محيي الدين محجوب - من سيرتي: كتبت علاقتي في السلم الموسيقي.

محوُ أُمّية الخيال
صورٌ كثيرةٌ
في ألبوم ذكرياتي.
لكي أُكمل الصّورة
أحتاجُ أُوفّرُ قوتاً
لخيالي.

التقطتني يقظةٌ في صغري لمّا سحرتني الصّورة، باكرًا نزفت من طفولتي بنبيذ الرّوح، صورةٌ ملوّنةٌ وأخرى مركّبةٌ لها القدرة على إظهار أكثر من مشهدٍ، تعلّقتُ كثيرًا بهذه الصّور، اقتنيتُ بعضها من سوق صرمان، وفي هذا السّوق كنت كثيرًا ما أُطيل الوقوف أمامها أتأمّل تفاصيلها التي تتحوّل آنذاك إلى أفكار بسيطة وساذجة، صورٌ وأشكالٌ لمنمنماتٍ إسلاميّةٍ مرسومةٍ على أغلفة الكتب، وعلى السّجاد، زاخرة بالملاحم، مستلهمة من قصص التّراث العربي الغامرة بحضور أبطالٍ شعبيّين ذوي شهرة كبيرة استأثرتْ على اهتمامي واهتمام كثير من أبناء جيلي لما حملته من متعةٍ فنيّةٍ أخذتْ بالألباب.
من بين شخصيّات هذه الصّور يستلُّ عنترة العبسي قلبه العاشق من غمدٍ، وصورٌ لخيولٍ تُعلن عن أـصالتها، وأخرى تُصوّر تباشير النّصر لفرسانٍ في مضمار السّباق، ولنساءٍ فاتناتٍ تحرّقتْ لهنّ الأفئدة.
من بين تلك الصّور الآسرة، منظرٌ بهيٌّ لحديقة السّوق (صرمان) بحوضها المائي، النّافورة، ومجموعة الأزيار الموزّعة على حوافّه، منظرٌ يُجسّم تجلّيات ومآثر هذه الحديقة العتيقة التي تجاوزت المائة عام.
وكان للرّجل البركة التّواتي الخويلدي، (من مدينة الجميل)، زياراته الدّائمة لوالدي ولبعضٍ من بيوتات المنطقة، فكان إذا ما قدم إلينا يُقدّم لي بعض الصّور التي ترصد لجمال الفروسيّة في بلادنا أو أيّ منظر آخر، لكلّ ذلك أثره الخاصّ في تكوين ذهنيّةٍ قادها تَوقها للانحياز إلى روحٍ تعشق الجمال.
أيضًا، في بيت خالتي مريم رحمها الله، شاهدتُ صور ملصقات صغيرة تُزيّن الجدران تحمل صورة الزّعيم الرّاحل جمال عبد النّاصر مُزدانة بقصيدة لشاعر الشّباب علي صدقي عبد القادر المحامي وهو بياقته الشّهيرة التي أثارتْ أقداحَ انتباهي في تلك الآونة، وهي المرّة الأولى التي أرى فيها صورة هذا الشّاعر وأقرأ له قدحاته.
أثناء دراستي الإعداديّة الدّينيّة، أذهلني الصّديق: جمال عبد الله قراف بالتقاطاته الجيّدة التي تتنفّسُ داخل قدرته في التّعامل مع الكاميرا.
ضمن هذه اللّحظة العاشقة للصّورة، اقتنيتُ (كاميرا بولارويد) من الحاج بلقاسم بن عبد الله الماقوري، مصوّراتي كان له محل تصوير بالسّوق، وبحدقات خيالٍ ينضج تركتُ لأصابعي إتقان اللّعب مع زرّ الكاميرا والتقاط بعض الصّور لتجميد لحظةٍ رائقةٍ، لا زلتُ أحتفظ ببعضها وهي تُوثّق لأيّام انسابتْ كماءٍ من بين أصابع الحياة.
إحدى هذه الصّور صنعت ورود لهفتها، منحتني عبق أشجار الزّيتون التي تعجُّ بها سانيتنا، وفي ظلال إحداها جلستُ أتصفّح كتابًا ما، ومعي عبد المنعم غارقٌ في تأويلاته.
رأيتُ في هذه الصّورة مكانًا أحببته نكّلتْ به بشاعة الأسمنت.
كان ذلك درسي الأوّل في محو أُمّية الخيال.

محيي الدين محجوب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى