها، ولا ديرة التلفّيها.. كل من في الحانة التفت نحوي، ولا يبدو أن أحداً فهم المعنى، أما هو فقد انفرجت شفتاه عن ابتسامة مشحونة بالأسى، وعاد يمسح المكان بعينين وجلتين:
ـ ما الذي يخيفك يا سيد.....
انتظرت أن يقول اسمه، لكنه قال:
ـ لا ضرورة للأسماء هنا.
أطفأ سيجارته في المنفضة، بينما سألته:
ـ إذن بماذا أسميك؟
رمى نظرة الى الشارع، كانت امرأة تدفع عربة طفل أمامها، وحين اختفت قال:
ـ الغريب.
ـ طيب يا سيدي الغريب، يبدو أنك لاجئ جديد.
ـ منذ مدة قصيرة.
ـ أنا هنا منذ عشر سنوات.
كان يفرك أصابعه ويتلفت بتوجس من حين لآخر، كررت عليه السؤال:
ـ ما الذي يخيفك؟
ـ أخاف خطاهم.. إنها في كل مكان حتى لو كنت في آخر الدنيا.
ـ هل تخاف الموت اغتيالاً؟
لمحتُ دمعاً يترقرق في عينيه وهو يقول:
ـ أخاف على ابنتي، إنها آخر ما تبقى لي.
ساد صمت لم يطل كثيراً، كسره بالقول:
ـ ما الذي يجعل الوطن قاسياً، ويجعل أبناء جلدتنا قساة على هذا النحو فيطاردون خطانا في البلدان الغريبة؟
لم أجبه، لكنني سألته:
ـ لماذا هربت؟
تأخر في الإجابة وأشعل سيجارة، نفث دخانها نحو الزجاج ثم قال:
ـ لم أرتكب جرماً، لكنني رفضت الوشاية بجاري حينما طلبوا مني معرفة انتمائه الحزبي، ولأنني أعرف أن عدم امتثالي للأمر سيكلفني رقبتي فقد غادرت البلاد، هذا كل ما في الأمر.
ساد الصمت ثانية، وهذه المرة صمت مشحون بالمرارة، بدّدته بالقول:
ـ إذا شئت سأكون لك عوناً في اجتياز محنة الشعور بالغربة، وفي إعطائك دروساً باللغة الإنكليزية.
ضحكت وأنا أضيف: بلا مقابل مادي.
لم يقل سوى كلمة شكراً، قالها وزادني إحساساً بأنه يخفي شيئاً لا يريد البوح به، وكدتُ ألتقط بعض خيوط ذلك الشيء لولا أنه أمسك بعلبة سجائره وهمّ بمغادرة المكان، قال إن موعد الدواء قد اقترب.. لم يترك لي فرصة السؤال عن مرضه، سار خطوتين باتجاه الباب ثم التفت نحوي وقال:
ـ حسابك مدفوع...
قلت: عاطفة... اسمي عاطفة.
أدهشني حين قال: أعرف!
رافقته عيناي وهو يخرج الى الشارع، ثم يتوارى خلف إحدى البنايات، وكان وجهه ما يزال يجلس معي في الحانة، أتفرس فيه وأتساءل: أين التقينا من قبل، وكيف عرف اسمي؟
في الليل اضطرب نومي، كان وجه الرجل الغريب يتموج في فضاء الغرفة، يبتعد عن سريري ويقترب، يُبعِد الظنون والتوقعات، ثم فجأة تذكرت أن أبي كاد يهرب من البلاد ذات مرة حين طُلب منه أن يشي بجارنا، لكنه اهتدى الى الانتقال من الحي الذي نسكنه ليبعد عن نفسه شر البلاء، وأنه كان يمكن لو بقي على قيد الحياة أن يكون بعمر الرجل الغريب، وبذات ملامحه.
غمرني شعور طاغٍ بالحنين لرؤيته، وفي اليوم التالي، عند أول المساء أسرعت الى حانة روز، سبقته في المجيء وجلست في الركن الذي يجلس فيه.. لكنه لم يأتِ، تأخر كثيراً على غير عادته، وساورتني الظنون، لماذا لم أسأله عن مكان سكنه وعن مرضه؟ أيكون قد..... وطردتُ هاجس موته الذي اعتصر قلبي.. مر الوقت ثقيلاً وهبط الظلام كثيفاً على المدينة، ولم يأتِ.. مرّ يومان، وثلاثة، وخمسة، كاد صبري ينفد، وحين سألت النادل عنه حرّك رأسه ورمشت عيناه محاولاً التذكر، ولما عجز رحتُ أصف له الرجل، الا أنه نفى أن يكون هناك رجل بهذه المواصفات يأتي الى الحانة، هو نفسه النادل الذي يقدم له الخمرة ويأتيني بالعصير، فلماذا يُنكر وجه الرجل الغريب ويتركني للحيرة؟
في الليل، وفي النهار أيضاً، أثناء العمل أو حين أتسكع، يرافقني وجه الرجل الذي لم أعد أراه.... ولم يعد غريباً عني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى