علاء الدين محسن - مواساة

عندما وضعت قدمي على أول سلم الميناء الطالع من البحر إلى المدينة، من الزرقة إلى القهوي الباهت للأسوار التي تحيط هذا العالم الذي أطأه لأول مرة، التقيت بمليكة. كانت تودع أو تنتظر عزيزا رحل أو عزيزا على وشك الوصول، ففي عينيها كان ثمة فرح مشوب بالحزن. سألتها عن الطريق إلى وسط المدينة فقالت إنها ذاهبة إلى هناك، فسرنا معا.
- أنت هنا لأول مرة؟
- نعم.
- يظهر عليك إنك أستاذ؟
- نعم.
- هل تكرر كلمة نعم كثيرا؟
- نعم.
اذكر أن حسن يوسف الشاب الخجول في احد الأفلام المصرية القديمة تبادل الحوار نفسه مع الصبية التي يهواها، ولكن حواري مع مليكة لا علاقة له بذلك الفيلم، لأنني عندما التقيتها لم أكن قد شاهدته بعد، وهي ليست صبية، وأنا لست خجولا وهي ليست فتاة أحلامي. ولكن الحوار الأول دار بيننا بهذا الشكل لأنني كنت متوترا، وهي حالتي عندما أكون مقدما على مدينة جديدة وبلد غريب علي للمرة الأولى. كانت لدي لحظتها رغبة غامضة في مشاكسة أول شخص ألتقيه هنا. وهي كانت جميلة ولا تستحق هذه المشاكسة، إلا أن اللعبة استهوتني فمضيت بها، وكل أجوبتي لم تكن، صادقة. فأنا لست أستاذا، ولكنها هذه اللحية اللعينة التي تعطيني وقارا لا استحقه. كنت مجرد عاطل عن العمل منذ زمن طويل. أما قبل أن أكون عاطلا فلم يكن لي عمل محدد، لأنني اشتغلت في كل حرفة تيسرت لي. نلت شهادة في الأدب، لا احد يشتريها في الغربة ببصلة. سألتني مليكة هل أنا جائع فأجبتها بنعم أخرى، ودخلنا مطعما للأسماك في الميناء. ونحن هناك ننتظر السمك المشوي الذي طلبناه مع نبيذ فرنسي ابيض سألتني لم لم اسألها أي سؤال حتى الآن. فقلت لها إنني أفكر فعلا بسؤالها عن اسمها ولماذا هي في الميناء ولماذا هي مبتسمة وحزينة في الوقت نفسه.
- اسمي مليكة لأنني ولدت بعد سبعة أولاد وأراد أبي أن أكون ملكتهم، ولكنني لم أكن ملكة عليهم في يوم من الأيام. لأنهم كانوا يضربونني كل يوم ويقولون إنني الجن الأسود الذي سيكون عارهم إلى الأبد. ولم أصبح ملكة إلا بعد أن تزوجني رشيد. لم يكن أول شاب أصادقه. عرفت شبانا كثيرين قبله، لأنني أحب الحياة. الم يخلقنا الله كي نحيا حياتنا؟ ألا تحب الحياة؟ أنت هنا لأنك تحب الحياة، أليس كذلك؟ أردت أن أجيبها إنني هنا بسبب الرئيس، ولكن النبيذ الفرنسي جعلها لا تسمع شيئا غير صوت رشيد وحكايتها معه، لذا واصلت دون ان تنتظر إجابة مني:
كنت ملكته. كان يحزن إذا حزنت ويضحك إذا ابتسمت ولا يخرج من الدار إلا إذا وافقت. كان يدخن ويشرب كثيرا ومنعته من التدخين والسكر فتوقف. كان يقول إنني خمرته التي تسكره طول الحياة. ثم طردوه من العمل وما عدنا نستطيع العيش على حبنا فقط، فقرر السفر إلى فرنسا. كنت هنا اليوم لتوديعه. قال لي وأنا اقبله انه سوف لن يغيب طويلا، سيعود غنيا وسوف يعود ويفتح شركة للنجارة ويعينني مديرتها. ماذا أقول لك أيضا؟ عندما أخذته السفينة بعيدا عني اكتشفت انه كان ملكي وإنني كنت جاريته.
ثم أخذت تبكي فطلبت زجاجة ثالثة من النبيذ كي اخفف حزنها، وبعد الزجاجة الخامسة قالت: لا داعي لان تذهب إلى الفندق، فبيتنا كبير وهو بعد رشيد موحش وأخاف الليلة أن أبقى فيه وحيدة. وأضافت: ثم إن الفنادق هنا قذرة وغالية. وهكذا قضيت ليلتي الأولى في هذه المدينة على فراش رشيد أواسي ملكته وأبدد وحشة الدار. وخلال عام لم يعد رشيد ولم تخفض فنادق المدينة أثمانها، والدار الكبيرة مع مرور الأيام أصبحت موحشة أكثر، وكان ضروريا ان أظل فيها، هكذا قالت مليكة، وأضافت إنني يمكن أن أظل هنا حتى لو عاد رشيد لان في سطح البيت غرفة يمكن بعد إصلاحات بسيطة أن استأجرها، وسيرحب رشيد بذلك، وحتى لو مانع فسوف تقنعه لأنه لا يرفض لها طلبا أبدا، وقالت جازمة حتى لو غيرته بلاد الفرنسيس ومانع فسوف تتركه وتذهب معي لأنها أحبتني.
وقد تعودت كلمة الحب في الروايات والأفلام، وكانت هذه هي أول مرة تقال لي شخصيا، لذا أجبتها كما في الأفلام والروايات إنني أحبها أيضا، ولن يقف ألف رشيد في وجه حبنا. ولم أكن ادري لحظتها هل أنا أحبها فعلا أم لا؟ ولكن هكذا كانوا يقولون في القصص والأفلام. الم يقلها عمر الشريف لفاتن حمامة؟ وهند رستم، ألم يقتل أحد الأخوين أخاه من اجلها؟ هذا في الأفلام أما مع مليكة فكنت كلما قبلتها وداعبت جسدها تقول إنني رقيق وان رشيد لم يكن يفعل ذلك بل كان يفعل ذلك الشيء مباشرة، ولهذا هي تحبني. وخلال حبنا اشتغلت في الميناء. كنت احمل مئات الأكياس على ظهري وأعود منهكا آخر اليوم لتتعبني مليكة أكثر. كانت لذيذة تعرف كيف تجعل جسدي المتعب يشتعل من جديد ونتبلل بالعرق وننطفئ معا.
ولم يرفض رشيد إقامتي في الدار الموحشة، لأنه لم يعد أبدا ولم تفاتحه مليكة بالموضوع. رغم ذلك لم أظل في البيت الكبير لأبدد وحشة غيابه، فقد عاد صديقه من فرنسا حاملا لها خمسمائة فرنك، وليبوح لها وبتردد إن رشيدا قد تزوج هناك، وإنهم جميعا يتزوجون فرنسيات ليحصلوا على الإقامة والعمل. قال لها أيضا إن لدى رشيد الآن طفلا أشقر اسمه ميشيل وزوجته اسمها فراسواز، وهي غنية لذا لا يحتاج رشيد للعمل وهو الآن يقضي أوقاته بالسكر. وقالت مليكة إن رشيدا لا زال يحبها لأنه عندما يسكر في بلاد الفرنسيس - كما قال لها صديقه - يناديها بإسمها فتغضب فراسواز وتضربه وتذهب لتقفل الغرفة عليها وتنام وحيدة. لكن فراسواز عندما تيقنت إن رشيدا لم يعد قادرا على مضاجعة ذبابة بسبب سكره، صارت تنام مع صديقه الذي هو للأسف مسلم ومن بلده ورغم ذلك لم يجد حرجا في النوم مع زوجة صديقه.
عندما سمعت مليكة كل ذلك غضبت وبكت، ولكنها لم تضربني كما ضربت فرنسواز زوجها، ولم تكن بحاجة لان تفعل ذلك لأنني لست زوجها، ولأنني لم أهاجر إلى فرنسا، ولم أعدها بالثراء وبمصنع للنجارة تكون مديرته، ولم أنجب ولدا اسمه ميشيل. لذا اكتفت بطردي من البيت وهي تصرخ وتنتحب بأن الكلاب أحسن منا نحن الرجال لأنها وفيه.
ذهبت إلى فندق المسافرين بعدما غادرت فراشها، وهناك اكتشفت إنني أحبها، وإنها ملكتي وجسدها هو الذي يعطي لأيامي رائحتها. ومع كل امرأة كانت تندس في فراشي كنت أتذكرها. فهي المرأة التي وضعت بين يدي جسدا ومدينة وبلدا، وكانت اللذة والدليل والمفتاح. وكنت ككل الغرباء أتوق إلى سرير دافئ وجسد يطمئن إليه ويعرف طقوسه وخرائطه بدل الوطن الذي ضيعه. مليكة كانت امرأة يظل عطرها وشهقات نشوتها عالقين بذاكرتك إلى الأبد.
**
هذا الصباح رأيتها في الميناء. أنا راحل إلى بلد آخر، وهي تودع أو تستقبل شخصا ما. شهقنا لرؤية بعضنا. قالت إنها هنا لوداع زوجها المسافر إلى فرنسا. وقالت إنني أعرفه فهو صديق رشيد الذي جاءها بخبر زواجه. انه ليس مثلك أيها الغريب الذي قلبه من حجر والذي لم يسأل عني لمجرد إنني غضبت منه في لحظة يأس من الدنيا والناس، فهو استمر يواسيني ويعالج وحشتي بعد صدمتي برشيد، حتى تزوجنا. مسحت دموعها وأضافت إنني يمكن أن أعود إلى البيت لان حياة الفنادق القذرة لا تليق بي والبيت سيكون موحشا ابتداء من الليلة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى