محمد الجالوس - فاين جيب فاين.. قصة قصيرة

فاينجيب فاين .. فاينجيب فاين , ظل يرددها لنفسه و هو الوحيد الذي يسمعها دون بقية المارة , ومن باب الفضول المحض ، ايقظت كل حواسي ، وحبست أنفاسي المتلاحقة لسماع ما يقول .. كدت أمسك بالكلام، لكنه سرعان ما يتبعثر.

رجل قصير القامة بشاربين اشعثين ، أنفه الدقيق المحاط بخدين منتفخين بعض الشيء، رأسه الخالي من الشعر تماماً، تظهر في أعلى جبهته، ندوبٌ تبعثرت حتى حافة الحاجبين، خلته خرج للتو من حكايا كافكا أو خوابي فيكتور هيجو .

يقف على حافة الشارع الضيق المفضي إلى مطعم هاشم في قاع مدينة عمان، بقايا سيجارة مشتعلة تتدلى من طرف فمه , قميص صوفي أصفر تحول بفعل الفوضى المتراكمة وغبار الشوارع إلى رمادي ملوث بالطين ، على أن الجاكيت البيج الذي يرتديه ، تحول هو الآخر إلى قماشة بنية , يتخللها الكثير من بقايا طعامه وسخام الموقد في بيته , بيته الذي يتكئ على حافة جبل القلعة كما قال لي .

اسمه عبد الرحيم، هكذا أسر لي بصوت خفيض، ثم اتبع المقطع الأول بستة مقاطع، بدت لي أسماء من أحشاء التاريخ، تنتهي باسم يوحي بالجمال، اسم ما، مزركش لم أعد اتذكره، وبما أن الشيء بالشيء يذكر، بادرته بسؤال، بدا لي، اقتحام لعالمه المكتظ بالتراجيديا، قلت: ما هذه البضاعة، كنت على يقين أن لا إجابة محددة لديه، تابعت: وهذ المذياع والمروحة القديمة وبقايا العلب الفارغة وأواني الطبخ القديمة ومقابض الحمامات، تلك المقتلعة عنوة من البيوت، بدعوى التجديد والمذياع، عدت للمذياع

وبادرته:

هل يعمل ؟، تحفز أول الأمر كمن يدفع تهمة ما , عن نفسه , ثم همهم بكلمات تفيد أن مذياعه يعمل ، اقتربت أكثر من جهاز الراديو لاكتشف الصوت ، إنه محطة غامضة بإشارات كهربائية وترددات منفعلة , متقطعة, تنتهي بصفير ما .

سار كل شيء بهدوء , وأنا أصغي لهمهماته ، كلمات يرددها بسرعة ، اعتقدت للوهلة الأولى أنها فرنسية : فاينجيبفاين ..... فاين جيب فاين ....آه... , إنه يقول فاين وجيب ، إنها من الجيب ، الجيب ما غيره ، إنه يدرب صوته ويعده لأيام تجارية قادمة ، ربما يحلم بها ...بضاعته المتناثرة بعناية فائقة , تفترش عربة خشبية , مغطاة بصندوق هو بقايا باب قديم , أكبر حجما من العربة , ...ما علينا .....المهم أنه استودعني سراً آخر . مفاده: أنام في بيت مهجور. وطلب مني أن أقدم له خدمة، بعد أن سألني: هل تنتظر شخصا ما هنا؟ قلت: نعم، تفضل.

ثم أتبع: ...احرس لي هذه البسطة، سأعود بعد ثلاث دقائق , ابتسمت , وأومأت براسي بالقبول , فقد استأمنني على عربة تجارته , قلت وأنا أخطو قليلا باتجاه العربة : إلى أين تذهب

قال: املأ قارورة الماء من مطعم هاشم وأعود، ثم أردف (بهمش بغلبك) .



وقفت في ذات المكان الذي اعتاد أن يقف فيه , وصرت أهمس لنفسي ..فاين جيب فاين ... فاين جيب فاين. لم أكمل الدورة الثالثة , حتى جاء من أنتظره ، وبمجرد وقوف صديقي حسن إلى جانبي , بدأ يقلب البضاعة ، بعد أن تساءل عن سر وقوفي أمام العربة .



بقايا قطع معدنية غامضة وعلبتا فاين جيب اكتست بالغبار وآثار لأصابع ملوثة وبضع صفحات من مجلة أزياء قديمة تحمل وجها لفتاة، بعيون زرقاء وجديلة شعر، شقراء.



وأمام دهشة صديقي حسن، أطل عبد الرحيم، وقبل أن تمر الدقائق الثلاث الأولى، يمسك في يده قارورة الماء ويبتسم، بما يشبه الاعتذار.

تاملت الرجل اللغز، ودققت في هيئته، مرة أخرى , محاولاً قراءة تقاسيم وجهه ... رجل أربعيني بملامح سمراء هادئة وأصابع من تعب , جرحها التطواف بلا هدف .

وقفت وحسن إلى جانبه وهاتفت زياد خداش .. وأثناء مكالمتي , عاد الرجل اللغز إلى همسه : فاين جيب فاين .. فاين جيب فاين , هو لا يرمي إلى شيء ، هو يبيع ليديه ، بضاعة لفظتها البيوت واستقرت في سلال القمامة , يجمعها أول النهار ، ثم يأتي بها يومياً , يعرضها أمام مطعم هاشم , بلا هدف مسبق للبيع , إنه يعرف هذا جيدا , لكنه يصر على همسه , غير مكترث بالمارة ... فاين جيب فاين..فاين جيب فاين ، لحظات وكنا ندخل المطعم صديقي إلى جانبي ، يرحب بنا النادل ، وأنا اهمس لنفسي فاين جيب فاين .. فاين جيب فاين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى