أحمد رجب شلتوت - أي علاقة بين الذاكرة والخيال في السرديات العربية المعاصرة

في روايته “خفة الكائن التي لا تحتمل” يقول ميلان كونديرا “نحن نعيش نصف حياة فقط، أما النصف الآخر فذاكرة”، هكذا ينسب للذاكرة نصف عيشنا، لكن النقاد في حديثهم عن مصادر الإبداع، اختلفوا بشكل كلي في تناولهم لسؤال: هل يعود الإبداع إلى الخيال أم إلى الذاكرة؟

– اختلف نقاد الأدب في تناولهم لمسألة الذاكرة وارتباطها بالإبداع الأدبي من عدمه، فمنهم من يرى مثلا أن الإبداع الروائي خيالا محضا لا يلعب التذكر فيه إلا دورا ضئيلا، وعلى العكس من هؤلاء هناك من ينظر إلى الرواية العربية عموما باعتبارها ظاهرة من ظواهر الذاكرة، إذ انصرفت إلى تذكر الماضي لا إلى تخيل عوالم لا علاقة لها بالواقع.

في هذه المسألة يقف الناقد والأكاديمي الأردني الدكتور إبراهيم خليل موقفا وسطا فيؤكد على أن التذكرُ، والتَخْييل، صنْوان يعملان معًا في نسج الخطاب السردي، ولا يمكن للمبدع أن يستغنى عن أحدهما، وحتى لا يكون كلامه محض تنظير عمد إلى إثبات ذلك تطبيقيا في أحدث كتبه ”الذاكرة والمتخيل في الخطاب السردي”.

انثيال الذاكرة
يخصص الكاتب القسم الأول من كتابه، الصادر مؤخرا في عمان عن دار أمواج للطباعة والنشر، لدراسة التذكر في عشر روايات، ويبدأ برواية “وداعًا يا زكرين” لرشاد أبي شاور، فيقول إنها تستعيد وقائع تاريخية لما حدث لقرية زكرين التي احتلتها إسرائيل عام 1948، وجمعت بين السيرة والتاريخ والسرد الروائي، ويأخذ عليها الإسراف في التقاط التفاصيل من انثيالات الذاكرة، مما جعلها تبدو وكأنها بحث في العادات والتقاليد.

وأشار الناقد إلى أنه نظرا إلى كوْن الحوادث التي تعالجها الرواية تاريخية، فقد استدعت دورا للذاكرة، ونظرا إلى أنها بعيدة في الماضي، فقد سمحت باتساع هامش التخييل، وتجاوز البعد الوثائقي.

دراسات عن التذكّر

وإذا كانت شخصية حبيبة في رواية ليلى الأطرش ”لا تشبه ذاتها”، تصف مرحلة ما قبل هجرتها إلى لندن بأنها “ذكرياتٌ مختلطة عن وطن بعيدٍ”، فإن الذكريات تبقى من أهم ما اعتمد عليه البناء الروائي، فحبيبة تصاب بالسرطان. وتحتاج للعلاج الكيمياوي. وآثرت الانتقال من مستشفى شارينج كروس بلندن إلى مركز الحسين للسرطان بعمان وفي الأثناء تنثالُ عليها الذكريات، وكأنها تكتبُ رواية تخاطبُ فيها طليقها منذرًا، راوية الكثير من الوقائع التي تُذكِّرُه بها، والحوارات التي دارتْ بينهما، أو بينها وبين شخصيات الرواية الأخرى، كاشفة، في الوقت نفسه، عمّا هو مضمر في هاتيك الحوارات، أو الوقائع. مما يتيح للقارئ الاندماج بأجواء المعضلة الأفغانية، والمسألة الفلسطينية، على حدٍّ سواء.

أما رواية “المحاصرون” لفيصل حوراني، وبالرغم من انتمائها إلى أدب السجون، وهو بطبعه يعتمد كثيرا على الذاكرة كنوع من الحنين للحرية خارج أسوار السجن، إلا أن معرفتنا بشخوص وأحداث الرواية لا تتوقف على ما يذكره السارد، ولكننا نزداد معرفة بالشخصيتين الرئيستين سميرة، وخالد، من خلال الأفعال التي يقومان بها، فالكاتب لجأ إلى هذه الطريقة التمثيلية في سبر غور الشخصيات.

وفي تناوله لرواية “صيف مع العدو” لشهلا العجيلي ينطلق الناقد من الإهداء، إذ توحي الكاتبة بعبارتها “إلى الرقة كما ستبقى في ذاكرتي” توحي أن روايتها تقوم على ركنين أساسيين، هما المكان (الرقة) والذاكرة بصفتها إحدى التقنيات السردية التي يلجأ إليها الروائيون لاستبطان عوالم الراوي المشارك ـوهو هنا لميس- ولعل في إشارتيها “ستبقى” و“ذاكرتي” ما يومئ أيضا إلى استعادة الماضي، لا بصفته شيئا كان ومضى، بل بصفته “كان ما سوف يكون”، فلو لم تكن لميس هي التي تتذكر ما تتذكره، لوجب على شهلا العجيلي ألا تغفل عنه، ولا تنساه.

ويستطرد الكتاب في تناوله لعلاقة الذاكرة بالتخييل في السرديات العربية المعاصرة، عبر دراسات أخرى هي: الذاكرة والمتخيل في “قسم البنفسج” لجمال القيسي، والأنا والآخر في “سجين المرايا” للكويتي سعود السنعوسي، ورواية “شامان” للعراقي شاكر نوري، ورواية “صندوق أسود آخر” للكويتي إسماعيل فهد إسماعيل، ورواية “البحّار” لهاشم غرايبة، وأخيرا رواية “1989” لعصام سليمان الموسى.

سوريالية نسوية
أكثر من أربعين كتابا للنقد للأكاديمي الأردني ابراهيم خليل
أكثر من أربعين كتابا نقديا للأكاديمي الأردني إبراهيم خليل
يضم القسم الثاني من الكتاب تتبُّعا لظاهرة التذكر في القصة القصيرة، عبر ثماني مجموعات قصصية هي: “مقهى الباشورة” لخليل السواحري، “كجثة مباركة” لسامية العطعوط، “جوار الماء” لأماني سليمان، “سرير بنت الملك” لشهلا العجيلي، “هموم الورد” لهدى أبوغنيمة، “طُرُزُ الغرْزة” للمغربي أحمد المديني، “زهريت” لرمزي الغزوي، “أرملة الفرح” لتغريد قنديل.

ويلاحظ القارئ أنّ خمسا من بين هذه المجموعات الثماني لكاتبات، ويرى الكاتب أنهن عملن على ربط الإبداع باللاشعور، وقمن بتحرير الخيال من أيّ ارتباط بالعقل الواعي، والتخلّي عن المنطق في حَبْك الحكاية، والاستسلام لمنطق الحلُم، كما في مجموعة “كأي جثة مباركة” لسامية العطعوط، ففي قصص “كرّاسة الحرب” تقدم رؤيتها المشوِّهة للواقع المتّـشح بلهيب الحروب الأهلية المستعرة، والعمليات الإرهابية، التي تحيل هذا الواقع إلى واقعٍ مُفخَّخ، ويرصد الكاتب لجوء سامية العطعوط إلى الكوابيس، وأنها تستبعدُ الروابط التي تصل بين المتواليات السردية، وتطلق لخيالها العِنان، فتصوِّرُ الواقع تصويرًا يصلُ بنا إلى تخوم الغرائب.

ويرى الناقد أن “سرير بنت الملك” لشهلا العجيلى ضمّت قصصا تعرّي الواقع، ويلفت الانتباه فيها اعتماد الكاتبة على التواتر، كما فى قصص “مذكرات حذاء سندريلا”، “بلدى حبيبى”، و“الأخطبوط”.

أما أماني سليمان فتستعيد في مجموعتها “جوار الماء” أجواء الطفولة، ففي قصة “جُحْر” تروي شيئا عمّا يشعر به الطفل من إحساس بلذَّة الكشف، عندما يشاهد لأول مرة هنديا يُرقِّصُ الأفعى على نَغَمات الناي. وفي قصة “سرير” يستمتع الطفل بلذة الاكتشاف حين يحاول الاختباءَ تحت السرير، ليجد الكثير من الألعاب والدُمى، التي تخفيها أمُّه عنه. يحتضن دبَّه المفضل، ويربت على كتفيه بحنان، ولكن هذا الطفل، كغيره من أطفال قصص “جوار الماء”، لا يقتنع بهذا الاكتشاف، وحْدَه، إذ يغدو أسيرا لدى رؤاهُ المناميَّة التي تراوح بين عذوبة مشاكسة، وقسوةٍ، تفتح عيْنيه على عالم غريبٍ، قبل أنْ ينتبه ليد أبيه تجذبُهُ بقوة من تحت السرير.. كذلك يلحظ الناقد غلبة الهموم النسوية، والأنثوية، كما في “أرملة الفرح” لتغريد قنديل، وهموم الورد لهدى أبوغنيمة.

ويذكر أن للمؤلف أكثر من أربعين كتابا في النقد منها: أقنعة الراوي، وتأملات في السرد العربي، وبلاغة الرواية ومسارات القراءة، وروايات عربية تحت المجهر، وشعرية القصة وحوار الأجناس، ومراوغة السرد وتحولات المعنى.


أحمد رجب شلتوت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى